ليلة الأحد الماضي ومن مقر وزارة الداخلية، أعلن الرئيس
التونسي قيس سعيد بـ"مرسوم شفوي"
حل المجلس الأعلى للقضاء، آمرا أعضاءه باعتبار مجلسهم في حكم الماضي. وبصرف النظر عن رمزية المكان الذي أعلن الرئيس قراره فيه -أي السمعة السيئة لوزارة الداخلية واستقواء الرئيس بها وبنقاباتها الأمنية التي تمردت على أحكام
القضاء في حق منظوريها أكثر من مرة - فإن الرئيس ينتقل بقراره من مرحلة "المراسيم المكتوبة" إلى مرحلة "المراسيم الشفوية" التي يريد أن تكون لها قوة القانون، بل قوة الدستور في "حالة الاستثناء" بعد أن حوّلها إلى "مرحلة انتقالية". إننا أمام توسيع لمنطق "التعليمات" التي تعوض الأوامر المكتوبة للمؤسسة الأمنية والإدارات وغيرها من المؤسسات الإعلامية العمومية.
رغم عدم وجود أية جهة رقابية يمكن الطعن أمامها في مراسيم الرئيس وقراراته "الشفوية" منذ أن حل الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، فإن هذا الرئيس لم يقم إلى حد كتابة هذا المقال بإصدار مرسوم بحل المجلس الأعلى للقضاء في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية. وهو ما يعني أن "منطق التعليمات" المرتبط بـ"المرسوم الشفوي" يعكس وعي الرئيس بخطورة هذا القرار، ولذلك ترك الرئيس لنفسه مجالا واسعا للتحرك والمناورة. فالاكتفاء بقرار شفوي يعطيه إمكانية التراجع في حال واجه مقاومة داخلية وضغطا خارجيا، أما إذا لم يكن رد الفعل قويا بالصورة التي تضطره إلى التراجع، فإنه سيصدر المرسوم ويمر إلى لحظة جديدة في حربه ضد "الأجسام الوسيطة" في الديمقراطية التمثيلية.
ترك الرئيس لنفسه مجالا واسعا للتحرك والمناورة. فالاكتفاء بقرار شفوي يعطيه إمكانية التراجع في حال واجه مقاومة داخلية وضغطا خارجيا، أما إذا لم يكن رد الفعل قويا بالصورة التي تضطره إلى التراجع، فإنه سيصدر المرسوم ويمر إلى لحظة جديدة في حربه ضد "الأجسام الوسيطة" في الديمقراطية التمثيلية
في مقالي المنشور الأسبوع الماضي، كنت قد استشرفت قرار الرئيس بحل المجلس الأعلى للقضاء بمناسبة
ذكرى اغتيال المرحوم شكري بلعيد القيادي في الجبهة الشعبية وأحد رموز العائلة الوطنية الديمقراطية؛ التي تسمى اختصارا بـ"الوطد"، والتي لا يخفى على أحد دورها الوظيفي في خدمة نطام المخلوع وورثته.
كما كنت قد ربطت هذا القرار بقرار متوقع آخر هو حل حركة
النهضة، أو على الأقل تهيئة الرأي العام المحلي والدولي لذلك. فقد أظهر الرئيس منذ وصوله إلى قصر قرطاج أن مشكلته الحقيقية ليست ضد "منظومة الفساد"، بل ضد حركة النهضة وحلفائها، وهو ما جعله يلتقي موضوعيا مع العديد من ورثة المنظومة القديمة، ومع بعض
القوى "الديمقراطية" من ممثلي
الاستئصال الناعم (الداعين إلى استهداف حركة النهضة سياسيا وإضعافها دون مواجهة أمنية مفتوحة معها؛ باستثمار ملف تمويل الحملات الانتخابية وقضايا الفساد) وممثلي الاستئصال الصلب (الداعين إلى تحويل حركة النهضة من ملف سياسي إلى ملف أمني باستثمار قضايا الإهاب والاغتيال السياسي).
رغم إصرار الرئيس على
مشروعه السياسي (الديمقراطية القاعدية أو المباشرة) الذي يتأسس على انتهاء الحاجة إلى الديمقراطية التمثيلية ووسائطها الحزبية وغيرها، فإنه لا يستطيع الذهاب في هذا المشروع إلى نهاياته (الاستفتاء الشعبي العام) إلا بالتحالف مع خصوم حركة النهضة، ممن يلتقون معه موضوعيا في مستوى المحاور الإقليمية (الميل إلى محور الثورات المضادة)، ويتقاسمون معه الرغبة في نظام رئاسي يُخرج السلطة من مجلس النواب الذي هيمنت عليه الحركة. لكن هؤلاء "الحلفاء" (وأغلبهم من رموز منطق الاستئصال الناعم والصلب وورثة المنظومة القديمة)، لا يوافقون الرئيس في احتكاره لإدارة حالة الاستثناء، وما يعنيه ذلك من تحكم في مخرجاتها التي ستضرب الأجسام الوسيطة كلها وتحولها إلى مجرد ديكور ديمقراطي، أو ستلغيها إذا ما نجح الرئيس في تمرير مشروعه السياسي القائم على شيطنة تلك الوسائط بدعوى أن الإرادة الشعبية تحتاج إلى أجسام وسيطة جديدة تمثّلها ولا تزيفها.
