يكفي سبباً لحب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أن الله اختاره رسولاً خاتماً كافة للناس ورحمة للعالمين، واختصه من بين الخلق أجمعين موضعاً لتنزل القرآن على قلبه، ذلك أن الله تعالى لا يؤتي فضله عبثا: "الله أعلم حيث يجعل رسالته".
جاء في قول منسوب إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته".
إن حقيقة الصفاء المحمدي سابقة للتجسد الأرضي، والله تعالى يقدر الأقدار في هذه الحياة الدنيا ليظهر نوره وليحق الحق، فيرفع ذكر أصفيائه من خلقه "ورفعنا لك ذكرك"، ويجعلهم مثلا للناس وحجة يعرفون بها سبل الوصول ومعارج الارتقاء "لئلا يكون للناس على الله حجة من بعد الرسل".
أرسل الله تعالى الرسول محمدا في لحظة من التاريخ قد عمت فيها الظلمات وعلت فيها الأوثان وكثر في الأرض الإفساد وسفك الدماء، فكان محمد صلى الله عليه وسلم هو النور الذي يبدد الظلام: "يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ".
إن تعبير الظلمات والنور في القرآن أعمق من مجرد مجاز، فالظلمة الحقيقية هي انطفاء البصيرة في النفس وعماية القلب عن الهداية.
وقد يسأل سائل: لماذا كان اهتمام دعوات الرسل ومنهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، يركز على
الإيمان بالغيب وتزكية النفوس؟
لماذا لم يكن الرسول محمد داعية سلام في عالم الحروب مثلاً؟ أو داعية إنهاء الرق وتحرير المستعبدين أو داعية حقوق المرأة في زمان وأدها، أو داعية الوحدة في عالم الفرقة؟
لماذا لم يكن مرتكز دعوته الأساسي
الدعوة إلى مجموعة من المبادئ الأخلاقية المباشرة، عوضاً عن أن يكون أساس دعوته الدعوة إلى الإيمان بالله وتزكية النفوس؟!
إن هناك من يتكلف في زماننا في التركيز على جانب دون غيره في حياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، بغية ملاءمة رسالته لمذاهب اليوم وفلسفات العصر، وإذا نظرنا في سيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فإنها كانت مثالاً تجلت فيه مكارم الأخلاق وجمع فيه كل الفضائل في ثوب واحد، لكن جوهر
الرسالة المحمدية أعمق من اختزالها في جزء واحد. لقد كان اهتمام الرسالة كما يبين القرآن إخراج الناس من الظلمات إلى النور وتزكيتهم وتعليمهم الكتاب والحكمة وهدايتهم سبلهم: "كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة".
إن رسالة الرسول تتجاوز شتات التفاصيل وتنفذ إلى جوهر الإنسان فتستهدفه بالتزكية، فإذا صلح ذلك الجوهر صاغ شخصية صاحبه صياغة متكاملة ففاض الخير منه في كل ميدان.
ماذا تفعل دعوات السلام في قلوب ممزقة بصراعاتها الداخلية؟! وماذا تفعل دعوات إنهاء الرق في مجتمعات أسست على الطبقية وشعور الناس بالاستعلاء على بعضهم البعض؟! وكيف ستفيض بالحب قلوب غرقت بأنانياتها وشهواتها وأهوائها؟!
إن أولى ما يستدعي الإصلاح هو العالم الداخلي للإنسان، فإذا ارتبط قلبه بالله الأكبر وأنشأ الإيمان عليه رقيباً من داخله وكبرت همته فتطلع إلى جزاء الآخرة وزهد في متاع الغرور، فإن استقامته الداخلية تفيض استقامة وعدلاً وإصلاحاً في الحياة، فتعمر الأرض على أسس متينة، ويصير المؤمن داعية خير ومعروف وإصلاح وعدل بين الناس حيثما كان موقعه.
أين نجد أثر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم؟
ومن الناس من يجادل بأننا نرى اليوم أمةً كغثاء السيل، قد وهنت قوتها وذهب ريحها وتشتت أمرها!
