هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في عرضنا لنظرية ابن خلدون –في مقال سابق- لنشأة الدول وزوالها في أربعة أجيال: “بانٍ، ومباشرٍ، ومقلدٍ، وهادمٍ”، وترجمتها بالعملية النفسية التي وضعها مالك بن نبي في رسمه البياني، الذي طرح فيه نشأة الحضارات وانهيارها، حيث عرض لهذه النظرية بفكرة أخرى وبسطها في ثلاث مراحل وهي:
“مرحلة الروح، ومرحلة العقل، ومرحلة الغريزة”، فبدا لنا أن العرضين متطابقان من حيث المسار العام في بدايته ونهايته، ولكن في التفاصيل يقع بعض الإختلاف، على الأقل من حيث عدد المراحل المقررة في الطرحين، إذ أن المسار عند ابن خلدون أربع مراحل، بينما هو عند بن نبي ثلاث مراحل فقط!!
ولبحث ذلك، لا بد من المقابلة بين الطرحين.
ولا ندري أي التقسيمين أدق؟ مع ملاحظة أن ابن خلدون قدم لنا السلوك الظاهري في طبائع الناس، بينما مالك بن نبي انتقل إلى باطن الأمر، وهو الجانب الباعث على ذلك السلوك الظاهري، فألحق كل سلوك ظاهري إلى سببه الباطني..
فالجيل الباني عند ابن خلدون، يقابله نشاط الروح عند ابن نبي
والجيل المباشر عند ابن خلدون يقابله نشاط العقل عن ابن نبي
والجيل المقلد عند ابن خلدون لا يقابله شيء عند ابن نبي
وأخيرا الجيل الهادم عند ابن خلدون يقابله نشاط الغريزة عند مالك بن بني.
ولكن الملفت للانتباه هو إهمال مالك بن نبي للعاطفة ودورها في البناء والهدم أو النشأة والسقوط، رغم أن العاطفة واحدة من مكونات الإنسان ولها دورها في حياة الإنسان، ومن ذلك دورها هنا في النشأة والسقوط، وفي نفس الوقت عند مالك بن نبي أيضا، هناك غياب لما يقابل المقلد عند ابن خلدون.
وهنا بدا لي وكأن ما أهمله مالك بن نبي –العاطفة- في رسمه البياني هو المكمل للصورة التي وضعها ابن خلدون لسببين:
أولا: لأن العاطفة مكون من مكونات الإنسان الأربعة كما أسلفنا التي هي: الروح، العقل، العاطفة، الغريزة، فعندما نتكلم عن أثر الروح والعقل والغريزة ودور كل منها في حركة الإنسان صعودا ونزولا، لماذا نستثني العاطفة وهي واحدة من هذه المكونات ولها بلا شك أُثر كإخوتها الآخرين.
وثانيا: أن المقلد عند ابن خلدون الذي لا يوجد ما يقابله في رسم ابن نبي البياني، يظهر لي أن العاطفة مناسبة لتكون في مقابل التقليد؛ لأن العاطفة هي طريقة تعبير المقلد في كل شيء، لكون التقليد يعبر عن المستوى الطفولي للمعرفة، إذ إن الطفل قبل أن يبلغ مستوى التلقي المعرفي، فإن سمته البارزة هي التقليد في كل ما يسمع ويرى، ومن ثم تكتمل الصورة التي رسمها ابن خلدون، في الرسم البياني والتحليل الذي ذكره ابن نبي.
وعندما نعود لرباعية ابن خلدون: الباني، المباشر، المقلد، الهادم..
فالأول يقابله الروح والأخير تقابله الغريزة، بينما المباشر/ المقلد كلاهما يقابله = العقل، والذي يبدو لي والأنسب كما أسلفنا هو أن المباشر يقابله العقل، والمقلد تقابله العاطفة…، وهذا يفسره رسم مالك بن نبي، الذي جعل مرحلة العقل توحي بالاستقرار والرتابة –لا صعود ولا نزول-، بينما العقل ربما بتأثيره على الروح قد يعطل النمو والصعود ولكن لا يوقفه؛ لأن العقل بطبيعته الوظيفية أنه دائم الإضافة والزيادة، بينما العاطفة فمهمتها مختلفة عن العقل؛ لأن طبيعتها تنمية جانب المشاعر في الإنسان، وذلك في بعض الأحيان يكون من كوابح العقل، ومن ثم فإن الاستقرار الذي نلاحظه في تفسير ابن نبي وقد رمز له بالعقل، ليس استقرارا ينتجه العقل، وإنما هو بفضل تفاعل وجدل بين العقل والعاطفة، وما يشهد على ذلك أن الأمة منذ معركة الصفين التي أوقفت الروح أو حدت من صعودها، تراجعت الأمة وارتدت إلى منطق القبيلة والعشيرة والمذهب والطائفة وكل ذلك من ثمار نشاط العاطفة، وفي نفس الوقت حركة العقل لم تتعطل وكانت نشطة بقوة، والإنتاج العلمي الذي شهدته هذه المرحلة من أخصب المراحل، ابتداء من نشأة علوم الوحي وانتهاء بالعلوم الكونية التي ازدهرت أيما ازدهار في العهد العباسي خصوصا.
