كتاب عربي 21

حدث في العيد

جمال الجمل
1300x600
1300x600
(1)
قالت نهى:

لا تظن أن قول الحقيقة سوف يقرّبك من الناس.. الناس تحبّ وتكافئ من يستطيع تخديرها بالأوهام.. منذ القدم تعاقب الحشود أي فرد يقول الحقيقة.. إذا أردت البقاء مع الناس شاركها أوهامها.. الحقيقة يقولها من يرغبون في الرحيل.

(2)
نهى مترجمة شابة ذات نزعة مثالية وسلوك أخلاقي، قبل أسابيع قدمت استقالتها من العمل في دولة خليجية، احتجاجا على "العبودية العصرية"، وانتصارا لذاتها، وعادت إلى فراغ مصر المهول تحتمي بالقراءة والترجمة الحرة بلا عقود مسبقة تضمن النشر. والمقتطف الذي نشرته نهى على حسابها في موقع التواصل ليس من تأليفها، لكنه ترجمة لكلام الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشة..

لا أعرف معلومة محددة عن مناسبة النشر ومقصد الرسالة، لكن القول واكب موجة الاحتفاء الشعبي العام بصورة حشود المصلين التي ملأت ساحة كبيرة شرقي القاهرة، اعتبرها المرحبون رسالة سياسية ضد وزير الأوقاف الذي ظل يحاصر الأداء الجمعي للشعائر طيلة شهر رمضان، وذهب آخرون إلى اعتبارها إنذارا سياسيا شديد اللهجة للنظام كله، على خلفية دعوة سابقة بتنظيم مظاهرات احتجاجية عارمة تحت عنوان "ثورة العيد.
موجة الاحتفاء الشعبي العام بصورة حشود المصلين التي ملأت ساحة كبيرة شرقي القاهرة، اعتبرها المرحبون رسالة سياسية ضد وزير الأوقاف الذي ظل يحاصر الأداء الجمعي للشعائر طيلة شهر رمضان، وذهب آخرون إلى اعتبارها إنذارا سياسيا شديد اللهجة للنظام كله

على الجانب المقابل كان هناك من ينظر إلى الصورة في مظهرها الاحتفالي الخالي تماما من أي أهداف سياسية لا حقة. ومن هنا يأتي الصدام بين الرأي العام الكاسح الذي يرى في الصورة إشارات لقوة شعبية هائلة ضد النظام، ومن يراها بلا توابع سياسية، ومن هنا دار نقاش من المفيد التعرف على اتجاهاته وخلفياته.

(3)
كتب أحدهم: صلاة العيد اليوم "بصقة شعب" في وجه نظام حاكم.

أضاف آخر: فعلا.. مشهد مهيب لم نشاهد مثله منذ ثورة يناير.

رد معارض: بلاش مبالغة، دول حشود بلا مضمون ولا ثقافة.. عصاية تفرقهم.

وقف آخر في المنتصف: ليست هناك رسالة سياسية ولا دينية كاملة، المشهد يتضمن جزئيات كثيرة جنب بعضها، فالرسالة ضد وزير الأوقاف أكثر من النظام، والمشهد يعبر عن "غريزة الاحتفال" أكثر من فكرة "قوة العقيدة".

وتساءل آخر: لدينا حشود جماهيرية هائلة ما شاء الله، لكنها لم تتعلم بعد أن تحمي حقوقها او ترد ظالما عن ظلمه، فهل هذا مؤقت؟ أم أنه "غثاء السيل" الذي حدثنا عنه الحبيب؟

قال آخر: عذرا على الصراحة الصادمة لتريند "وااااااو شوفت الحشود؟" المنتشر في بوستات العيد، المشهد يذكرني بقصيدة عبد المعطي حجازي "لا أحد" وهذا نصها وأترك لكم الاستنتاج:

رأيت نفسي أعبر الشارع، عاري الجسد.. أغض طرفي خجلا من عورتي.. ثم أمده لأستجدي التفاتا عابرا... نظرة اشفاق عليَ من أحد.. فلم أجد.

إذن.. لو أنني (لا قدر الله) أصبت بالجنون.. وسرت أبكي عاريا.. بلا حياء.. فلن يرد واحد عليَ أطراف الرداء..

لو أنني (لا قدر الله) سُجنتُ، ثم عدت جائعاً.. يمنعني من السؤال الكبرياء.. فلن يرد بعض جوعي واحد من هؤلاء..

هذا الزحام لا أحد..

(4)
في المساء نشر واحد من المتحمسين للرسالة السياسية التي تضمنها مشهد صلاة العيد صورة لحشود المصلين في ميدان الجامع الكبير بموسكو، المشهور باسم "مسكوفسكيا سَبورنايا مِتشيت"؛ حشود كبيرة تملأ ميدان أولمبسكي قرب الاستاد الأولمبي. ووسط الانبهار بالصورة سجل أحد الظرفاء المناكفين تعليقا في هجمة مرتدة قال فيها: دول كمان خرجوا نكاية في بوتين ووزير الأوقاف الروسي؟!

وتغير الحال عندما استشهد أحد المثقفين الإسلاميين المعروفين بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: "توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.

فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذ؟

قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهَن..".

