هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
التاريخ أحداث مضت بخيرها وغيره، والمفروض أننا لا علاقة لنا به؛ لأنه مضى ولسنا مسؤولين عنه وعما وقع فيه، وهو لا يعنينا باعتبار أن ما يهمنا من هذه الحياة هو الواقع والمستقبل؛ لأن الواقع عبارة عن ممر لا يستمر إلا للحظات ثم يتحول إلى ماض، فكل لحظة مرت مدتها تدخل الماضي، ومن ثم فالمستقبل هو الأهم؛ لأنه في محل الانتظار والمرتقب دائما، على مر الأيام؛ بل الذي تشرئب الأعناق إليه تشوفا وتطلعا لما تخبئه الأقدار.
أنا الآن أكتب هذا المقال وسأرسله إلى هيئة التحرير، وبمجرد أن أنهيه يدخل في الماضي الذي دخل التاريخ، وصنف ضمن القديم الذي لا علاقة لنا به كمجموعات بشرية، فمن جهة أنه عبارة عن وقائع وقعت لا يمكن تغييرها والتأثير فيها، ومن جهة أخرى أن المسؤوليات فيها تكاد تكون منحصرة في المباشرين لها، فعندما يقع حادث مرور مثلا، فإن الذي تسبب فيه هو المسؤول عنه، وإذا وقعت حرب فمن أشعل الحرب هو المسؤول عنها، وإذا وقعت جريمة قتل شخص، فإن القاتل هو المسؤول وهكذا. وما دام كل ذلك منحصر في المسؤولين المباشرين له، فما علاقتنا بهذا الماضي وما علاقته بنا؟
وما دام التاريخ بهذه الصفة وبهذه المسافة من البعد عنا وبعدنا عنه، وما دمنا غير مسؤولين عنه، وما دام غير قابل للتغيير، فلماذا نقرؤه؟ وما الجدوى من قراءته؟
سؤال وجيهّ، والإجابة عنه أكثر وجاهة.
لا شك أننا لا نقرأ التاريخ لنتسلى ونستمتع بما نقرأ مثلما نتسلى ونستمتع بقراءة القصص والروايات، أو هكذا يفترض؛ لأن قراءة التاريخ تشبه إلى حد بعيد قراءة الروايات من حيث هو أحداث ووقائع ومشاهد بطولية وشخصيات وأدوار رئيسية وأخرى ثانوية، وبالفعل فإن قراءته فيها متعة من هذه الناحية، لا سيما إذا كان الكاتب أديبا، مثلما فعل الدكتور طه حسين، عندما كتب كتابه على هامش السيرة الذي أرخ فيه للسيرة النبوية، بأسلوب أدبي وفني رفيع وجذاب، ولكن ذلك ليس هو التاريخ بمعناه العلمي؛ لأننا نقرأ التاريخ لغايات أسمى وأعلى من مجرد المتعة والترويح عن النفس، وإن كان ذلك مطلوبا في الحياة؛ إذ المطلوب في قراءة التاريخ بالأساس هو اسنتطاقه كعلم وشاهد عدل على الوقائع والأحداث، وعلى حركة الإنسان والكون والحياة عموما، لأنه الوعاء الذي تختبئ وراءه الكثير من قضايا هذه الحركة المطردة، منذ أن خلق الله الخلق وانتدب كل مخلوق لما خلق.
إن التاريخ خزان الخبرة الإنسانية، ومنبع المعرفة الإنسانية بجميع تخصصاتها، وأهميته في منظومات الخبرة البشرية لا تخفى على عاقل؛ فهو المصدر الملموس المشاهدة وقائعه والمعول عليه في فهم الوجود قبل كل شيء، قبل الحديث عن البطولات والانتصارات والإخفاقات، والمكاسب والخسائر، ولعل العلامة ابن خلدون أول من نظّر لهذا الموضوع بين العرب والمسلمين، ونبه إلى أن رواية التاريخ ليست هي نهاية المطاف، ومن ذلك قوله: “اعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية؛ إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، الأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم. حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا، فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة، وحسن نظر وتثبت، يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكبان به عن المزلات والمغالط؛ لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكَّم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق” [مقدمة ابن خلدون].
فقراءتنا للتاريخ إذن ليست للتسلية، ولا هي من الفضائل التي يُتجمل بها، وإنما هي لمزيد معرفة بالوجود والحياة والإنسان وعلاقاته الممتدة هنا وهناك.
