قضايا وآراء

الحَربُ وشُرُورُها.. إلى مَتى يَبقَى الإِنسانُ عَدوَّاً لِأخيهِ الإِنسان؟

علي عقلة عرسان
1300x600
1300x600

هل كانت الولايات المتحدة الأمريكية تستدرج روسيا إلى مستنقع في أوكرانيا، تصنع وحله هي وحلفاؤها الأوروبيون وحلف الناتو، لا سيما بعد ضمها لشبه جزيرة القرم عام ٢٠١٤؟! أم أن روسيا اضطرت لشن حرب استباقية على أوكرانيا، بذريعة حماية الروس "الأرثوذوكس" في الدونباس ولوغانسك، ومنعاً لمصير سيء محتمل نتيجة لزحف الناتو على حدودها، وتركيزه على أوكرانيا الدولة القوية التي خرجت من حضن روسيا وتسعى للانضمام إليه وللاتحاد الأوروبي..؟! 

كل هذا كان وما زال متداولاً في ظل حرب تنذر بأكبر منها لا سمح الله، وكانت تنذر به السنوات والشهور والأسابيع التي سبقت شن موسكو حربها على كييف التي كانت تركض نحو الغرب الذي يحتضنها ويحرضها ويزودها بالسلاح. لقد أعلنت روسيا أهدافها من الحرب وبلورتها في: "تدمير البنية التحتية والقدرة العسكرية لأوكرانيا، والسيطرة على مفاعلاتها النووية ومخزونها من الطاقة النووية، وتجريدها من السلاح، ومنعها من الانضمام للناتو، واعترافها بشبه جزيرة القرم روسية، وبدونتسك ولوغانتسك جمهوريتين مستقلتين، والقضاء على النازية التي ترفع رأسها فيها". ويبدو أن أوكرانيا مهمة جداً لكل من الغرب وموسكو اللذين لكل منهما استراتيجيات ومصالح وأهداف كبرى عابرة للقارات، ومطالب وأسباب وأساليب لا تطال بالأنياب والمخالب بل بالحروب وأسلحتها وأشكالها وإلوانها.

لقد شنَّتت موسكو حرباً عسكرية على أوكرانيا فتوحد الغرب بمواجهتها بعقوبات غير مسبوقة، وحرب سياسية ـ اقتصادية ـ إعلامية ـ دبلوماسية فعالة ومكثفة وسريعة، وأغدق السلاح والمال والدعم على أوكرانيا.. فقدمت الولايات المتحدة الأمريكية ستة مليارات ونصف المليار دولار منها مليار دولار تدفع فوراً، ومساعدات عسكرية لم تنقطع، وقدم الاتحاد الأوروبي مليار ومئتي مليون يورو لأوكرانيا، بموجب اتفاق بينهما أعلن عنه في ٣ آذار (مارس) ٢٠٢٢، عدا المساعدات العسكرية التي أرسلت على عجل من الدول الأوروبية كل على حدة بمبادرة منها، وهبت كلها وجندت المنظمات الدولية المعنية وتكفلت معها بعبء اللاجئين الأوكران. 

واستنفر مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة ومؤسساتها ووقف العالم على قدم وساق، وخلال الأسبوع الأول من الحرب عقد المجلس اجتماعين والهيئة العامة للأمم المتحدة اجتماعاً تحت بند "من أجل السلام" وصوتت ١٤٠ دولة من أصل ١٩٣ ضد روسيا التي صوتت إلى جانبها أربع دول فقط إضافة إلى صوتها.. و.. وكل هذا فعل جيد ضد الحرب ومن أجل وقفها وعدم انتشارها وحفاظاً على سيادة الدول وأمن البشر.. لكن هذه الوقفة الدولية ضد الحرب والعدوان ومن أجل البشر لم تُتَح لدول وشعوب شُنَّت عليها حروب عدوانية مدمرة وتعرضت للإبادة من دول كبرى وأدوات لها ومن تحالفات دولية، وتعرضت لكوارث ماحقة، وشُرِّدت شعوبها وتعرضت للتمييز العنصري وللإبادة الجماعية، منها: فلسطين والبوسنة ورواندا والعراق وسوريا وليبيا واليمن ودول أخرى في قارات آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتعرضت لها أقليات منها الروهينغا في ميانمار والإيغور في الصين، بينما ظل مجلس الأمن الدولي لا مبالياً أو معطلاً أو متفرجاً، وبقيت الأمم المتحدة وهيئاتها تزحف زحف السلحفاة لتصل إلى المنكوبين، إن وصلت بعد فوات الأوان، بينما نيران الحرب تستعر، والقتل يستحر، والمآسي تنتشر، والكوارث تستمر طوال سنوات وسنوات.

