الارتقاء ضمن شروط البشرية
يغالي الخطاب الديني الشائع في إضفاء صفات خارقة على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
ففي الأدبيات الصوفية فإن محمداً صلى الله عليه وسلم هو النور الأول الذي خلقت الدنيا من أجله.
وفي الخطاب الوعظي فإن ميلاد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كان مصحوباً بالمعجزات، ففي يوم مولده خرج نورٌ معه، أضاء ما بين المشرق والمغرب، وسمعت آمنة صوتاً يقول لها إنك قد ولدت سيد الناس فسميه محمداً! وتساقطت الأصنام في الكعبة على وجوهها، وسقطت أربع عشرة شرفةً من إيوان كسرى، وأخمدت نيران فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وجفّت بحيرة ساوة في العراق!
أما في صباه قبل البعثة فإن البركة قد حلت على مرضعته حليمة السعدية، فشفيت الأتان التي كانت تركبها من عرجتها وأسرعت تسبق القافلة، وإنه حين زار بحيرة الراهب في طريق الشام كانت هناك غيمة تظله أينما ذهب وإن ظل الشجرة مال عليه.
لست في مقام التحقق من كل قصة على حدة، ولا أرفض معنى البركة ابتداءً، ففي حياتنا شواهد من بركة الصالحين فضلاً عن بركة سيد العالَمين محمد صلى الله عليه وسلم، لكن التوجه العام الذي تدل عليه مثل هذه المرويات يبدو مفارِقاً لتوجه القرآن وللمثال الذي يضربه لنا من سيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
في القرآن يخاطب الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم: "وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ".
في هذه الآية دلالة واضحة أن
الرسالة لم تتنزل على محمد على حين انتظار وتشوُّفٍ منه، وهذا يفترض أنه كان يعيش حياةً طبيعيةً لا يميزها شيء خارق عن حياة غيره من البشر قبل البعثة. فلو لاحقنا المخيلة التي ترسمها المرويات والمحكيَّات لكان كل شيء قبل البعثة من شجر وحجر وبشر يقول هذا رسول الله، ولكان الناس يترقبون موعد تنزل الرسالة. لكن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم ذاته، كان متفاجئاً من تنزل
الوحي عليه فأسرع إلى زوجه خديجة وهو في حالة وجل، وليس في حالة فرح ونشوة يطلب عندها الأمان: "دثريني دثريني"، ولم تتجلَّ له حقيقة الوحي إلا حين صحبته خديجة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل العالِم بالكتب السابقة.
وقريش تلقت خبر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بالسخرية والإنكار، فلو كان بحيرة الراهب قد أبلغ أشياخ قريش وأبا طالب بأن هذا هو رسول الله، لظهر أثر لذلك في الجدل المثار بين أهل مكة بعد بعثته، وهو ما لا تشير إليه كتب السيرة.
تميل هذه المرويات ضمنياً إلى إسقاط بشرية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وتصويره أنه أسطورة مكللة بالمعجزات من كل جانب، لكنَّ القرآن على النقيض من ذلك يؤكد ويكرر على بشرية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم:
- "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ..".
- ".. قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَراً رَسُولاً".
- "قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَراً إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ".
- "وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً".
- "قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ".
- "وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي".
يظن الذين يذهبون في طريق المغالاة في الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أنهم يحسنون إليه ويعلون مقامه، لكن طريقة معالجة القرآن تعلِّمنا أن عظمة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم تكمن في بشريته وليس في أسطوريَّته، وهذا ما هيَّأه ليكون أسوةً للمؤمنين يقتدون بها: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً".
فلو كان الرسول محمد محاطاً بالمعجزات منذ لحظة ولادته، ومؤيدا من السماء بالطريقة الآلية التي يوحي بها موروث حكايات
المعجزات، لكان في ذلك عذر للناس ألا يتأسوا بسيرته، وأن يقولوا: ذلك رسول مؤيد من السماء كان يتكلم مع الوحي ويرى المعجزات، أما نحن اليوم فلا نرى من ذلك شيئاً.
في القرآن فإن عظمة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم تنبع من أنه خاض تجربةً بشريةً متكاملةً، لقد كان واحداً منا يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق: "مالِ هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق".
كان الرسول محمد يحزن ويضيق صدره: "ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون"، "ولا تحزن عليهم"، وكان يسري عليه ما يسري على البشر من خوف طبيعي: "لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً"، وكان يحب: "إنك لا تهدي من أحببت".
لم يكن الله تعالى يجيب قريشاً في مطالبها الإعجازية مع قدرته على ذلك: "وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ..".
لأن هذه المطالب تعاكس جوهر الإيمان ومقصد الرسالة، وأصحاب التناول المعجزاتي للسيرة النبوية يقعون من حيث لا يشعرون في نفس مشكلة قريش من ربط قضية الإيمان بخرق القوانين، بينما يقدّم القرآن لنا قضية الإيمان من خلال التجربة البشرية المتكاملة.
لقد تعرض الرسول محمد صلى الله عليه وسلم للابتلاءات من كل الأصناف، فذاق تجربة الوحدة والاستضعاف في مكة، وتجربة التكذيب والسخرية حتى ضاق صدره بذلك، وتجربة إيذائه جسدياً وإيذاء أتباعه المؤمنين، ثم تجربة التخفي في الهجرة والحذر من انكشاف أمره. وفي المدينة خاض تجربة تكوين المجتمع وتحديات القيادة، وظهر المنافقون الذين لم يكن يعرف خبايا صدورهم: "هم العدو فاحذرهم"، "يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم"، "وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ".
ولك أن تقارن بين الآية الأخيرة التي تذكر أن الرسول محمداً لم يكن يعلم سريرة المنافقين، وبين قصص الكرامات التي تنسب إلى أولياء الله الصالحين، ممن هم دون الرسول قطعاً، بأنهم يعلمون خبايا قلوب الناس.
ذاق الرسول محمد الحزن يوم وفاة خديجة، ويوم قتل عمه حمزة، ويوم توفي ولده إبراهيم.
واشتد الكرب بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم في حادثة الإفك يوم خاض الناس في عرضه الشريف، ولم يكن يدري ما يقول في ذلك لأن الوحي تأخر في النزول عليه.
كان القرآن في مواضع كثيرة يخالف اجتهادات الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مثل قصته مع الأعمى: "عبس وتولى أن جاءه الأعمى"، وحرجه من الزواج من زينب: "وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ"، وموقفه من المتخلفين عن القتال: "عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ".
كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عظيماً: "وإنك لعلى خلق عظيم"، "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً"، ليس لأنه كان أسطورةً وكان موجَّهاً آلياً من السماء، بل كان عظيماً لأنه نشأ في داخل حدود الزمان والمكان والتبس بكل شروط البشر، ثم جاهد فتسامت روحه وتحرر من أثقال الطين إلى معارج السماء، فتحقق فيه ذروة التكريم الإلهي لهذا الكائن الإنساني.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله، إنك حميد مجيد.
twitter.com/aburtema