وكأن واقع الأمة بسبب توقف الروح عن العطاء والاستمرار في الصعود، دخل معركة جديدة بين العاطفة والعقل بما يحملان من قيم وظيفية متباينة.
فالعقل والغريزة إذن يمثلان الجانب الباطني لحركتي المباشر والمقلد، وهما المرحلة الوسطى، فالمباشر يقوم بعمل حدثه الناس عن نشأته وكيفية بنائه، ولكنه لم يباشر النشأة، بينما المقلد يقوم بعمل مقلدا لسابقه ولا يعلم عن كيفية نشأته ولا سمع عن ذلك شيئا.
وتفسير مالك بن نبي رحمه الله للنظرية الخلدونية بهذه الصفة، إعادة ما لاحظه ابن خلدون إلى أصله النفسي الذي هو أساس الحراك الإنساني والقانون الإلهي الخالد كما عبر عنه ابن نبي (إنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد 11].
ولكن يبقى ما قبل الانطلاق وبعده، كيف هو عندهما؟
فقبل الانطلاق عند ابن خلدون فهو العدم “أن كل شرف وحَسَب فعدمه سابق عليه شأن كل محدث”، مجرد انتفاء للشرف والحسب، لا يعبر عن سلب ولا إيجاب، أما النهاية فهي الهدم والضياع على يد الجيل الرابع الذي وضع له ابن خلدون مصطلح “الهادم”، ولكن في أماكن أخرى من المقدمة يذكر أهمية البداوة في قوة العصبية ودورها في البناء وتحقيق الغلبة.
أما ابن نبي فيفرق بين إنسان ما قبل الحضارة الذي يمثل رجل الفطرة، ورجل ما بعد الحضارة، الذي هو الرجل المتفسخ حضاريا؛ لأن رجل ما قبل الحضارة رجل فطرة وهو رجل بسيط وصاف، بينما رجل ما بعد الحضارة فمتفسخ حضاريا وواقعه معقد وعصي على الفهم والتحرير والنهوض به.
والذي يتببع ما أنتج الرجلان في هذه القضية قضية “النهوض والسقوط” وأسبابهما، يلاحظ أن هناك تناغما كبيرا بينهما وتكاملا، رغم البعد الزمني: 1406/1973 ، مع فارق مهم ولافت بينهما، أن ابن خلدون غلب عليه طابع الاستقراء والملاحظة ورصد الظواهر الاجتماعية ومحاولة تعليلها، بينما ابن نبي فذهب مذهب التفسير لما رصد ابن خلدون وتحليله. وأمر آخر أن ابن خلدون رصد تحول الدولة من بدايتها إلى نهايتها، بينما ابن نبي فقد عمم ما توصل إليه ابن خلدون في ما يتعلق بالدولة على الحضارة نشأة وزوالا.
وأمر أخير وهو من الأهمية بمكان في عملية النهوض والسقوط، وهو علاقة الدين بموضوع النهضة، فابن خلدون لم يكن يطرح كمشكلة في عصره، بحيث كان يتعامل مع الدين كظاهرة كونية، غير قابلة للنقاش؛ بل كثيرا ما يختم الفصل من المقدمة بآية أو حديث أو عبارة إيمانية تعبر عن عمق التدين فيه، وهو يعالج قضايا سياسية وتاريخية بطريقة علمية غير مسبوقة، توحي بالاستغناء عن الأحكام الفقهية، ولكنها لا تستغني عنها، وإنما تتعامل معها كمسلمات.
أما ابن نبي فقد كانت قضية الدين في النهضة والسقوط حاضرة، وقد عبر عنها بمصطلح الفكرة الدينية، واعتبرها مثل المكثف أو المركب في العناصر الكيميائية لأنه في عصر أُعْلِن فيه عن استغنائه عن الدين، ومع ذلك لم يتردد ابن نبي في القول إن الحضارة تستمد قوتها وشرعيتها بقدر تعلقها بالسماء، وكأنها وحي من الله.
لقد اتفق الرجلان على مبدإ كوني وهو أن القوانين التي أودعها الله في الكون ناظمة ومسيرة له، لا تختلف كثيرا عن الآيات القرآنية التي أنزلها ناظمة للسلوك الإنساني ولكيفية علاقته بالله وبالغيب عموما.
(الشروق الجزائرية)