ولا ريب أن واقع الأمة التي تنتسب إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم محزن، وفي قلب كل محب للرسول شوق بأن يرى لهذه الأمة أمر رشد وقوة وكرامة، لكن حتى في حالة الاعتلال التي نعيشها، فإن بركة دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لا تزال سارية، فهذا الرسول الذي بدأ وحيداً في غار حراء، وهبط خائفاً مشفقاً يبحث عن الأمان في كنف زوجته خديجة، قد اتبعه مئات الملايين من الناس عبر الأجيال ولا يزالون يلهجون بذكره تمجيداً بعد أكثر من 1400 عام من تلك اللحظة.
كان يمكن لتلك اللحظة أن تدفن في باطن الصحراء والتاريخ، فلم يكن الرسول محمد ملكاً يحوز من أدوات السلطة ما يمكنه من تزييف التاريخ وفرض أمجاده الشخصية على الشعوب، وكان يمكن أن يتبعه بضعة آلاف ثم يخبو بريقه بعد جيل أو جيلين كما حدث مع آلاف المشاهير عبر التاريخ!
لكن كيف نفسر هذا الامتداد الضارب بعيدا في المكان والزمان؟ ما الذي أغرى مئات الملايين بالالتفاف على دعوة رجل من زمان مختلف وبيئة مختلفة وثقافة مختلفة ولسان مختلف؟!
لا تفسير منصفا لهذا الأثر الاستثنائي في التاريخ إلا أن دعوة هذا الرجل مباركة، وأن قوة الإشعاع التي تدفقت منه تملك من التأثير ما استطاعت به أن تنفذ إلى قلوب هذا العدد المهول من المؤمنين.
قد يجادل مجادل بأن المسيحية والبوذية أيضاً تحظى بمئات ملايين الأتباع!
حسناً، ومن قال إننا ننكر البدايات الصادقة والإلهام الروحي للمسيح وبوذا وغيرهم؟! إن حجتنا هي على من ينكر حقيقة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، بينما نحن لا ننكر أن غيرنا من الأمم على شيء من هدايات مؤسسيها الأوائل، فهذه الحجة على من ينكر لا على من يعرف.
إن مسلمي اليوم ومسلمي الأجيال السابقة كانوا حطام أمم أخرى قد فقدت مرشدها الروحي وتنكبت بها السبل عن الهداية، فجمع الإسلام شتات أمرهم وأرشدهم إلى طريق النور وسبل السلام، فمنهم سابق للخيرات ومنهم مقتصد ومنهم ظالم لنفسه، لذلك ملأت أمة محمد صلى الله عليه وسلم فراغاً في التاريخ، ومن أراد أن يفهم بعض فضل الرسالة المحمدية فليطلق العنان لخياله كيف كانت ستكون أحوالنا اليوم في المشرق العربي أو في آسيا الوسطى أو أقصى شرق آسيا أو بلاد أفريقيا لولا بعثة الرسول محمد.. ماذا كانت هويتنا ستكون؟ وأي ناظم سيضمنا؟! وأي سبيل سيهدي أرواحنا إلى السماء؟!
"وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ".
حتى في زمان الاعتلال والوهن فإن أثر بركة الرسالة المحمدية لم يعدم.. كم من ملايين المسلمين قد أهداهم الإيمان السكينة والرضى وملأ قلوبهم بالسلوى وحصنهم من الضياع أمام فداحة الخطوب ببركة الرسول والإيمان؟
كم من ملايين المسلمين تتفجر فيهم دوافع الخير من إطعام الطعام وكفالة الأيتام والفقراء وإغاثة الملهوف وبناء المستشفيات والمدارس ببركة اتباع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم؟
كم من ملايين المسلمين وقفوا في مواطن العزة والكرامة وصدعوا بقول الحق في مواجهة جور السلطان، ودحروا قوى الاستعمار والعدوان عن بلدانهم بدافع الإيمان الذي أشعل فيهم مشاعر العزة وحرم عليهم التكيف مع الذل والهوان؟
كم من ملايين المسلمين الذين لم يشربوا الخمر في حياتهم قط، ولم يقتربوا من الزنا، وعرفوا قداسة الأسرة فأنشأوا عائلات مستقرة ومنحوا أطفالهم الحب والحنان وجنبوهم التشرد والتفكك؟ أليس هذا ببركة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم؟!
