الكتاب: "أم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.. آمنة بنت وهب"
المؤلف: د. بنت الشاطئ
الناشر: كتاب الهلال، العدد 577.
تأسرنا الدكتورة عائشة من أول سطر، بلغتها السردية الجميلة وتأخذ بيدينا لنتعرف على السيدة "آمنة" أم النبي عليه أفضل الصلاة والسلام.
يمثل كتاب "أم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.. آمنة بنت وهب"، أحد ثلاثة كتب قدمتها بنت الشاطئ الدكتورة عائشة عبد الرحمن، تناولت فيها علاقة الرسول صلى الله عليه وسلم، بالنساء من حوله. الكتاب الأول "نساء النبي"، تناولت فيه علاقة الرسول بزوجاته كزوج، بينما الكتاب الثاني "بنات النبي" الذي تناولت فيه علاقة الرسول ببناته كأب، أما هذا الكتاب "أم الرسول"، فهي تتناول فيه علاقته كابن مع أمه، وبذلك تكون قد غطت بهذه الثلاثية أوجه معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم للنساء في محيطه الاجتماعي، وهذا التناول يكاد يكون نادرًا في التراث الإسلامي.
الكتاب رغم صغر حجمه، إلا أنه مكتوب وفقاً للمنهج العلمي، فالكاتبة صدرت الكتاب بفصل يتناول موضوع سيرة أم النبي التي تطرحها في كتابها، ثم مصادر هذه السيرة، ثم
عرض قصير لدور الأم في حياة الأنبياء الآخرين، مثل السيدة هاجر وأم موسى والسيدة العذراء. ثم انتقلت في الفصل الثاني إلى دراسة البيئة التي تدور فيها أحداث سيرة أم النبي، ما بين البيئة الجغرافية والبيئة الاجتماعية، وفي الفصل الثالث تناولت ظروف زواج السيدة "آمنة" أم النبي، من والده، لتنتقل في الفصل الرابع إلى ظروف ترمل الزوجة الشابة، وفي الفصل الخامس تتناول علاقتها القصيرة زمنيًا مع ابنها اليتيم الذي أراد الله تعالى له أن يكون آخر من يحمل رسالته إلى بني آدم، لتنتقل إلى ظروف وفاتها في الفصل السادس، قبل أن تفرد الفصل الأخير بتأثيرها بعد وفاتها على النبي صلى الله عليه وسلم.
الكتاب بصورة عامة اعتمد على جمع الروايات التي تتناول سيرة أم النبي من كتب السيرة النبوية والتاريخ والتراث الإسلامي، وإعادة صياغتها بأسلوب بنت الشاطئ الأدبي الجميل.
قبل أن تمضي الكاتبة في الحديث عن إحدى صانعات التاريخ، وضعت أمامنا صورة عن مكانة الأم في الجزيرة العربية إلى عهد "آمنة"، ذلك أن عدداً غير قليل من قبائل العرب وبطونها انتسبت إلى أمهاتها، ومنها: بنو جديلة وإليها تنتسب قبيلة عدوان، كذلك بنو جندلة، وبنو مزينة، وعفراء، وسلول. ومن الملوك من نسبوا إلى الأم، كعمرو بن هند، والمناذرة بني "ماء السماء" وهي ماوية بنت عوف بن جشم.
استشهدت الكاتبة بالأديان السماوية لتحدثنا عن دور "الأمهات" في حياة الأنبياء الأربعة: إسماعيل، وموسى، وعيسى، ومحمد، عليهم جميعاً أزكى الصلاة والسلام.
وقد يبدو من عجيب الاتفاق أنهم عليهم السلام قد عهد بهم في طفولتهم إلى الأمهات وحدهن دون مشاركة الآباء، فلم تقم الأم بدورها الطبيعي فحسب، بل عوضت إلى جانبه فقد الأب أو غيابه.
أم إسماعيل:
جسدت السيدة "هاجر" قصة الأمومة في أروع مواقفها وأعنف مشاعرها، لقد أراد الله أن يؤثر هذه الأم برعاية "إسماعيل" الوليد وإنقاذه من الهلاك، فتركه لها وحدها في واد قفر غير ذي زرع، كي تكون لهفتها على الصغير والألم الذي ذاقته حين رأته يكابد حرقة الظمأ، ومسعاها المثير في سبيل نجاته، حديث التاريخ وعبرة الدهر، وصورة تخلد فيها الأمومة وتتقدس فيها آلامها إلى حيث تغدو عبادة وصلاة.
