كتب

لماذا ترفض الثورة الدينية الحداثة؟ كتاب يقرأ علاقة المشروع الإسلامي بالغرب

لم يعد للإنسان موضع مركزي وثابت في العالم لأن العالم لم يعد هو نفسه شيئا ثابتا.
لم يعد للإنسان موضع مركزي وثابت في العالم لأن العالم لم يعد هو نفسه شيئا ثابتا.
الكتاب: ما الثورة الدينية.
المؤلف: داريوش شايغان. ترجمة: د. محمد الرحموني.
الناشر: دار الساقي بالتعاون مع المؤسسة العربية للتحديث الفكري. بيروت 2004.


رغم صدور هذا الكتاب منذ عشرين عاما، فإنَّ المواضيع التي يطرحها لا تزال قائمة، لاسيما إشكالية العلاقة بين الحداثة والحضارات التقليدية في منطقة الشرق الأوسط، وصدام الثقافة والحداثة بين أوروبا والإسلام، وتفكك البنى التقليدية أمام هجمة الحداثة الغربية، بسبب تحجر هذه البنى ضمن "المأثور" الديني. وتمثل "الثورة الدينية" في سياق هذه الإشكالية، علامة خطيرة على فشل وعجز مزدوجين: عجز الحداثة عن إقناع الشعوب المحرومة الطريحة على هامش حركة التاريخ، وعجز البنى التقليدية الدينية عن استيعاب مكتسبات الحداثة، وما عرفته العصور الحديثة من قطيعة مع الماضي.

فقد انتقلت أوروبا التي كانت تكن العداوة للإسلام، منذ القرون الوسطى، وصولا إلى الحقبة الاستعمارية، إلى تبني الحداثة بكل منطوياتها الفكرية والثقافية والسياسية، مجسدة القطيعة مع الماضي الديني، بينما العالم العربي والإسلامي، لا يزال حاليا، في حالة مخاض، ولا ندري كيف ستؤول الأمور، مع هيمنة الطائفية التي صارت قويّة جدّا في الشرق الأوسط، ولم تكن كذلك بهذه الدرجة مع انهيار السلطنة العثمانية. لكنَ منذ نجاح الثوة الإسلامية في إيران عام 1979، وهزيمة الحركات القومية في كل من مصر والعراق وسوريا، وحركة التجييش الذي تعرفه  الحركات الإسلامية الجهادية منذ حرب الخليج الثانية عام 1991، ولغاية الحربين في أفغانستان والعراق، وصولا إلى الحرب الأهلية السورية، فمن الممكن أن تتفتّت سوريا والعراق إلى دويلات طائفية ومذهبية وعرقية ، خصوصا أنَ المجتمعات التقليدية والطوائف السياسية العربية غير مستعدّة لتبني الحداثة والديمقراطية التعددية.

قام المشروع العربي ـ الإسلامي على امتداد أكثر من قرن إلى الوراء، في ما عرف بعصر النهضة، على أساس الإجابة على سؤال حضاري تمحور حول التحدي الغربي: ما حقيقته؟ وكيف نرد عليه؟ وكيف نحقق النهضة؟ وانتهت النهضة وجاءت الثورة، وكبر التحدي الغربي وازداد، وظل السؤال يراوح مكانه، بل حلّ الحديث عن السقوط وأسبابه محل الحديث عن النهضة وسبلها.
لعل السؤال حول الأصالة والمعاصرة، والتراث والحداثة، وحول مواجهة التحدي الحضاري والاستعماري الغربي، وتحقيق النهوض في العالمين العربي والإسلامي، قد استحوذ على قدر كبير من اهتمام الكتاب والباحثين العرب والمسلمين منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، إلا أن هذا التحدي بوجهه السياسي والعسكري والاقتصادي ما زال قائما، وهذه الإشكالية الحضارية في التواصل مع الغرب ما تزال مطروحة.

وفي هذا الإطار، يندرج كتاب المفكر الإيراني داريوش شايغان، الذي ولد سنة 1935، وتتلمذ على المستشرق الكبير هنري كوربان، ودرس في إيران وإنكلترا وسويسرا وفرنسا، وحصل على دكتوراة الدولة في باريس سنة 1968، عن بحثه الهندوسية والصوفية، وشغل بعد ذلك كرسي أستاذ في الفلسفة المقارنة في جامعة طهران، ثم عين سنة 1977 مديرا للمركز الإيراني للدراسات الحضارية حتى سنة 1979، تاريخ انتصار الثورة الإيرانية. غادر بعدها إلى باريس، حيث عين مديرا لمعهد الدراسات الإسماعيلية حتى سنة 1988.