كم من ملايين المسلمين احتضنوا آباءهم وأمهاتهم حين بلغوا الكبر وحفظوا لهم كرامتهم الإنسانية، ولم يلقوا بهم في دور المسنين تمزقهم الوحدة والخذلان في مغيب شمس أعمارهم؟! أليست هذه بركة وصايا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته؟!
كم من المباركين الأولياء في أمة الرسول محمد في كل مكان وكل زمان، من الذين تجردوا من شهوات النفس وفتن الحياة واعتزلوا اللغو وجاهدوا أنفسهم حتى أشرق فيهم نور الله وفاضت منهم بركاته، وغدوا في هذه الأرض أئمة للهدى يدعون الناس إلى الخير وينشرون فيهم الرحمة والنور وينقذونهم من غفلتهم وظلمتهم؟
لا ريب أن قدر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عظيم في ميزان الله المطلع على أسرار خلقه، حتى بارك الله تعالى في رسالته فجعله سبباً لكل هذا الخير في العالم، وأوجز مهمته فقال: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".
لم تتنزل رسالة الله على محمد صلى الله عليه وسلم لتلامس فيه تشوقاً وانتظاراً، ولم يكن رسولنا صلى الله عليه وسلم قبل تنزل الوحي عليه يطمع في أكثر من حياة هادئة مستقيمة، حتى إنه حين خاطبه جبريل في المرة الأولى رجع إلى زوجته خائفاً مشفقاً يلتمس عندها الأمان: "زمليني، زمليني"، فنزل عليه الوحي ثانيةً يوقظه من راحته ويلقي عليه هذا القول الثقيل: "إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً".
كانت دعوة ثقيلة على نفسه بتكلفتها والثمن الذي تقتضي دفعه من راحته وهدوئه: "قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا".
وبقدر إنكار المرء لذاته بقدر علو قدره عند الله تعالى، هكذا كان حال الرسول محمد. لم يكن في البداية يرى لنفسه ميزة ترفعه عن قومه، لكن الله تعالى رأى في سريرة هذا الفقير اليتيم الصادق الأمين ما لم يره في سرائر كل الخلق فارتضاه رسولاً أميناً على وحيه.
تظهر عظمة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في أنه أنجز ثورة جذرية غيرت التاريخ، مع أنه لم يكن صاحب ميل ثوري!
إن هناك كثيراً من الثوار الذين صنعوا جزءاً من التاريخ لكن شخصياتهم كانت ثورية. لقد كانوا ممتلئين بالغضب والاندفاع، فكان فعلهم الخارجي متلاقيا مع ميولهم النفسية..
لكن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم كان رجلاً ميالا إلى الوداعة والسلام، لم يكن يطمح إلى أكثر من أن يظل في وئام مع قومه الذين كانوا يسمونه الصادق الأمين، وأن يتفرغ في غار حراء للتفكر والسباحة في ملكوت الله..
كانت ثورته استجابة لأمر إلهي وليس تعبيرا عن رغبة نفسية مشحونة بالغضب، لقد ظل في حالة السكون التي تحبها نفسه حتى نزل عليه الأمر الإلهي: "يا أيها المدثر قم فأنذر"..
تأملوا في جوابه حين اصطحبته خديجة إلى ورقة بن نوفل، فبين له أن ما رآه في غار حراء هو الناموس الذي كان يتنزل على موسى، ثم قال: "ليتني كنت جذعا إذ يخرجك قومك".
رد محمد عليه السلام مستغرباً: "أوَ مخرجي هم؟!".
إجابة ممتلئة بالوداعة، لم يكن في استعداده النفسي مثل هذا الخاطر، كيف سيخرجونه وهو قد قضى كل حياته محبا للوداعة والوئام؟!