تقول الكاتبة في (صفحة 39): "انبثق ماء زمزم، فهرعت (هاجر) نحوها وهي تحس موجة طارئة من القوة والحيوية قد تدفقت في كيانها، وأقبلت ترتوي وتسقي ولدها، ودبت الحياة في الوادي الأجرد، قالوا: ومرت رفقة من (جرهم) مقبلة من طريق كداء تريد الشام، فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طيراً فقالوا: إن هذا الطير لحائم على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، وأرسلوا دليللهم، فعاد يحدثهم عما رأى، وتبعوه حتى أشرف بهم على الماء، فإذا هناك هاجر وولدها، فقالوا لها: إن شئت كنا معك فأنسناك، والماء ماؤك، فأذنت لهم فنزلوا معها، وهم أول سكان مكة".
أم موسى:
لا يذكر لنا "القرآن الكريم" شيئاً عن والد "موسى" وإنما يخص بالذكر أمه، وأوكل إليها أمر حمايته وليداً ورضيعاً، حين استجابت لوحي السماء، فاتخذت تابوتاً وجعلت فيه قطناً، ثم أرضعت وليدها وأرقدته في التابوت، وأحكمت عليه الغطاء، وألقت به في النيل، ومضت الأمواج بموسى حتى انتهت به إلى روضة عند قصر فرعون، وقالت امرأة فرعون: لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً.
هكذا نزل الوحي على "أم موسى" وعهدت إليها السماء بالمهمة الجليلة: مهمة إنقاذ الوليد المدخر لإحدى الرسالات الكبرى، من المذبحة التي لم ينج منها غلام لبني إسرائيل آنذاك.
أم المسيح:
هذه الأم التي طهرها الله واصطفاها على نساء العالمين، وعيسى عليه السلام ما يذكر القرآن له أباً، وإنما هو "عيسى بن مريم" كما دعاه كتاب الإسلام.
قصة أمومة "مريم" كما روتها كتب السماء، بالغة التأثير والعنف، فلقد تعرضت عليها السلام لأقسى ما تتعرض له أنثى: نشأت في بيت دين وتقى، لأب عالم من كبار بني إسرائيل، فلما حملت بها أمها نذرت لله أن تهب ما في بطنها لخدمة الهيكل، ومات أبوها "عمران" وهي صغيرة، وكفلها "زكريا" زوج خالتها، وأمضت مريم صباها في المحراب عابدة خادمة، وفاء بنذر أمها، حتى إذا اختارها الله من دون النساء جميعاً ليودعها سره الأكبر، بعث إليها في خلوتها من بشرها "بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم، وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين".
ويحدثنا الإنجيل عن فرارها بابنها إلى
مصر لكي تنجو به من الكيد والأذى، حيث أقامت هناك إثنى عشر عاماً ترعاه وتكدح لتهيئ له أسباب العيش ووسائل التعلم.
تنقل الكاتبة عن الثعلبي قوله في (عرائسه: 402): "فأقامت مريم بمصر إثنتي عشرة سنة، تغزل الكتان، وتلتقط السنبل في أثر الحصادين، وكانت تفعل ذلك والمهد في منكبها، والوعاء الذي فيه السنبل في منكبها الآخر".
وقد خلدها القرآن الكريم مع ابنها وجعلهما آية من آيات الله "وجعلناها وابنها آية للعالمين".
وتأتي "آمنة بنت وهب" في ختام هذا الموكب الرائع لأمهات الأنبياء، لتكون أم الرسول اليتيم: خاتم الرسل، والمبعوث بآخر رسالات السماء.
زهرة قريش:
اجتمع لها من أصالة النسب ورفعة الحسب، ما تزهو به في ذاك المجتمع الأرستقراطي المعتز بكرم الأصول ومجد الأعراق. فأبوها "وهب" سيد بني زهرة، وجدها عبد مناف بن زهرة الذي يقرن اسمه بابن عمه عبد مناف بن قصي، فيقال: "المنافان" تعظيماً وتكريماً.
وقد ظلت زهرة قريش اليانعة، وبنت سيد بني زهرة في خدرها محجبة عن العيون، مصونة عن الابتذال، حتى ما يكاد الرواة يتبينون ملامحها أو يجرؤون على رسم صورتها، بل لا يكاد المؤرخون يعرفون عنها إلا أنها "كانت يومئذ أفضل فتاة في قريش نسباً وموضعاً".