كتاب "ما الثورة الدينية" ـ الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة-، يتكون من مقدمة وستة فصول، ويحتوي على 317 صفحة من القطع المتوسط، وصدر عن دار الساقي في بيروت سنة 2004.

سؤال النهضة

قام المشروع العربي ـ الإسلامي على امتداد أكثر من قرن إلى الوراء، في ما عرف بعصر النهضة، على أساس الإجابة على سؤال حضاري تمحور حول التحدي الغربي: ما حقيقته؟ وكيف نرد عليه؟ وكيف نحقق النهضة؟ وانتهت النهضة وجاءت الثورة، وكبر التحدي الغربي وازداد، وظل السؤال يراوح مكانه، بل حلّ الحديث عن السقوط وأسبابه محل الحديث عن النهضة وسبلها. 

وفكرة ما الثورة الدينية (العنوان الأصلي للكتاب)، محاولة تندرج ضمن هذه الإشكالية الحضارية، إلا أن داريوش شايغان يلج الموضوع من زاوية ورؤية جديدتين تعتمدان بالخصوص على:

أولا ـ توسيع إطار الأنا الحضارية، فلم تعد هذه الأنا مقتصرة على العرب والمسلمين، بل اتسعت ورحبت لتشمل الحضارات التقليدية الشرقية كافة (الإسلامية والهندية والصينية)، أو ما سماه شايغان التجمع الروحي الواحد. ذلك أن هذه الحضارات الإسلامية والهندية والصينية، تتميز على الرغم مما بينها من اختلافات، بتجانس بنيوي في تجربتها الميتافيزيقية. وقد أبان شايغان عن هذا التجانس، اعتمادا على منهج مقارن يرتكز على ما يُعرف في مجال الفلسفة المقارنة بـ المماثلات التناسبية les analogies de rapport.

ثانيا ـ اعتماد رؤية حضارية شاملة للكوكبتين الثقافيتين، الشرقية والغربية، على اعتبار أن الحضارة كل شامل له منطقه ومقولاته الخاصة. وتكمن أهمية هذه الرؤية الشاملة في قدرة المؤلف على تجاوز النزعة التجزيئية الغالبة على الدراسات الحضارية الراهنة، التي تعزل الظواهر بعضها عن بعض وتدرسها كلا على حدة. ويتطلب كتاب بمثل هذه الشمولية جهازا معرفيّا ومنهجيّا ولغويّا ضخما. ولعل هذا ما يفسر الكم الهائل من المعارف الفلسفية والدينية والسياسية والاجتماعية والعلمية التي يزخر بها الكتاب، إضافة إلى استيعاب كاتبه للعلوم القديمة والحديثة وإلمامه بها: التصوف (الإسلامي والهندي)؛ علم النفس (بكل فروعه تقريبا)؛ الأنثروبولوجيا؛ تاريخ الأديان... إلخ، إضافة إلى معرفته بلغات كثيرة: الفرنسية؛ الألمانية الإنكليزية؛ وطبعا الفارسية.

والكتاب يرمي حسب مؤلفه إلى توضيح "المأساة" التي تختفي خلف الظواهر، والنفاذ عبر "علم ظواهر رؤى العالم" إلى مسرح الصراعات الثقافية الكونية. وهو يرى في هذا السياق، أن "الثورة الدينية" علامة خطيرة على فشل مزدوج، سواء من حيث عجز الحداثة عن إقناع الجماهير المحرومة المطروحة على هامش التاريخ، أو عجز "التقاليد الدينية القديمة" عن استيعاب ما عرفته العصور الحديثة من قطيعة مع الماضي، وأن هذه الثورة التي تمثل بروز ظاهرة أدلجة المأثور الديني، تصبح فيها الأيديولوجيا النقطة الأكثر خرقا في التقاء المستويات المختلفة للوعي.

معنى الثورة الدينية

يعمد المفكر داريوش شايغان في الأبواب الثلاثة الأولى إلى نوع من الاستطراد لتسهيل مهمة القارئ ـحسب رأيه ـ، في فهم معنى الثورة الدينية في أفق الحضارات التقليدية، مغرقا في موضوعات ذات طابع فلسفي. ولا يثير فينا هذا الاستطراد -ونقول ذلك استطرادا- أي عجب، اللهم إلا إذا كنا لم نقرأ بعد رسالة الغفران.