لقد كان الغرب موحداً ومستعداً ومستنفراً، في هذه المواجهة بين الغرب ورسيا الاتحادية وفي مناصرته لأوكرانيا الشعب والدولة، والعالم متعاوناً وسريع الآداء. وهذا موقف بمجمله جيد كما أسلفت، لكن العالم ذاته، شرقه وغربه، متبوعه وتابعه، كان غير مبال بمصير دول وسيادتها، وشعوب ومعاناتها، وأقليات ووجودها بينما كانت تكتسحها حروب عدوانية بوحشية.. كان العالم يرى ويلات الحروب ويسمع الأنين ويظلُّ معطل الطاقة والفعالية حيال: العدوان والعنصرية والأبارتايد، حيال الصهيونية ـ النازية المتجددة، والتعصب "العرقي ـ القومي ـ الديني ـ الطائفي ـ المذهبي؟!".. كان العالم يرى ويسمع والحرب تطحن دولاً وشعوباً وتسيل دماء البشر.

 

لقد كان الغرب موحداً ومستعداً ومستنفراً، في هذه المواجهة بين الغرب ورسيا الاتحادية وفي مناصرته لأوكرانيا الشعب والدولة، والعالم متعاوناً وسريع الآداء. وهذا موقف بمجمله جيد كما أسلفت، لكن العالم ذاته، شرقه وغربه، متبوعه وتابعه، كان غير مبال بمصير دول وسيادتها، وشعوب ومعاناتها، وأقليات ووجودها بينما كانت تكتسحها حروب عدوانية بوحشية..

 



الحرب تحمل في طياتها الكوارث، وضحاياها هم الأبرياء والضعفاء بالدرجة الأولى، والدول والبلدان والشعوب المظلومة المضطهدة المنكوبة بأشكال من النكبات وعلى رأسها نكبة التمييز العنصري المفروضة عليها والاستهداف الموجه ضدها. كانت هناك شعوب ودول وبلدان تحتاج لردع العدوان عليها ومساعدتها للدفاع عن نفسها، وحماية الإنسان فيها.. لكنها لم تكن تجد شيئاً من ذلك في ظل التمييز والاستعمار والتكتلات والتحالفات الدولية وازدواجية المعايير و.. و… ومن منا لا يتذكر وحشية العدوان الإسرائيلي المتكرر على غزة والحصار الصهيوني العنصري لشعبها المستهدف بالإبادة، من دون فرصة لجوء إلى مكان فيه رائحة أمن، ومن لا يتذكر موقف الدول العظمى والمنظمات الدولية من غزة خاصة والشعب الفلسطيني عامة الذي يتعرض للإبادة على أيدي الإرهابيين العنصرين الصهاينة بوحشية الأفظع من النازية بكثير.. كان يحدث هذا ويبقى مجلس الأمن الدولي معطل الفعالية، والأمم المتحدة غائبة أو مغيَّبَة، والغرب وغيره من دول يتهم الفلسطينيين، ضحايا الاحتلال الصهيوني العنصري، بالإرهاب، ويسوغ "لإسرائيل" إبادتهم، وكانت تمنع عنهم المساعدات الإنسانية، ويبقون تحت أنقاض بيوتهم المدمرة فوق رؤوسهم حتى الموت.
 
وعلى من لا يتذكر أو لا يريد أن يتذكر أن يواجه وقائع تحرض ضميره وحسه الإنساني على اليقظة وتحمل المسؤولية والقيام بالفعل العادل المنقذ..

حين شنت "إسرائيل" عدوانها الأخير على غزة في أيار/ مايو ٢٠٢١ وألحقت بها دماراً هائلاً، وقتلت المئات من أبناء الشعب الفلسطيني المحاصرين فيها منذ سنوات وسنوات، لم يتحرك مجلس الأمن الدولي ولم تدن دول عظمى ودول أخرى كثيرة العدوان، بل على العكس أيدت الإرهاب الصهيوني واتهمت المحاصرين المعتدى عليهم والمحتُ وطنهم فلسطين بالإرهاب، ولم تقدم خدمات إنسانية للفلسطينيين وأدانت الضحايا وأيدت المعتدين، وقدمت مساعدات عسكرية لدولة الإرهاب والعنصرية والاحتلال "إسرائيل". 