وربما من بين ما نغفل عنه في حياتنا بداية الخلق وكيفيتها، وهي قضية من بين القضايا التي تنفتح بها أبواب المعرفة على مصراعيها (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [يونس 20]، وبداية الخلق تكشف لنا عن أهمية ذلك في عمر الإنسان وتراكم خبراته.
فعندما ننظر اليوم إلى تخصص من التخصصات العلمية، فإننا ننظر إلى الناس على أنهم أطباء ومهندسين وخبراء وأدباء، ونغفل عن أهمية الإضافات التي أضافها الإنسان في كل علم وفن عبر الزمان، إذ لم يوجد الطب طبا كما نعرفه اليوم، ولا الهندسة هندسة كما نراها اليوم، فالذي يقرأ الطب يتخرج بعد سبع سنوات طبيبا، وإذا أراد التخصص يزيد بعد تلك السنوات، سنوات أخرى للتخصص، ولكن ما يتلقاء الطالب في هذه السنوات السبع وما بعدها سنوات التخصص، هو خلاصة هذا العلم منذ نشاته وخبرات آلاف السنين في ذلك. فالذي يقرأ تاريخ الطب، لا شك أنه يقرأ كيف نشأ وكيف تطور والصيغ التي كانت تشخص بها الأمراض وكيفية القضاء على علل الإنسان، والتجارب، وغير ذلك من الأمور ذات الصلة؛ بل يحدد التاريخ كل إضافة وحدها مع كل جيل أو أجيال، وينطبق ذلك على كل العلوم؛ كيف اكتشفت؟ وكيف تطورت؟ وكيف هي الآن؟ (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فاطر 1].
ومن أهم ما يوحي به كيفية بدء الخلق (كيف بدأ الخلق)، أن الإنسان بفضل ذلك يتمكن من معرفة كيفية تركيبة الشيء ونموه منذ بدايته، وبذلك يتفهم كل إضافة وتجديد بحيثياتها؛ لأن معرفته بكيفية بدء خلق الشيء وتطوره، تحوله من مجرد عالم بذلك إلى مبدع له القدرة على الإضافة والتجديد، فيتجنب التكرار والإعادة؛ لأن من يعرف بدأ خلق الشيء يجد نفسه أمام البحث عن كيفية التطوير بعد النشأة إلى أن يصل إلى العصر الذي هو فيه، كل ذلك بحكم الفضول المعرفي الذي جبل عليه الإنسان، ومن ثم ينتقل إلى تلمس النقائص في الموضوع؛ لأنه أحاط به، انطلاقا من معرفة كيف نشأ ثم كيف تطور وأخيرا كيف هو الآن؟ تلك هي منطلقات التطور العلمي بقفزاته وطفراته، كلها بدأت من النشأة، وذلك من فضائل قراءة التاريخ، في جميع مجالات المعرفة الكونية والإنسانية والغيبية.
ونقرأ التاريخ أيضا لنعرف من نحن كبشر؟ ومن نحن كنظم اجتماعية وسياسية وثقافية؟ ومن نحن كأعراق وقبائل؟ ومن نحن كديانات؟ وكل ذلك يساعد على الحسم في الكثير من الأمور المتعلقة بالإنسان وحركته وعلاقاته، مثل الهوية وحقوق الإنسان الخاصة والعامة، والعقود والاتفاقات بين الناس؛ مجموعات ومجتمعات وأمما وثقافات وحضارات.
ونقرأ التاريخ أيضا لتفادى الأخطاء التي وقع فيها غيرنا من أسلافنا ومن غيرهم من المجتمعات والأمم.
ذلك أن الناظم للخبرة التاريخية واحد في جميع مراحل حياة الإنسان، عبارة عن جملة من القوانين والسنن الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل، ومن ثم فإن الخطأ الناتج عن سبب معين، يتكرر كلما تكرر السبب لما بينهما من ترابط عضوي، بحيث إن نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج، وكذلك الأسباب المؤدية إلى الفوز والنحاج والقفزات النوعية، وكذلك الأخطاء والإخفاقات.
وعليه، فإن قراءة التاريخ ومتابعة أحداثه، تكشف لنا عن كل ذلك، النتائج ومقدماتها سلبا وإيجابا، وذلك يساعد على عدم تكرار الخطأ عندما نستوعب الدرس ونتجنب أسباب الفشل والإخفاقات، كما يساعد على التعلق بالفوز والنجاح والانتصار، بتوفير الأسباب التي كانت في وقائع التاريخ، التي قرأنا عنها وفهمناها، فتحكّمنا في مفاصلها بفضل ذلك الفهم.