قُبيل التوقيع النهائي على الاتفاق الإطاري الذي يُسلِّم
فيه العسكريون
السودانيون السلطة للمدنيين، ويعودون إلى ثكناتهم جيشا يحمي الدولة
والأرض والوطن والشعب والسيادة، ولا يتدخل في السياسة، ويأتمِرُ بأمر حكومة شرعية..
نشأ خلاف بين الجيش والدعم السريع، الفريقان
حميدتي والبرهان، على المدة التي
يستغرقها ضم قوة الدعم السريع إلى الجيش وعلى تفاصيل فنية أخرى.. وعطل ذلك
الاختلاف التوقيع النهائي على الاتفاق الإطاري.
ولم يكن ذلك بلا دفعٍ وتأثير داخليِّ وإقليميٍّ وخارجي،
وبلا تغذية لنزعة تفرد بالسلطة، وتوافق بين حميدتي والكتلة الديمقراطية في الحرية
والتغيير، التي بقيت خارج الاتفاق وأعلنت معارضتها له ومطالبتها بتغييره.
ويبدو أن الفريق حميدتي أُغرِيَ ووعد بالإمداد
والمُناصَرة والتأييد من أطراف دول وأطراف داخلية وخارجية، وقُرِّب له ما تزيِّنه
له نفسُه، ورأى أنه قاب قوسين أو أدنى من أن يكون هو رأس السلطة في البلاد، ويكون
حلفاؤه الجدد الحكومة المدنية والسلطة المهيمنة، فبدأ العمل على انقلاب على الفريق أول
البرهان،
مستهينا به وبردة فعل الجيش السوداني، الذي يرى أن قوة الدَّعم السريع موازية له،
وأنه يمكن تحييد قوته الجوية فينجح فيما خطط له. فدفع مئة سيارة مصفحة محمَّلة
بجنوده إلى مَرَوي ليبدأ من مطارها القيام بالتغيير الشامل، معولا على دعم خارجي
يصل إليه عبر ذلك المطار، وهاجم دار البرهان ومقر القيادة ومطار الخرطوم، وتمركز في
القصر الجمهوري في مبنى الإذاعة والتلفزيون، وفي غيرهما من المراكز وسط الخرطوم. وبدأت
المعارك في العاصمة كما هو معروف، وأعلن البرهان أنه حين يُقبض على حميدتي
سيحاكم، وأعلن حميدتي أن البرهان، ذلك "الزُّول" بتعبير أشقائنا أهل
السودان"، يجب أن يزول من المشهد السياسي ويسلم للمحاكم الدولية.
وبدأت معاناة الشعب السوداني الرهيبة، وبدأت الاتهامات
المُتَبادَلة، وبدأ التضليل المدروس لتضييع الحقيقة، واللعب على الحبال التي
تقطَّعت أو كادت، حبال "الوطن والديمقراطية والهُدَن، وتدخل الأحزاب من يمين ويسار، ووقوف أطراف إلى جانب كل
من الجيش والدعم"، ووصل الأمر إلى أن نادى الفريق حميدتي بالتدخل الخارجي في
الشأن السوداني بالقوة العسكرية، أية قوة عسكرية، سواء أكانت قوة حلف أو دولة أو
مليشيا أو شركة قتل مثل بلاك ووتر وفاغنر. وتوجه يوم ٢٤/٢٥ نيسان/ أبريل ٢٠٢٣ إلى "إسرائيل" بقوله؛ إنه يتعرض "لما تتعرض له هي وشعبها من
إرهاب إسلامي على يد حماس والجهاد الإسلامي"! متهما فلول النظام البائد بأنهم وراء البرهان، وأن في الجيش مَن
هم من فلول النظام البائد ويريدون العودة إلى السلطة، وأن حزب البشير المنحل هو
سبب كل ما يجري.
بدأت معاناة الشعب السوداني الرهيبة، وبدأت الاتهامات المُتَبادَلة، وبدأ التضليل المدروس لتضييع الحقيقة، واللعب على الحبال التي تقطَّعت أو كادت، حبال "الوطن والديمقراطية والهُدَن، وتدخل الأحزاب من يمين ويسار، ووقوف أطراف إلى جانب كل من الجيش والدعم"، ووصل الأمر إلى أن نادى الفريق حميدتي بالتدخل الخارجي في الشأن السوداني بالقوة العسكرية، أية قوة عسكرية، سواء أكانت قوة حلف أو دولة أو مليشيا أو شركة قتل.