رغم إصرار الرئيس على مشروعه السياسي (الديمقراطية القاعدية أو المباشرة) الذي يتأسس على انتهاء الحاجة إلى الديمقراطية التمثيلية ووسائطها الحزبية وغيرها، فإنه لا يستطيع الذهاب في هذا المشروع إلى نهاياته (الاستفتاء الشعبي العام) إلا بالتحالف مع خصوم حركة النهضة، ممن يلتقون معه موضوعيا
لقد ذكرنا في أكثر من مقال سابق أن الرئيس لم يستهدف حركة النهضة باعتبارها "الموضوع المقصود"، بل باعتبارها "الموضوع المتاح" سياقيا. وتفسير ذلك هو أن الرئيس لم يستهدف حركة النهضة لأسباب أيديولوجية، أو لأسباب تتعلق برغبة حقيقية في مقاومة الفساد أو تفكيك ما يؤسسه من تشريعات ومن بنية ريعية زبونية للدولة، بل استهدفها لأنها الجسم الأقوى في المنظومة الحزبية المهيمنة في الديمقراطية التمثيلية وفي النظام البرلماني المعدّل. ولمّا كان الرئيس يطرح نفسه بديلا للمنظومة كلها ويعتبر مشروعه السياسي تجاوزا لأزمة الديمقراطية التمثيلية وما قامت به من انحراف عن استحقاقات الثورة وتزييف للوعي الجماعي، فإنه لم يفعل غير توظيف "المتاح" الذي تحكمه الصراعات الهوياتية، واستثمره لإيجاد حزام سياسي ونقابي وإعلامي ومدني مكّنه من تغيير "هيئة الحكم" والانفراد بالسلطتين التنفيذية والتشريعية منذ 25 تموز/ يوليو 2021، ومحاولة ضم السلطة القضائية إليهما باستهداف المجلس الأعلى للقضاء بدعوى محاربة الفساد.
بالإضافة إلى تحكّمه في السلطتين التنفيذية والتشريعية وسعيه للتحكم في السلطة القضائية، يتحكم الرئيس عبر منطق "التعليمات" في السلطة الرابعة، أي الإعلام خاصة العمومي منه، ويتحكم أيضا في السلطة الدينية بسيطرته على مؤسسة الإفتاء ووزارة الشؤون الدينية. ولكنّ الرئيس لا يستمد قوته من هذه السلطات فقط، بل يستمدها أساسا من "واقع متناقض" هو التقاؤه الموضوعي مع أغلب الأجسام الوسيطة في الديمقراطية التمثيلية؛ من أحزاب ونقابات ومجتمع مدني وإعلام. ونحن نتحدث عن "واقع متناقض" لأن مشروع الرئيس يقوم أساسا على إلغاء الحاجة إلى تلك الأجسام التي تقدم له الدعم في كل قراراته، كما نتحدث عن "واقع متناقض" لأن سلوك تلك الأجسام هو نوع من "الانتحار" أو "التدمير الذاتي" الذي لا يمكن أن يفسر إلا ببؤس الوعي وغلَبة منطق "عليّ وعلى أعدائي".
إضافة إلى تحكّمه في السلطتين التنفيذية والتشريعية وسعيه للتحكم في السلطة القضائية، يتحكم الرئيس عبر منطق "التعليمات" في السلطة الرابعة، أي الإعلام خاصة العمومي منه، ويتحكم أيضا في السلطة الدينية بسيطرته على مؤسسة الإفتاء ووزارة الشؤون الدينية. ولكنّ الرئيس لا يستمد قوته من هذه السلطات فقط، بل يستمدها أساسا من "واقع متناقض" هو التقاؤه الموضوعي مع أغلب الأجسام الوسيطة في الديمقراطية التمثيلية
ختاما، لا شك في أن الرئيس يريد حل حركة النهضة تمهيدا لضرب الوسائط كلها، على خلاف ما يتوهم أنصاره في الأحزاب والمركزية النقابية والمجتمع المدني؛ الذين يظنون أن عدوه هو حركة النهضة لا كل أشكال الوساطة في الديمقراطية التمثيلية. ولا شك أيضا في أن ردود الفعل الخارجية (سواء تلك التي صدرت من الولايات المتحدة أو من الاتحاد الأوروبي أو مجموعة السبع أو المفوضية السامية لحقوق الإنسان) لا يمكن أن تمثل ضغطا جديا على الرئيس، ولكنها قد تكبح جماحه في الانتقال إلى مرحلة المواجهة الأمنية المفتوحة مع حركة النهضة، وتداعياتها الممكنة على الأمن الإقليمي وعلى دور تونس في الاستراتيجيات الدولية لمواجهة التمددين الصيني والروسي في أفريقيا.
ولكنّ الرئيس يعلم جيدا أن أي
ضغط خارجي لن يكون ذا تأثير على
المشهد التونسي إلا بوجود جبهة معارضة قوية؛ تستثمر ذلك الضغط لتغيير موازين القوى. ونحن لا نشاهد في الواقع إلا "معارضات" مشتتة تتراوح بين الرغبة في المشاركة في إدارة "حالة الاستثناء" والاستفادة من مخرجاتها؛ وبين العجز عن تقديم بديل ذي مصداقية يتجاوز منظومة ما قبل 25 تموز/ يوليو والمنظومة الانقلابية على حد سواء، وهو ما قد يعني على الأرجح أن الرئيس لن يتراجع عن مشروعه (تغيير النظام السياسي والانتخابي وتعديل قانون الأحزاب أو حتى قانون الجمعيات)، ولكنه قد "يؤجل" حل حركة النهضة أو غيرها من الأجسام الوسيطة إلى ما بعد نجاحه في تمرير الاستفتاء الشعبي العام.
twitter.com/adel_arabi21