كتب

جدل الدّيني والسّياسي في الفكر التّشريعي الإسلامي.. إلى أين؟

كتاب يناقش مآلات العلاقة بين الديني والسياسي بعد الربيع العربي  (عربي21)
كتاب يناقش مآلات العلاقة بين الديني والسياسي بعد الربيع العربي (عربي21)

الكتاب: أنموذج السّلطة أم سلطة الأنموذج
المؤلّف: د. منير بنجمور
دار النشر: مجمّع الأطرش لنشر وتوزيع الكتاب المختص ـ تونس ـ الطّبعة الأولى: 2020
عدد الصفحات: 190


لئن مثّلت صدمة الحداثة قادحا أعاد مراجعة المسألة السياسيّة ونظام الحكم في المنظومة الدّينيّة وتفحّص المصطلحات ورصد معانيها وخلفياتها الإيديولوجيّة، فإنّ التجربة الدّيمقراطيّة التي عرفتها المنطقة العربيّة منذ 14 كانون الثاني (يناير) 2011، في تونس على وجه الخصوص بوصفها شرارة الربيع ونبراس أشواقه صوب الحريّة والتداول السلمي على السلطة، مثّلت بدورها قادحا لإشكاليّة قديمة متجددة في الفكر العربي الإسلامي، ألا وهي إشكالية علاقة الدّين بالسياسة بسبب اتصالها العميق بمشاغل النّاس ولارتباط موجات الربيع الديمقراطي العربي الوثيق بتنامي حضور الظاهرة الإسلامية في مجتمع الانتقال الديمقراطي ومؤسساته الحكميّة.

وتعدّ المسألة السياسية من أمهات القضايا في الفكر الإسلامي قديما، إذ طفح الخلاف حولها إثر مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وظهرت بذلك فرق متباينة المواقف والرؤى حتى صبغت المسألة السياسية بصبغة دينية ـ عقدية، وخاض فيها المتكلمون وألحقوها بالمباحث الكلامية، واختلفوا أيما اختلاف في شروط الإمام وموجبات خلعه وحدود طاعته وجواز الإمامة في غير قريش وغيرها. وظلّت الإشكاليّة المطروحة في الفكر السياسي الإسلامي: هل العبرة في السياسة الشّرعيّة أن نأتي بما يوافق الشرع، أو أن نأتي بما لا يخالف الشرع؟

ويمكن اختزال إشكالية علاقة الدّين بالسياسة في السؤال التالي: إلى أيّ حدّ يمكن تحقيق المواءمة بين مقولة اكتمال الدّين الإسلامي في مستوى تشريعاته، ودعوى الحاجة إلى العمل بالمصلحة في الممارسة السياسيّة من جهة ما هي تسيير لشؤون المسلمين على مقتضى النظر الشرعي في ظلّ المصلحة؟

أطروحة الكتاب

ظلّت صياغة المسألة السياسية في الفكر الإسلامي محكومة بظروف العصر ومتطلبات المرحلة، وإن كانت في أصولها مستندة إلى أصول التشريع الإسلامي، ولم تقتصر معالمها على استنطاق النّصوص المؤسسة واستنباط الأحكام الشرعية منها، بل كانت ثمرة تفاعل متواصل مع الواقع المتحوّل واشتراطاته. وبالرّغم من نجاح هذا التفاعل في نحت تجارب سياسية نموذجيّة في كثير من الأحيان، فإنّه ولّد سؤالا متواصلا عن مدى قرب تلكم التجارب من أنموذج السلطة النبوي الذي أرساه الرسول في المدينة في بواكير الدعوة الإسلامية.

في هذا الإطار، يتنزّل كتاب "أنموذج السّلطة أم سلطة الأنموذج: جدل الدّيني والسّياسي في الفكر التشريعي الإسلامي: قراءة من الدّاخل في التّأسيس والامتداد"، لمؤلفه الدكتور منير بنجمور ـ أستاذ محاضر في الفقه وعلومه بالمعهد العالي لأصول الدّين بجامعة الزّيتونة وبكليّة الحقوق والعلوم السياسية بجامعة تونس المنار ـ الذي يروم "رصد القطيعة القائمة بين النصّ المرجعي والزمن التأسيسي، بما هو أنموذج للسلطة السياسيّة من جهة، وبين التّاريخ السياسي الإسلامي في سائر مراحله عبر تعاقب الأنظمة والدّول إلى يوم النّاس هذا من جهة أخرى".