وفي خضم المواجهة العسكرية التي قرر فيها الجيش السوداني
أن يواجه تمرد قوة رديفة له، خرجت عليه ويتوجب إنهاء تمردها، اتهم حميدتي قادة
وضباطا في الجيش السوداني بأنهم من حزب البشير، وأنهم يريدون إعادة الحكم البائد،
وأن الجيش وراء إطلاق المساجين من السجون، وبينهم رموز من النظام السابق، الأمر
الذي نفاه الجيش، وأعلنت وزارة الداخلية السودانية أن قوة الدعم السريع هي التي
هاجمت السجون، وأطلقت ما لا يقل عن عشرين ألف سجين من أربعة سجون في العاصمة
الخرطوم، ومن سجن في دارفور أو في كردفان.
ومن الجدير بالأهمية التوقف عند تهمة أو موقف أو واقعة، هي أنه إذا كان هناك قادة وضباط وصف ضباط وجنود في الجيش السوداني، يرون أن الفريق
حميدتي يتمدد وأن قوة التدخل السريع ترى نفسها جيشا موازيا وليست قوة رديفة
تأتمر بأمر الجيش السوداني وقادته، ورفضوا ذلك وقرروا رفض هُدنة مع قوة متمردة
تكون لصالحها وتفضي إلى تفاوض يبقي في السودان جيشين وحاكمين وفريقين متناحرين لا
يثق أحدهما بالآخر، وخرجوا على ما يفضي إلى بقاء العلَّة قائمة وحاكمة، فإن هذا
أمر مفهوم وهو من طبيعة الأمور، فوجود جيش وقوة عسكرية مسلحة موازية له في بلد
واحد، هي وصفة لعدم الاستقرار ولإضعاف الوطن.
فجيش الوطن يجب أن يكون واحدا موحَّدا، ولا يجوز أن
يكون في بلد قائدان وحاكمان. فحتى لو كانا على مثال آلهة لاختلفا وانعكس ذلك على
الخلق، وقد قال تعالى: "مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ
مِنْ إِلَٰهٍ ۚ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ
عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ" (المؤمنون: 91)، وقال: "قُل
لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَّابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي
الْعَرْشِ سَبِيلا (الإسراء: 42). فلو
كان في بلد أكثر من حاكم يضع كل منهم نفسه في موضع إله لأفسدوه، فذلك لا يفسد
الأوطان فقط، بل يفسِد الأرض والسماء، مصداق قوله تعالى: "لَوْ كَانَ فِيهِمَا
آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا
يَصِفُونَ" (الأنبياء: 22).
إن المواجهة بين البرهان وحميدتي، بين الجيش السوداني
وقوة الدعم السريع، تتطور إلى الأسوأ والأخطر والمدمِّر والمُفجع، فإخلاء الدول
لدبلوماسييها ولرعاياها من السودان، وإغلاقها للسفارات والقنصليات، يشير إلى ما هو
أبعد من المرامي الإنسانية على ضرورتها وأهميتها، ويُقرأ في ضوء ذلك أن القتال
سيتصاعد، والتدخل الخارجي المعلن أو غير المعلن قادم.
فقد أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن أجلت دبلوماسييها
وبعض رعاياها، أنها سترسل قوة عسكرية إلى بورت سودان، وأعلن وزير الدفاع البريطاني
أن بلاده وضعت قوى عسكرية في بورت سودان وسترسل سفينة عسكرية، لانكستر، تحسبا لكل
الاحتمالات. وتلك بداية عدم استقرار ونُذر استعمار وخطوة استباقية، أو مزامنة لتحرك
فاغنر السودان من أماكن وجودها في دول أفريقية.