فيتناول في الباب الأول: التوجه الروحي الواحد أو البنى الكبرى للفكر التقليدي، وتوضع الحضارات التقليدية في كوكبة ثقافية واحدة، مبرزا الأشكال القابلة للمقارنة في هذه الكوكبة الحضارية، من حيث "المركز المرئي للوجود"، وما يسمى "بالنزول والصعود" في تجربة المقدس، والبنية الثلاثية المتصلة بعوالم الظواهر الحسية، والخيال، والروح، وعلم اللاهوت الموجب وعلم اللاهوت السالب، ويخلص إلى وجود بنية تقف جدارا فاصلا بين الرؤية الصوفية للعالم، والمفاهيم الفلسفية التطورية التاريخية.

محتوى الباب الأول تذكير بالبنى الكبرى للفكر التقليدي، وكيف انهارت مع انبثاق العصر العلمي التقني في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، الذي أحدث تغييرا مذهلا في وعي الإنسان بذاته وبمركزه في العالم، بحيث رأى فيه المؤلف ثاني تحول ثقافي للبشرية (حدث التحول الأول ما بين القرنين السابع والخامس قبل الميلاد)، وقد نقل هذا التحول الإنسانية من الرؤية التأملية إلى الفكر التقني، ومن الأشكال الجوهرية إلى مفاهيم التقنية الرياضية، ومن الجواهر الروحية إلى الدوافع الغريزية البدائية، ومن الأخروية إلى التاريخانية.

ولم يعد للإنسان، تبعا لذلك، موضع مركزي وثابت في العالم؛ لأن العالم لم يعد هو نفسه شيئا ثابتا، ولم يعد ينتسب إلى الأنبياء والآلهة، بل أضحت شجرة نسبه تعود إلى القردة. ولم يعد سيد نفسه، بل هو متربع فوق بركان من القوى اللاواعية واللاعقلية. لقد انهارت (باختصار) رؤية العالم التراتبية وقوسا النزول والصعود والبنية الثلاثية وعلم اللاهوت السالب والصور الظاهرانية للخيال، بحيث حل التطور ذو البعد الواحد محل الصعود الدوري التزامني، وحلت أزمنة وفضاءات الامتداد الهندسي المتجانسة محل الأزمنة والفضاءات الروحية المتفردة، وحلت السببية الفيزيائية محل تطابق الرموز التزامني، وحلت ثنائية الجسد والروح محل بنية الفكر الثلاثية، وحلّت أخيرا الكناية محل الرمز.

أما في الباب الثالث، فيتحدث عما يسميه الفجوة الأساسية التي يتحدث فيها عن التحول الثقافي في الغرب، وعن فلسفة النهضة الأوروبية، وتقويضها منظومة الفكر التراتبي، ويتناول تهديم البنى الكبرى للفكر التقليدي واضمحلال الغائية، وانهيار التراتبية الأنطوالوجية، و"العلة بلا جوهر" و"الثنوية الميتافيزيقية" و"التمثل والموضوعية"، ثم ينتقل إلى ما أسماه الصدمات الثلاث، الكوسمولوجية، والبيولوجية، والسيكولوجية، ليصل إلى الحديث عن العدمية الغربية التي تتمثل في الانفصام بين الإيمان والمعرفة.

الفكر في الغرب كف عن أن يكون فكرا فلسفيا، كما كف الفكر في الشرق عن أن يكون فكرا دينيا. لذلك، فإن النمط الفكري الوحيد القادر حاليا على فرض نفسه، هو نمط جديد من الفكر، لن يكون فلسفيا بأتم معنى الكلمة، ولن يكون دينيا.
أما الحضارات التقليدية الشرقية، فهي تعيش مأزقا حقيقيا، متأتيا من كونها فقدت بناها الفكرية الكبرى، أو بالتدقيق فقدت هذه البنى مبررات وجودها بفعل الهجمة الحداثية الغربية، ومن كونها لم تشارك في صنع هذه الحداثة، أو في الحقيقة ـكما یری شايغان ـ لم يسمح لها الغرب بذلك. فعلى خلاف التحول الإنساني الأول الذي حدث في حواضر العالم الكبرى آنذاك (اليونان والهند والصين)، فقد اكتفى التحول الثاني بالمجال الجغرافي الغربي. ولما كانت هذه الحضارات ترغب في الفعل في التاريخ، فقد حاولت جاهدة الانخراط في هذا التاريخ، ولكن من دون القيام بأي مجهود نقدي إزاء بناها الفكرية الموروثة، بل غاية ما فعلته مماثلة مفاهيمها بالمفاهيم الغربية، فتصبح بذلك على سبيل المثال؛ الصلاة رياضة، والوضوء صحة، والشورى ديموقراطية...إلخ، ويسمي شايغان هذه العملية أدلجة المأثور l'idéologisation de la tradition.