بعد الجديث الشريف صلى المؤيدون والمعارضون على النبي الكريم وبدأوا يميلون لاتجاه "الفئة القليلة" التي تغلب "الكثرة الفارغة"، وكتب أحد المؤيدين السابقين: "ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم.." متراجعا باقتناع عن حماسه السابق لرسالة الإنذار السياسي للنظام في مشهد صلاة العيد.
قرارات فض التجمعات جعلت الناس متشوقة للاحتفال، ولما عاد أضفت عليه بعض التصورات المبالغ فيها. وهذا ليس مشكلة كبيرة، إلا إذا ذهبت التأويلات إلى تخيلات ذهانية تكشف عن مشاكل نفسية أو سياسية كامنة، او تتوهم انتصارات كبيرة لتعويض هزائم وعجز في الواقع الفعلي

(5)
الهدف من استعراض الآراء حول صورة الحشد، ليس الانتصار لوجهة نظر ضد أخرى، خاصة وأن الأعداد الكبيرة في صلاة العيد لم تختف من مصر إلا في العامين الأخيرين بسبب وباء كوفيد- 19، وليس لأسباب سياسية. ولعلنا نتذكر مشاهد الحشود والاحتفالات طوال السنوات الماضية في ميدان مصطفى محمود أو ميدان عابدين وأماكن أخرى، لكن قرارات فض التجمعات جعلت الناس متشوقة للاحتفال، ولما عاد أضفت عليه بعض التصورات المبالغ فيها. وهذا ليس مشكلة كبيرة، إلا إذا ذهبت التأويلات إلى تخيلات ذهانية تكشف عن مشاكل نفسية أو سياسية كامنة، او تتوهم انتصارات كبيرة لتعويض هزائم وعجز في الواقع الفعلي. فالزحام في الأسواق والمولات والاحتفالات ليس هو "الحشد السياسي"، كما أن كلمة "الناس" لا تعني مصطلح "الشعب" بمفهومه السياسي الذي يمسك بدستور ويملك إرادة يحمي بها حقوقه ومصالحه..

(6)
الفرح بالزحام تقليد تاريخي في مصر التي تركت بساط جغرافيتها الواسع وحشرت سكانها في شريط مركزي على ضفتي النيل، وبالتالي يشعر المصري بالخوف من الفراغ والوحدة، ويشعر بالأمان والونس في الزحام. وهذا رد فعل طبيعي مرتبط بشخصيته التاريخية، ومن هنا يبدو الاحتفاء بالمشهد مفهوم وإنساني، لكن المشكلة تظهر حينما يتم تأويل المشهد سياسيا بحيث يحل محل "ثورة العيد" التي بشرت المعارضين بالخروج على النظام في مظاهرات عارمة عقب صلاة العيد، ولما لم يحدث شيء من الهدف السياسي المطروح، خرجت الأصوات التعويضية: شوفتوا الجماهير أد إيه؟.. لقد أرعبنا النظام.. هذا المشهد بروفة للثورة.. عشان كده السيسي بيقدم تنازلات وخايف.. إلخ.
لا أعترض على تأويل الأحداث والمشاهد لهدف أو اتجاه يساعد على دعم الذات وتقوية الصف، بشرط أن يكون هناك وعي بذلك في الجرعة وفي المقصد، وهو ما يعرف في علوم الطب والفارما والنفس باسم "بلاسيبو"

(7)
لا أعترض على تأويل الأحداث والمشاهد لهدف أو اتجاه يساعد على دعم الذات وتقوية الصف، بشرط أن يكون هناك وعي بذلك في الجرعة وفي المقصد، وهو ما يعرف في علوم الطب والفارما والنفس باسم "بلاسيبو" أي إمكانية إعطاء المريض دواء عبارة عن ماء مقطر، لإيهامه بأنه يتلقى علاجا مفيدا في أمراض ليس لها دواء. وقد أثبتت الدراسات أن "العلاج الوهمي" يحقق الكثير من النتائج الإيجابية ويرفع مناعة المريض ومعنوياته، ويساعده على مواجهة مرضه وضعفه، أفضل من انتظار دواء لم يتم اختراعه بعد..

لكن هناك فارق بين تعاطي الأدوية الوهمية بطريقة البلاسيبو، وبين تعاطي المخدرات (فارق في الجرعة وفي المحتوى وفي النتيجة)، الأول أسلوب علمي مقبول له حدوده وأسبابه، ويعترف بأن الأمراض التي لا يتوفر لها علاج اليوم قد يتوفر لها علاج غداً، وبالتالي يعمل العلماء من أجل تقريب هذا الغد، ولا يتصرفون كأن الغد جاء، وأن "العلاج الوهمي" هو "علاج حقيقي"، أما التصرف الثاني فينقلنا إلى التغييب وتصور الراحة في تعاطي المخدرات، مما يؤدي إلى تدمير تخريبي للأفراد والجماعات، ويقلل من فرصة وصولنا إلى الدواء السليم في الغد، لأن تعاطي المخدرات لا يفضي بالمتعاطي إلى مستقبل جيد..

أدعو الله بالخير والصلاح والهدي والاعتدال.

وكل عام وأنتم بخير.

[email protected]
التعليقات (1)
حمدى مرجان
الأربعاء، 04-05-2022 02:17 م
كان الحشد سياسي بامتياز ، ولم تر مثله في اى انتخابات للسيسي ، وكانت الاستعدادات كاملة علي الجانبين ، ولذلك كان بيان " المختار بن جمعة " منع الساحات حتي لا يجدوا مكانا للحماية من الشرطة والاغرب " منع الاطفال حتي لا يتعرضوا للغازات بانواعها وللرصاص بانواعه ، وتفضحهم المشاهد المصورة ،، الاجماع في حد ذاته علي شئ والتجمع من اجله كفيل بان يرتقى بصاحبه الي السمو وينقله في لحظة التسامي ، من الانانية الفردية الي تحمل المسئولية كاملة من الشعب وعنه ، عندما لا تجد ما تفكر فيه ، فليس معناه ان الشعب قد استسلم للهوان والدل والكبت الذى يعيشه ، مع توافر كل هذه الدوافع للثورة ، فان هناك حدود للتحمل والصبر ، انتظارة للشراراة والاشارة