من الواضح أن السودانيين مقبلون على تصعيد القتال، وأن
الحرب الحامية في السودان ستنتشر نارها في دول أفريقية أخرى، وستُضري في القارة
حربا باردة، تنذر بلاهبة بين الدول الكبرى، التي تسعى إلى تحالفين ترتسم ملامحهما
في الأفق السياسي- الاقتصادي- العسكري الدولي؛ تحالف الناتو بأذرعه وأتباعه، وتحالف
روسيا الاتحادية والصين بأذرعه وأتباعه، وكل من ينضم إليهما من المستهدفين
بالانضمام من دول العالم.
من الواضح أن السودانيين مقبلون على تصعيد القتال، وأن الحرب الحامية في السودان ستنتشر نارها في دول أفريقية أخرى، وستُضري في القارة حربا باردة، تنذر بلاهبة بين الدول الكبرى، التي تسعى إلى تحالفين ترتسم ملامحهما في الأفق السياسي- الاقتصادي- العسكري الدولي.
والساحة الأفريقية التي بدأ التغالب عليها والتغالب فيها
بين الدول الكبرى، ستدخل معتركا صعبا داميا وكارثيا على شعوبها، وسيحاول
الاستعمار أن يعود إليها بأساليب جديدة وتحت مسميات مختلفة، وتبدأ هي شوطا جديدا من حركة التحرر من الاستغلال والتبعية والاستعمار الجديد. وهي تعي الآن ذاتها
وقدراتها وما يحيق بها أكثر من أي وقت مضى، وقد بدأت دول من دولها ترفع صوتها بوجه
العبودية والتبعية والاستعمار وتركته الثقيلة، وأصبح لها منظمة تحرص على الاستقلال
وعدم التدخل في شؤونها.
لقد دخلت الصين أفريقيا اقتصاديا، واكتسحت أسواقا،
وأخذت تبحث عن مرتكزات قوة وعن موانئ وقواعد، الأمر الذي استنفر الولايات المتحدة
الأمريكية أو أفزعها، ففتحت عيونها وآذانها من خلال القيادتين الأمريكيتين سنتكوم
وأفريكوم اللتين تشمل مهامها مصر والسودان وإريتريا وإثيوبيا وجيبوتي والصومال
وكينيا وسيشلومدغشقر و.. إلخ، وتتوزع قواتهما في بلدان أفريقية.
وعادت روسيا الاتحادية للحضور في أفريقيا بنشاط سياسي - دبلوماسي
واقتصادي ملحوظ في السنوات الأخيرة، وبقوة عسكرية غير مباشرة من خلال شركة فاغنر،
وهي تحدوها رغبة عارمة في الحصول على مواقع استراتيجية وموالين ونفوذ وقواعد وثروات
طبيعية، ولها من ذهب السودان أكبر نصيب.. وقد أخرجت دولا أفريقية من تحت عباءة
فرنسا منها مالي وتشاد وبوركينافاسو.. الأمر الذي جعل الرئيس ماكرون يركض إلى أفريقيا
ليرمِّم ما تخرَّب من علاقات، معلنا انفتاحا على سياسة جديدة مع مستعمرات فرنسا
القديمة.
العالم يتغير بسرعة كبيرة، والحرب الباردة قائمة سياسيا واقتصاديا، لا سيما في مجال الطاقة (النفط والغاز)، والتسابق على الأسواق،
ومحاولات تجاوز نفوذ الدولار، ومن خلال تبادل العقوبات والتصريحات. ولا يخفى أن
الاستعداد لمواجهات عسكرية محتملة بين الدول العُظمى موجود، فالحرب مستمرة في أوكرانيا
منذ أكثر من عام بين روسيا الاتحادية والناتو بقيادته الأمريكية وأعضائه
الأوروبيين، وهي محرك لانفجار أوسع ولاستقطاب واحتراب، وقد يتفجر الوضع في شرق
وجنوب شرق آسيا بين الولايات المتحدة والصين والمُفجِّر هو تايوان.