وتظهر القطيعة التي تشكّل أزمة الفكر السّياسي الإسلامي خصوصا حين نكون بإزاء شرعيّة أنموذجيّة لا حظّ لها في الواقع، وواقع لا شرعيّة له، لأنّه مجال لسلطة الأنموذج النمطيّة التي استقرّت بفعل الصّراعات وتوازن القوى، وتعمّقت حين وفد أنموذجُ سياسي غربيّ باسطا هو الآخر سلطته.

لئن تعدّدت الدّراسات التي تناولت مبحث السلطة والحكم في الإسلام، فإنّ ما يميّز كتاب "أنموذج السّلطة أم سلطة الأنموذج: جدل الدّيني والسّياسي في الفكر التشريعي الإسلامي: قراءة من الدّاخل في التّأسيس والامتداد"، هو موضوعيّة قراءة مؤلفه للمسألة السياسية من داخل المنظومة الإسلاميّة فكرا وتاريخا، واجتهاده في استنطاق الموروث الفقهي ورصد مرجعيّاته وسياقاته المختلفة، بعيدا عن مرّبع الإيديولوجيا واصطفافاتها. ويستمدّ الكتاب أهمّيته البالغة من خلال استشرافه لمقوّمات التّعايش والحوار بين المختلفين في الفكر السياسي قادة وأتباعا. تعايش بدا تحدّيا وامتحانا كبيرا للنخب العربيّة، التونسيّة على وجه الخصوص، في مجتمعات ما بعد 14 يناير (كانون الثاني) 2011.

فلئن اشتغل بنجمور في مؤلفه السابق "الاختلاف وأخلاقيات التعايش في الفكر التشريعي الإسلامي"، صدر سنة 2019، على نشر التعايش المذهبي وتبيئة مناخاته، فإنّ دراسته المضمّنة صلب هذا الكتاب، تشكّل أرضا صلبة للتعايش في أبعاده السياسيّة بين مختلف المنتظم السياسي الوطني.
  
بنية الكتاب

بُني كتاب "أنموذج السّلطة أم سلطة الأنموذج: جدل الدّيني والسّياسي في الفكر التشريعي الإسلامي: قراءة من الدّاخل في التّأسيس والامتداد" على فصلين ركيزتين هما: أنموذج السّلطة والمقاربة السياسيّة وسلطة الأنموذج وتعدد القراءات. ينفتح الفصل الأّول على مباحث ثلاثة: المبحث الأوّل يتناول صحيفة المدينة بوصفها أوّل وثيقة دستوريّة للدّولة الإسلاميّة الفتيّة، التي بزغ نجمها في صدر التاريخ الإسلامي. وأنّ "القراءة المقاصديّة للوثيقة تقوم على تتبّع المصالح التي ترتبط بمضامينها ورصد القرائن الحافّة بالكلام والسّياق، وتقصّي الظّروف الاجتماعيّة والسياسيّة التي تتنزّل الوثيقة في إطارها"، أهمّها أنّ الرّسول تصرّف في هذا المقام بمقتضى التدبير السياسي لا بمقتضى النبوّة والرّسالة، أي باعتباره وضع اللبنة الأولى لتأسيس الدّولة الناشئة على قيم إنسانيّة خالدة. وهو ما يجعل من صحيفة المدينة "مرجعيّة أساسيّة تضبط بمقتضاها معالم نظام الحكم في المنظور الإسلامي، لا من جهة منطوقها فحسب، بل من جهة مقاصدها وأهدافها".

اهتمّ المبحث الثاني من الفصل الأوّل والمعنون بـ"المنهج النبوي في مقاومة الفساد المالي (أنموذج السّلطة في مجال المال والأعمال)، بإبانة إلى أيّ حدّ أسهمت السنّة النبويّة الشريفة في ضبط قواعد التصرّف المالي، وما هي السّبل التي وضعتها لمقاومة الفساد المالي. فيما تمثّل المبحث الثالث في إماطة اللّثام عن قيم الإسلام من خلال تجلّيات الرّحمة النبويّة في الغزوات والحروب، بوصفها نبراسا لأنموذج السلطة زمن الحرب.

 

تثار في ظلّ التّجربة الديمقراطيّة الجديدة بالعالم العربي علاقة الدّين بالسياسة وهو ما يجعل من الأهمية بمكان الإجابة عن السؤال المركزي في هذا الكتاب: إلى أي حدّ يمكن تحقيق المواءمة بين مقولة اكتمال الدّين الإسلامي في مستوى تشريعاته، ودعوى الحاجة إلى العمل بالمصلحة في الممارسة السياسيّة؟

 



بدوره، يتفرّع الفصل الثاني من الكتاب المعنون بـ"سلطة الأنموذج وتعدد القراءات" إلى مباحث ثلاثة: "إشكاليّة المرجعيّات في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر"، "مراعاة المصلحة في السياسة والحكم" و"الثابت والمتحوّل في السياسة الشرعيّة: قراءة في رؤية الشيخ محمّد الطّاهر بن عاشور". ويروم مبحث المرجعيّات في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر "تفحّص المرجعيّات التي احتكم إليها المحدثون والمعاصرون بالبلاد العربيّة الإسلاميّة، من حيث تعددها وتنوّعها وتداخلها وتناقضها في بعض الأحيان، إلى درجة حدوث القطيعة". 