أربع دول أوروبية "ألمانيا، وتشيكيا، وليتوانيا، وإستونيا"، أرسلت وزراء خارجيتها يوم الخميس ٢٠/٥/٢٠٢١ لدعم إسرائيل في عدوانها على الشعب الفلسطيني المحاصر في غزة. وأكدت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل تنديدها الشديد باستمرار إطلاق الصواريخ من قطاع غزة وتضامن الحكومة الألمانية مع إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها"، وأعاد نشره شتيفن زايبرت المتحدث باسمها للتأكيد. وطلبت إدارة بايدن من الكونغرس في ٣/٦/٢٠٢١ المصادقة على حزمة مساعدات عسكرية لإسرائيل قيمتها مليار و200 مليون دولار، وقدمت أسلحة لإسرائيل بقيمة 735 مليون دولار الجزء الأكبر منها قذائف عالية الدقة.". 

واعتبر الإرهابي المجرم نتنياهو أنه "إذا اعتقدت حماس أنها تنتصر فهذه هزيمة لنا كلنا، للغرب بأسره."/ ١٩/٥/٢٠٢١. فوقف الغرب خاصة وكثير من دول العالم مع الاحتلال الصهيوني ودولة التمييز العنصري والعدوان والإرهاب.. واكتفى الرئيس بوتن النقيض للغرب الإمبريالي، اكتفى بإبداء القلق على طريقة "الأمين العام للأمم المتحدة، وساوى بين المعتدي والمعتدَى عليه فقال: "نتابع بقلق التصعيد الحاد في الشرق الأوسط وندعو الطرفين إلى وضع حد للعنف المتبادل.".. فأي عنف متبادل بين دولة نووية مدججة بأحدث أنواع السلاح، وشعب أعزل محاصر يرزح تحت الاحتلال ويُستَنزَف منذ أكثر من خمس وسبعين سنة؟!
 
حدثَ هذا حين كانت الدموع في عيون الفلسطينيات في غزة تعيد تسجيل تاريخ من الحزن والصبر والقهر، وكانت الدماء تسيل، والدمار سيد الموقف، ولا مَن يعين..  هناك وفي ذلك الوقت حدث هذا.. وحين أعلنت منسقة الشؤون الإنسانية في ٩/٦/٢٠٢١ أن "400 ألف شخص في غزة يحتاجون إلى العلاج وأكثر من 800 ألف لا يحصلون على المياه" لم يلق الإعلان استجابة وازداد الحصار وازدادت المآسي. 

 

كان العالم يرى ويلات الحروب ويسمع الأنين ويظلُّ معطل الطاقة والفعالية حيال: العدوان والعنصرية والأبارتايد، حيال الصهيونية ـ النازية المتجددة، والتعصب "العرقي ـ القومي ـ الديني ـ الطائفي ـ المذهبي؟!".. كان العالم يرى ويسمع والحرب تطحن دولاً وشعوباً وتسيل دماء البشر.

 



وحين كان الشعب الفلسطيني يئن تحت الاضطهاد والتمييز العنصري وأشكال الإبادة في كل فلسطين المحتلة وقالت منظمة العفو الدولية: "على السلطات الإسرائيلية إنهاء تمييزها الممنهج ضد الفلسطينيين وقمعها المنظم لهم." لم يصغ العالم ولم تتحرك إنسانيته، ورفضت الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا والنمسا وبريطانيا فتح تحقيق دولي في انتهاك إسرائيل لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، وأيد الغرب رفض كيان الإرهاب "إسرائيل" لقرار مجلس حقوق الإنسان وإعلانها أنها لن تتعاون مع التحقيق".؟!
 
وفي مقلب آخر من الأحداث المؤلمة المؤسفة علينا أن نتذكر ونذكر بأن اللاجئين من بلدان عربية وإفريقية وآسيوية، تعرضت لعدوان وحشي من الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية وأكرانيا ومن روسيا وغيرها من الدول الداخلة في تحالفات عدوانية أو الطامعة أو المتواطئة مع العدوان، منها العراق وسوريا على الخصوص.. أن أولئك اللاجئين الفارين من الموت، كان يتاجر بهم، ويموتون في الصحاري، ويغرقون في البحار ولا يصلون إلى بلد لجوء. ومن يصل منهم إلى بلد لجوء أوروبي بعد معاناة طويلة، يحتجز في معسكر اعتقال لأشهر ريثما ينظر في طلبه الذي قد يقبل وقد يرفض، ويعامل في أثناء الاحتجاز معاملة سيئة، ويبقى في لُجج القلق تتقاذفه المواجع.. 