كان "عبدالله" بين الذين تقدموا لخطبة "زهرة قريش" هو الجدير بأن يحظى بيدها دونهم جميعا، فما كان فيهم من يدانيه شرفاً ورفعة ووسامة، فهو ابن "عبدالمطلب بن هاشم" أمير مكة، وقد قال عنه "بودلي" في كتابه "الرسول": "وكان عبدالله قد اشتهر بالوسامة، فكان أجمل الشباب وأكثرهم سحراً وذيوع صيت في مكة، ويقال أنه لما خطب آمنة بنت وهب، تحطمت قلوب كثيرات من سيدات مكة".
وتقول الكاتبة في (صفحة 108): "وبقي عبدالله مع عروسه أياماً لم يحدد لنا التاريخ عددها، ولكنها عند جمهرة المؤرخين لم تتجاوز عشرة أيام، إذ كان عليه أن يلحق بالقافلة التجارية المسافرة إلى الشام".
العروس الأرملة:
تقول الكاتبة في (صفحة 117): "عاد الحارث بن عبدالمطلب وحده، عاد لينعي أخاه الشاب، إلى أبيه الشيخ، وزوجه العروس، والقرشيين جميعاً، لقد غاله الموت وهو بين أخواله من بني مخزوم، إثر رحيل القافلة التي تخلف عنها، ودفن هناك، على أرجح الأحوال.. ولبست مكة كلها ثوب الحداد على فتاها الذي غالته المنون غريبا ولم ينزع عنه ثوب العرس.. كانت سنه آنذاك ثمانية عشر عاماً.. فيا للعروس الشابة، تترمل هكذا سراعاً، وما يزال في يديها خضاب العرس".
لم تخفف حدة الحزن إلا حركة الجنين البكر في أحشائها، فرغم حزنها الثقيل وثكلها المفجع، كان جنينها عاملاً هاماً في عزائها، وشعورها به يتقلب بين أحشائها قد آنس وحشتها وهون عليها ما كانت تلقى من حزن لعله كان كافياً لهلاكها، لو لم ينزل الله سكينته عليها، ويملأ دنياها بهذا التراث الحي الغالي الذي أودعه "عبدالله" إياها قبل أن يموت، فعاشت به وله.
وعن يوم مولده تقول الكاتبة في (صفحة 139): "ثم لم تك إلا فترة قصيرة المدى بعد يوم الفيل، حتى ذاعت بشرى المولد، حدد قوم هذه الفترة بخمسين يوماً وهو الأكثر والأشهر على ما نقل "السهيلي" في (الروض الآنف)، وعن ابن عباس أن المولد كان يوم الفيل، واكتفى آخرون بأن ذكروا أنه كان في عام الفيل، وكانت الرؤى قد عاودت "آمنة" في صدر ليلة مقمرة من ليالي الربيع، وسمعت من يهتف بها من جديد أنها توشك أن تضع سيد هذه الأمة، ويأمرها أن تقول حين تضمه: أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد، ثم تسميه محمداً".
لم تعد "آمنة" وحدها، كان ولدها إلى جانبها يملأ الدنيا حولها نوراً وأنساً وجمالاً، ويذكرها بالحبيب الذي أودعها إياه ثم رحل.
كانت مكة حين ذاعت فيها بشرى المولد، ماتزال تحتفل بما أتاح الله لها من نصر على أصحاب الفيل، فرأى القوم في "محمد" حينذاك آية تذكر بآية أخرى، يوم اختير أبوه للنحر، ثم افتدى بالإبل المائة.
لم يكن اسم "محمد" ذائعاً بين القوم، وعن ذلك تنقل الكاتبة عن "السهيلي" في "الروض الآنف" قوله: "لا يعرف في العرب من تسمى بهذا الإسم قبله صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة، طمع آباؤهم حين سمعوا بذكر محمد، وبقرب زمانه، وأنه يبعث في الحجاز، أن يكون ولداً لهم، وهم: محمد بن سفيان بن مجاشع، جد جد الفرزدق الشاعر، ومحمد بن أحيحة بن الجلاح، ومحمد بن حمران ابن ربيعة، وكان آباء هؤلاء الثلاثة قد وفدوا على بعض الملوك، وكان عنده علم من الكتاب الأول، فأخبرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وبإسمه، وكان كل واحد منهم قد خلف امرأته حاملاً، فنذر إن ولد له ذكر أن يسميه محمداً".