والنتيجة المباشرة لهذه العملية، أن ما تنتجه هذه الحضارات من فكر، هو فكر بلا موضوع، وما تُنتجه من فن، هو فن بلا محل، وما تأتيه من سلوك، هو سلوك عبثي. أما طبقتها المثقفة، فلا هي سليلة حكماء الشرق، ولا سليلة مثقفي الغرب. وتكون النتيجة النهائية أن: يسقط الدين في أحبولة مكر العقل، فيتغرّب وفي نيته مواجهة الغرب، ويتعلمن وفي عزمه روحنة العالم، ويتورط في التاريخ وفي مشروعه إنكار التاريخ وتجاوزه.

وينتقل إلى موضوع "الثورة الدينية"، مبديا استغرابه لمصطلح "الثورة الإسلامية"، معتبرا أن اللفظين المكونين للمصطلح لا تربطهما أية وشائج أنطولوجية. ويتناول الماركسية المبتذلة قائلا؛ إن الحضارات غير الغربية تتأرجح بين انفعالية المتطرفين الدينيين والمتطرفين اليسارين، وهو إذ يعرض إلى البراكسيس الجدلي والماركسي يقول؛ إن ما راج عندنا ليس أطروحات ماركس، بل ماركسية دوغمائية مبتذلة، لا تظهر فيها الأفكار في نقائها، بل في صورة أفكار متطرفة متحجرة، وفي فلسفات مستنزفة، وأنه إذا كانت الإيديولوجيا تنزع إلى تدنيس الأفكار المعلمنة، فإن الديانات النضالية تنزع إلى علمنة الأفكار المقدسة.

وهو يأخذ المفكر الإسلامي الإيراني علي شريعتي المتوفى عام 1977، كنموذج لهذا الاتجاه الذي يعطي للمقولات الماركسية معاني جديدة، تفضي إلى "إسلام مؤدلج" شف عن "مقولات اجتماعية اقتصادية مسطحة". وهو يرى أنَّ أدلجة الأديان تفتح على خطر مرعب، يتمثل في السلوك اللاعقلاني للجماهير. وهو إذ يرى أن الدين بإمكانه المساهمة في إثراء الحياة الروحية للإنسان، فإنه يقول؛ إنه لا يمكن "توجيه الحياة الاجتماعية من خلال الدين"، وأن محاولة تحقيق الديانة تاريخيا في الشأن العام تخفضها إلى مستوى الأيديولوجيا الشمولية.

ويكرر شايغان في جميع ما نشره بعد سنة 1982، أي بعد صدور ما الثورة الدينية؟ ـ ربما بالمعنى الإيجابي ـ، فكرته الجوهرية التي يمكن تلخيصها في أن العالمين ـ الغرب والشرق ـ يعيشان مأزقا حقيقيا، فالفكر في الغرب كف عن أن يكون فكرا فلسفيا، كما كف الفكر في الشرق عن أن يكون فكرا دينيا؛ لذلك، فإن النمط الفكري الوحيد القادر حاليا على فرض نفسه، هو نمط جديد من الفكر لن يكون فلسفيا بأتم معنى الكلمة، ولن يكون دينيا. إنه شيء ما بين الاثنين، يأخذ من الدين طاقته الوجدانية، ومن الفلسفة مظهرها المعقول والاستدلالي. وهذا النمط الهجين هو الأيديولوجيا. فالأيديولوجيا، إذا، بما هي وعي زائف، وبما هي نزوع إلى المماثلة والمطابقة، وبما هي خطاب بياني، وبما هي بنية ثنوية اختزالية، أي باختصار بما هي شر محض، هي الفكرة التي استبدت بشايغان. وبما أنه يكتب انطلاقا من انتمائه الحضاري والثقافي، فقد ركز تحاليله على هذا التجمع الروحي الواحد الذي أضاف إليه الحضارة الأفريقية، فهي تعاني بدورها من أفيون الأدلجة، ممثلة بالخصوص في ظاهرة الإسلام الثوري أو الإسلام المناضل.

وكانت هذه المقولة التحليلية (الأيديولوجيا)، أيضا، الأداة التي قيم بها شايغان شعراء إيران قديما وحديثا. ففي مقاله عن حافظ الشيرازي كما في مقاله عن سهراب سبهري (شاعر إيراني معاصر)، كان الفيصل في الحكم على شاعرية الشاعر، مدى غياب الأيديولوجيا أو حضورها، ويرى أن النص الشعري الجيد هو الذي لا تفوح منه رائحة الأيديولوجيا.
التعليقات (0)

خبر عاجل