وبعد التذكر والتذكير نقارن وضع أولئك بوضع اللاجئين الأوكرانيين الذين فروا خلال الأسبوع الأول من الحرب الروسية على بلدهم، فإذا قارنا نجد تمييزاً بغيضاً وفرقاً شاسعاً في المعاملة.. فقد رحبت أوروبا كلها باللاجئين الأوكرانيين، وتلقوا تسهيلات ومساعدات شملت تغطية شاملة لأوضاعهم، وعناية ملموسة بهم، ونقلاً مجانياً لهم إلى البلدان التي يرغبون في الذهاب إليها، ومُنح الواحدُ منهم ثلاث سنوات إقامة دون وثائق.. كل هذا وغيره كثير حصل في الأسبوع الأول من الحرب، وهو أمر يشكر عليه مقدموه وكل فرد بادر إليه فهو جانب إنساني يستحق التقدير.. لكن الأوروبيين أنفسهم الذين قدموا هذه الخدمات والمساعدات الممتازة لأوروبيين، هم الأوكران في هذه الحالة، كانوا غير مبالين بإنسانية لاجئين من بلدان عربية وإفريقية وآسيوية كانوا في أوكرانيا، أكثرهم من الطلبة، حيث تعرض هؤلاء لتمييز عنصري بغيض، لا سيما من البولنديين على الحدود الأوكرانية ـ البولندية، حيث كانوا يمنعون من ركوب القطارات من مدينة لفيف الأوكرانية إلى بولندا، ولم تقدم لهم مساعدات ولا تسهيلات، وتعرض بعضهم للابتزاز والعنف، ولم يسمح لمن يصل منهم بطريقة ما إلى بولندا أو غيرها من بلدان الجوار الأوكراني بالبقاء في البلد أكثر من خمسة عشر يوماً رُفعت بعد احتجاجات وتدخل دولهم إلى ثلاثة وخمسين يوماً.

نعرف أنه في كل حرب تحدث مآسٍ ولكن التمييز كريه، وفي كل حرب تظهر وحشية مفرطة عند بعض من يخوضونها، ويحل بؤس شديد بمن تفرض عليهم أو يقعون في طريقها.. وكل من يسلك طريق الحرب أو يقع في طريقها يتعرض لتغيير نابع من ذاته أو مفروض عليه بسببها، يتوحش، يقتُل، يدمِّر، يفقد إنسانيته أو يُقْتَل، يُعوَّق، يُشوَّه، يُشرَّد، يهان وتصبح إنسانيته عبئاً عليه.. الحرب بغيضة، كريهة، مكلفة وتخلق الوحوش والمآسي وتجدد أزمات أكثر مما تحل من أزمات، ويكتوي بنارها كل من يخوضها سواء أكان معتدياً باغياً طامعاً، أو مدافعاً عن نفسه وأهله وشعبه وبلده من عدوان وبغي وطمع، أو من يخوضها تحريراً من احتلال أو ثأراً لما كان في تاريخ ومكان.. 

في الحروب كذب وخداع ومكر وفيها كلُّ ما يُذم.. فتنتج الموت والدمار، وانهيارات في العمران والاقتصاد والقيم والأخلاق.. وإذا ما انتصر فيها الأقوياء الطغاة البغاة والمجرمون الكبار فإنهم يمحقون الحقيقة والعدل والحرية وإنسانية الإنسان، ويرفعون أنفسهم ويرتفعون بنظر كثيرين غيرهم إلى مستوى البطولة ويتحكمون بالناس ويغيرون المفاهيم ويكتبون التاريخ. 

هذه كلها أمورٌ في عالمنا، تحكمنا وتتحكم بنا، ونعاني منها.. وهي مما يؤسف له، ويثير أسئلة قديمة جديدة مقلقة ومرهقة منها: إلى متى التمييز ولمَ، أليس الدم البشري متساوياً؟! وإلى متى تبقى القوة الظالمة العمياء حاكمة ومتحكمة بالبشر والدول والشعوب، ونابذة للعدل، ومزدوجة المعايير، تشوِّه القيم والمفاهيم والأحكام والمعايير والوقائع والحقائق والتاريخ.. وإلى متى يبقى الإنسان ضحية الإنسان، غافلاً عن إنسانيته، وعدواً لأخيه الإنسان؟!.


التعليقات (0)