الرضيع:
أحست "آمنة" بعد أن وضعت ولدها الوحيد، أن الشطر الأهم من رسالتها قد انتهى بمولد ابنها الموعود بأمجد غد، كما انتهت رسالة "عبدالله" منذ أن أودعه جنيناً في أحشائها، فأسلمت نفسها من جديد لأشجان الذكرى، إلى حد أثر في صحتها، إلا أن جزءاً من تلك الرسالة لم ينته بعد، فما يزال عليها أن ترعى ولدها حتى يدرك، لكن لبن "آمنة" جف بعد أيام، ويعلل "بودلي" ذلك بأنه أثر لما أصابها من حزن لموت زوجها، فدفعت به إلى "حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية" زوجة "الحارث بن عبد العزى" أحد بني سعد من بكر بن هوازن.
هكذا نما الرضيع وترعرع في صميم البادية، بين قبيلة بني سعد وهي من أعرق قبائل العرب وأفصحها، لكن كيف أمضت الأم سنتيها هاتين؟، تسكت كتب السيرة ـ كما تقول المؤلفة ـ فلا تحدثنا بشيء من ذلك، وكأنما أحس الرواة والمؤرخون بالذي شعرت به "آمنة" من أن دورها الجليل قد أوشك على الانتهاء.
الرحيل:
عاد الصغير بعد أن بلغ مقامه في البادية أقصى أمده، فبدد بنوره ظلال الكآبة التي كانت تغشى دنيا "آمنة" في وحدتها وترملها المبكر، وقد بذلت الأم لولدها في تلك الفترة، أقصى ما يستطاع من عناية ورعاية، ويعترف كُتاب السيرة بما كان لها من أثر جليل في هذه المرحلة من عمر نبي الإسلام، وأثمرت العناية ثمرتها، فبدت على "محمد" تباشير النضوج المبكر، ورأت فيه "آمنة" عندما بلغ السادسة من عمره، مخايل الرجل العظيم الذي طالما تمثلته، ووعدت به في أحلامها ورؤاها. فحدثت ابنها عن رحلة يقومان بها معاً إلى "يثرب" كي يزورا قبر الحبيب الراقد.
كان الجو صيفاً، والشمس تلهب صخور مكة، وتصهر رمالها، حين بدأت "آمنة" تتهيأ لرحلة طويلة شاقة، تجتاز بها الأميال المائتين التي تفصلها عن يثرب، حيث يرقد "عبدالله" الذي لم تره منذ نحو سبع سنوات.
وإذا هم في بعض مراحل طريق العودة بين البلدتين، هبت ـ فيما يقال ـ عاصفة عاتية هوجاء، أخذت تسفع المسافرين بريحها المحرقة، وتثير من حولهم الرمال كأنه الشرر الملتهب، وقد شعرت "آمنة" بضعف طارئ، مكن له من جسمها ما كانت تجد من لذعة الفراق، وخيم على الكون صمت رهيب، مزقته بعد حين، صرخة صبي مفجوع، انحنى على جثة أمه في العراء يناديها فلا تلبي النداء.
إلى هنا، تنتهي حياة "آمنة" على سطح هذه الأرض، وينصرف عنها التاريخ حيناً ليعود بعد نحو أربعة وثلاثين عاماً، فيفسح لها أعز مكان في كتاب الخلود، كأم للنبي البطل الذي تركته وحيداً يتيماً في بادية الجزيرة بين مكة ويثرب، فما بلغ مبلغ الرجال حتى اختارته السماء للرسالة العظمى، وبعثته بالدين الذي يتبعه اليوم ملايين البشر من شتى الأجناس، في مشرق الأرض ومغربها.
وستظل الدنيا أبداً تقف خاشعة أمام ذلك البطل الرسول الذي لم يكد يهتف هتافه الخالد: "الله أكبر" حتى كان النسر الروماني ـ كما يقول بودلي ـ يترنح ثم يتمرغ في التراب لأخر مرة. وإذا العرب الجفاة البداة الذين لم يكونوا يخرجون من جزيرتهم إلا لرحلتي الشتاء والصيف، يطأون هذا النسر بالأقدام، ويرثون عروش الأكاسرة وتيجان الفراعين، ويندفعون شرقاً حتى يبلغوا بالرسالة المحمدية أسوار الصين، وينطلقون بها غرباً حتى يصلوا إلى ساحة المحيط الأطلسي، فيشيدوا لدينهم دولة إسلامية في إسبانيا معقل الكاثوليكية المتعصبة، ثم يغذون السير شمالاً حتى يقرعوا أبواب "فيينا" عاصمة إمبراطورية النمسا، ذات السلطان في قلب أوروبا المسيحية.
فسلام على "آمنة" سيدة الأمهات، وأم النبي المبعوث بآخر رسالات السماء.