هذه الطبيعة الميالة إلى الوئام والسلام لم تغيرها الأيام ولم تنل منها قوة وسلطة، فظهرت نفس الروح بعد أن قويت شوكته في المدينة واجتمع حوله الأنصار، فقال قبل صلح الحديبية: "يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب.. ماذا لو أنهم خلوا بيني وبين سائر العرب؟".. "والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها"..
هذا يعني أن فعل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كان متجردا من الهوى النفسي والميل الذاتي، ولذلك كان أثره في التاريخ خالدا عظيماً، فهو قد نشر دعوة التوحيد وحطم الأصنام وقوض الجاهلية، ولم يكن في كل ذلك مدفوعا بالبحث عن لذة شخصية أو مراعيا لهوى نفسي، بل كان خالصا لله ليس لنفسه في كل ذلك نصيب.
لقد أهدانا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أعظم ما يمكن أن يهدى إلى إنسان.. لقد أهدانا الآباء والأمهات الحياة البيولوجية والرعاية في الطفولة، وهذا فضل عظيم لهم، لكن فضل الرسول محمد أعظم لأنه أهدانا حياة الروح وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وما تغني الحياة والراحة والمال إن كانت عاقبة صاحبها خسرا؟!
ما هي أعظم هدية قد تقدمها لإنسان؟ إن ساعدته بالمال فسينفد هذا المال، وإن ساعدته بالطعام فستنقضي شهوة الطعام، لكن إن ساعدته بأن هديته إلى الله تعالى فقد منحته الكنز الذي لا يبلى والخلود الأبدي في الجنة. لذلك قال الله تعالى في حق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: "النَّبيُّ أوْلَى بالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنفُسهِمْ".
كان الصحابة رضي الله عنهم يفتدون الرسول محمداً بأنفسهم، ويسارعون إلى حمايته ولو كان في ذلك هلاكهم، لم يكونوا يفعلون ذلك عصبية جاهلية أو خوفاً من هيمنته أو مراءاة، بل لأنهم علموا أن هذا الرسول هو وسيلتهم إلى الله ورضاه من رضى الله تعالى.
وقد كان من إكرام الله تعالى لهذا الرسول، على نقاء سريرته ونبل نفسه وعظمة أخلاقه، أن جعله الوسيلة إليه، فمن أراد أن يدخل في حضرة الله تعالى فليدخل من باب محمد صلى الله عليه وسلم. وتقدم فضل الصلاة والسلام على الرسول محمد على فضل دعاء المؤمن لنفسه، ففي هذه الصلاة نور الإيمان وتفريج الكربات وقضاء الحوائج.
أما الذين في قلوبهم كبر فيأنفون من تمجيد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ويرون في ذلك مبالغة، وربما زين الشيطان لأحدهم أن يقول لماذا كل هذا الثناء ولماذا لا نتصل بالله مباشرةً؟ وبعض الإجابة أن في الإكثار من الصلاة على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم واستحضار فضله كسر لكبر النفس وغرورها؛ عبر صرف تمركزها على ذاتها إلى التمركز حول مثل خارجي أسمى. فالنفس في اعتلالاتها وأمراضها تزين لصاحبها من الفضائل المتوهمة ما ليس لها، ويظن كل واحد أن له من الفضائل ما ليس لغيره، وهذا باطل وليس حقاً، وهذا هو مرض إبليس الذي أرداه: "أنا خير منه".
لذلك فإن الإكثار من الصلاة على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يضعف غرور النفس فيحييها، وتتصل ببركة تلك الصلاة بالروح المحمدية فتنير بها.
والذين يأنفون من تمجيد الرسول محمد بدعوى الاتصال المباشر بالله كاذبون لأنهم يمجدون سادتهم وكبراءهم ويذلون أنفسهم لهم، ولو لم يفعلوا ذلك فإن نصيبهم من الكذب تمجيد أنفسهم الخطاءة. والرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو أحق الناس بالاتباع والتوقير، ففضله علينا ليس بمال أو ملك أو موهبة أو فكر، بل إن ميزته التي استحق اصطفاء الله بها هي النور والرحمة والخلق العظيم الذي أودعه الله فيه.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله، إنك حميد مجيد..
twitter.com/aburtema