قضايا وآراء

كرة القدم والعبودية الطوعية

إبراهيم بدوي
1300x600
1300x600
لم يكن السجال الحاصل في مصر بعد فوز فريق الزمالك بالدوري بعيدا عن السياسة، فقد تعودنا خلال السنوات الماضية على هذا الخلط. فأجهزة الدولة التي تشن حربا لا هوادة فيها على خلط الدين بالسياسة، لا تجد غضاضة في خلط الجنائي بالسياسي على منصة القضاء، أو الرياضي بالسياسي في ملاعب كرة القدم وخارجها.

الشعب المصري في عمومه مؤدلج كرويا، ويميل ناحية أحد القطبين وفقا لعوامل كثيرة؛ من أهمها تأثير الأسرة والبيئة المحيطة، لكن تشجيع الأنصار بدأ يأخذ منحى متطرفا، بعيدا عن أخلاق الرياضة، أو حتى المكايدات المتعارف عليها عندما ينتصر أحد الفريقين على الآخر.

يرجع البعض هذه الردة الأخلاقية إلى حالة عامة من عدم التسامح عصفت بالمجتمع بعد انقلاب تموز/ يوليو 2013 وتصاعدت خلال السنوات التي تلته، لتصيب لعنتها كل بيت مصري، في حين يرى آخرون أن الأمر يرجع إلى هامش الحرية الذي تمنحه كرة القدم لمحبيها، دون ضوابط تذكر عند الحديث عن تفاصيلها الدقيقة، أو خوف من ملاحقة أو اضطهاد.
يرجع البعض هذه الردة الأخلاقية إلى حالة عامة من عدم التسامح عصفت بالمجتمع بعد انقلاب تموز/ يوليو 2013 وتصاعدت خلال السنوات التي تلته، لتصيب لعنتها كل بيت مصري، في حين يرى آخرون أن الأمر يرجع إلى هامش الحرية الذي تمنحه كرة القدم لمحبيها

صناعة الكرة رغم ما قد يشوبها من فساد بسبب مداخيلها المالية الكبيرة، إلا أنها تتسم بضوابط وأحكام يلتزم بها الجميع، ومبارياتها تتميز بمتابعة دقيقة من حكم الساحة ومساعديه، وكذلك المراقبين الخارجيين لضمان النزاهة، وهو ما يعطي انطباعا بوجود نوع من العدل الذي يغيب عن الواقع البائس، فيخرج المقهور لا شعوريا من آلامه وإخفاقاته التي تزداد وتيرتها يوميا بعد يوم إلى هذا الفضاء الافتراضي، المنضبط بقواعد واضحه وقوانين حاكمة.

ولعل هذا الأمر هو ما جعل المستبدين يستخدمونها كنوع من أساليب التنفيس عن ضغط الواقع، لتفريغ مشاعر الكبت والإحباط، والتي تخرج على هيئة صيحات قد يتلوها نوبات من الفرح الهستيري بإنجاز يتحقق عند فوز الفريق ببطولة ما. ولا يتغير الأمر كثيرا عند الخسارة، التي تأتي غالبا في ضوء ضوابط اللعبة التي تمنح الجميع حقوقهم، فتظهر الجماهير وفاءها لفريقها المفضل وتعلن استمرار مساندته في أحلك الظروف.

بمنطق العدل والقواعد الواضحة، أصبحت الكرة اللعبة الشعبية الأولى عالميا، وأذكر أن الاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا" قد هدد الاتحاد المصري في عام ٢٠١٦ بإيقاف النشاط الكروي إذا تم تنفيذ حكم المحكمة الدستورية القاضي ببطلان انتخابات اتحاد الكرة، وتكرر الأمر نفسه أواخر العام الماضي بعد تلكؤ المسؤولين المصريين في إجراء الانتخابات بسبب تداعيات كورونا، ليشدد "الفيفا" على ضرورة إجرائها وفق تعليماته الواضحة، وفي حال عدم الالتزام بذلك يتم تجميد النشاط الكروي تماما، كما حدث في الكويت والسودان سابقا.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فهناك تطوير مستمر ومرن لقواعد اللعبة بما يسمح بتحقيق مبدأ العدالة إلى أبعد حد، وهو ما دفع مناصري الفريق الفائز بالدوري المصري مؤخرا إلى التغني بتقنية "الفار"، التي تسمح لحكم الساحة بالعدول عن قراره بعد مشاهدة الخطأ مرة أخرى عبر "الفيديو"، ولو طبقت تلك التقنية في عالم السياسة لرأينا المسؤولين المصريين بين معلق على أعواد المشانق، أو مغيب في أقبية السجون مدى الحياة.

قواعد اللعبة إذا لا تسمح بالاستبداد، وتقوم على الانتخاب الحر، وهو ما يتعارض بطبيعة الحال مع قواعد السياسة في محيطنا العربي، إلا أن المجتمع الدولي الذي لم يلتفت يوما إلى ويلات الشعوب وعذاباتها الناجمة بالأساس عن الاستبداد السياسي، يغض الطرف دوما عن المستبدين في عالمنا، يقف بشكل حاد وصارم عندما يتعلق الأمر بانتهاك القوانين الرياضية، وتحديدا كرة القدم.
سواء تعمد الحكام دفع الشعوب المقهورة نحو الكرة، لنسيان الهموم وتحقيق العدالة التي يفتقدونها في حياتهم اليومية، أو استساغ المحكومون البقاء في هذا الفضاء الافتراضي، هروبا من مرارة الواقع، فالمحصلة واحدة، وتتمثل في مزيد من الانحراف عن أخلاق الحرية لصالح "العبودية الطوعية"


بات معلوما أن هناك ما يشبه الاتفاق على استخدام صناعة الكرة - التي تتخطى ميزانيات دول - كوسيلة إلهاء للشعوب؛ تبقيها بعيدا عن أحلامها وآمالها وتطلعاتها، وتدفع ساكني البلدان التي تحكمها أنظمة قمعية خطوات على طريق "المواطن المستقر" الذي يبحث عن لقمة العيش ولا يبالي بقيم العدل أو الحرية.

وسواء تعمد الحكام دفع الشعوب المقهورة نحو الكرة، لنسيان الهموم وتحقيق العدالة التي يفتقدونها في حياتهم اليومية، أو استساغ المحكومون البقاء في هذا الفضاء الافتراضي، هروبا من مرارة الواقع، فالمحصلة واحدة، وتتمثل في مزيد من الانحراف عن أخلاق الحرية لصالح "العبودية الطوعية" - كما يقول المفكر الفرنسي لابويسي - ولن يتحقق التغيير المنشود إلا عندما يتحرر هذا المواطن المغلوب على أمره من تلك الشرنقة الضيقة، ويعلم أن ثمن السكوت على الاستبداد أفدح بكثير من عواقب الثورة ضده.


التعليقات (0)