وبعد.. ما الذي ينتظر السودان؟ وما الذي يجري في أرضه
ونِيلَيه: أحرب أشقاء أم عبث أشقياء، أم تصفية لقوة عسكرية هي ثالث قوة أفريقية؟
أم هو تفريغ لدولة من كل ما يمثل القوة والقيادة والسيادة والاستقلال، ليشتد عليها
البلاء والابتلاء، وتُجْبَر على الولاء أو الابتلاع، وتسقط في سلة أحد المتصارعين
على أفريقيا وفيها، وتصبح ساحة مواجهة دولية ومفتاحا لجبهة في أفريقيا على غرار
جبهة روسيا والناتو، المستعرة نارها بين المتقاتلين في أوكرانيا؟ جبهة يرتع فيها
المرتزقة وتجار السلاح، ومنظمات أو شركات القتل والتدمير من أمثال بلاك ووتر الأمريكية
وفاغنر الروسية، وغيرهما من الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة التي عملت وتعمل في
دول عربية وأفريقية، وتتبع لدول أوروبية وآسيوية وحتى أفريقية، فتتوسع تلك
الجبهة، وتضع دولا عربية وأفريقية في مناخ اضطراب واحتراب يجبرها على الانحياز
إلى أحد القطبين الدوليين: "الأمريكي- الأوروبي، والروسي- الصيني"،
الساعيين إلى تحالفات عالمية، في عملية استقطاب واستحواذ يسعى إليها كل منهما
سياسيا واقتصاديا وأمنيا وعسكريا! أم هو تهديد مدروس لزعزعة الوحدة الجغرافية
والسكانية للسودان، بلد الشعب العربي الطيب، الذي هُو في كَبَد منذ عقود من الزمن؟!
في هذه المعركة، يلعب كل طرف ألاعيبه، وهي ليست مقبولة ولا معقولة، وليست في صالح السودان والشعب السوداني، ما دام يكتوي بنارها وتهدد وحدته وأرضه ومصيره، ولا هي في صالح أولئك الذين يتورطون ويورطون غيرهم ويحسبون حسابات الرجعة عندما يتقدمون ويحرضون على التقدم، ويقفزون فوق المسؤوليات والنكبات والمعاناة المروعة التي يعيشها الناس.
كل ذلك يمكن احتماله والتفكير به ووضعه أمام من ينظر إلى
ما يجري في السودان من مآس وكوارث حرب مجنونة، وتدمير وترويع وتجويع وفوضى عارمة
ونزوح وهجرة وتهجير، ومن تغييب تام لمصلحة الشعب والبلد، وغياب لصوت العقل
المدبِّر وحكم الضمير الحي والبصيرة الباصرة، لدى أولئك الذين يضعون السودان في
عين العاصفة، ويوردونه وأهله موارد التَّهلكة، ويفتحونه ساحة حرب عبثية يدفع ثمنها
السودانيون. أمَّا ما لا يمكن قبوله ولا التفكير به وآخر ما يُحتمل، فهو احتمال
أن يكون في تلك المواجهة العسكرية ما هو من أجل السودان والشعب السوداني، أو في
مصلحته ومصلحة الأمة العربية والدين/ الإسلام.
ففي هذه المعركة، يلعب كل طرف ألاعيبه، وهي ليست مقبولة
ولا معقولة، وليست في صالح السودان والشعب السوداني، ما دام يكتوي بنارها وتهدد
وحدته وأرضه ومصيره، ولا هي في صالح أولئك الذين يتورطون ويورطون غيرهم ويحسبون
حسابات الرجعة عندما يتقدمون ويحرضون على التقدم، ويقفزون فوق المسؤوليات والنكبات
والمعاناة المروعة التي يعيشها الناس؛ لأنهم من الخاسرين ومع الخاسرين، اللهم إلا
من كان منهم ديدنه أن يشعل الحرائق ويتدفَّأ على نار المحترقين بها، ولا يضيره أن
يتنفس رائحة شويط جثث ضحاياها، ولا يفتأ يردد أنه الوطن والوطنية، المُحرِّر
والحرية، الديمقراطية والإنسانية، والحرص الفادي والضحية..! ولك يا من تنظر وترى
أن تعجب لذلك ومنه إن شئت، أو أن تضحك أو تحزن، لا فرق في ذلك لا فرق، فقد ضاعت
الحقيقة، وتساوى الخير والشر بنظر كثيرين.
والله هو المستعان على كل الذين يعبثون بدماء الناس
الأبرياء، ويدمرون الدول والشعوب والبناء، ويقفون على أطلال العمران، ويعلنون أنهم
حماة الأوطان والقيم والإنسان!