وقد توسّع المؤلّف في مناقشة المرجعيّات التي أسهمت في تشكيل ملامح الفكر السياسي العربي الإسلامي المعاصر وبلورة اتجاهاته وطرح إشكالاتها. ولم يفت الكاتب تأكيد محوريّة المسألة السياسية ضمن حزمة القضايا المطروحة في المجتمعات الإسلاميّة الرّاهنة، نظرا لاتصالها المباشر بحياة النّاس ومشاغلهم الاجتماعية والاقتصاديّة والثقافيّة وغيرها، وكانت هي محور المشاريع الإصلاحية في القرنين التاسع عشر والعشرين، ومدار الجدل بين المفكّرين العرب المسلمين المعاصرين إلى اليوم. هذا الجدل مردّه أساسا اختلاف المرجعيات: المرجعيّة الدّينيّة والمرجعيّة الغربيّة، وهي ثنائيّة تختزل إشكاليّة العلاقة بين الدّين والسياسة، وتقيم الدّليل على أنّ الاختلاف في المرجعيّات مردّه الاختلاف في المنهج والطّرح.

تثار في ظلّ التّجربة الديمقراطيّة الجديدة بالعالم العربي علاقة الدّين بالسياسة، وهو ما يجعل من الأهمية بمكان الإجابة عن السؤال المركزي في هذا الكتاب: إلى أي حدّ يمكن تحقيق المواءمة بين مقولة اكتمال الدّين الإسلامي في مستوى تشريعاته، ودعوى الحاجة إلى العمل بالمصلحة في الممارسة السياسيّة؟ 

وقد دفعت هذه الإشكالية المؤلف إلى توزيع المبحث على مطلبين اثنين: أوّلهما: الأسس المعرفيّة لمراعاة المصلحة في السياسة والحكم. وثانيهما: القواعد الضّامنة لتحقق المصلحة في المجال السياسي. كل ذلك من خلال أسلوب حجاجي اجتهد خلاله على إقامة الدّليل على أنّ المصلحة جديرة بالاعتبار في المجال السياسي نظرا وممارسة، فكان الكلام حول منزلة المصلحة في صياغة النظريّة السياسيّة الإسلامية، وبيان أهميّة قاعدة تصرّف الإمام على الرّعيّة منوط بالمصلحة. وينتهي المؤلف بإثارة الثابت والمتحوّل في السياسة الشرعيّة، من خلال قراءة في رؤية الشيخ محمّد الطّاهر بن عاشور.


سبل التجديد ومسالك الاجتهاد عند الطّاهر بن عاشور

يؤكّد منير بنجمور أنّ هاجس الشيخ محمّد الطّاهر بن عاشور ـ وهو يقرر المسألة السياسيّة ويؤصّل دعائمها ـ كان تحقيق المعادلة بين ثنائيّة الأصيل والوافد، فتراه يرصد المصطلح الإسلامي وما يقاربه في المعنى ممّا هو متداول في العصر الحديث، فبالإمكان إقامة المواءمة بين مرجعيتين مختلفتين إذا ثبت التوافق بينهما، ولعلّه بهذا المنهج التّوفيقي استطاع تحقيق أمرين اثنين، هما مدار الإصلاح في تلك الفترة: الانتصار للشريعة الإسلاميّة نصّا ومقصدا وتاريخا، وإقامة الدّليل على أنّها كانت سبّاقة في وضع أسس الدّولة الرشيدة بما لا يخالف أرقى ما بلغته الدّول تمدّنا وتحضّرا. والاستدلال على أنّ اقتباس التنظيمات القائمة على العدل والحرية لا تتعارض مع أصول الشريعة ومقاصدها وأمر مستحسن؛ لأنّه يحفظ مصالح العباد والبلاد. وهذا الاستدلال يقيم الدليل على أنّ ما ذهب إليه ابن عاشور هو امتداد لتيار إصلاحي تونسي أصيل وضع لبنته خير الدّين التونسي، يضيف بنجمور.

في هذا الإطار يشير بنجمور إلى أنّ المنحى التوفيقي الذي سار عليه ابن عاشور لا يلغي التجديد من داخل المنظومة الإسلامية، من جهة ما هو مراجعة للمفاهيم السياسية الموروثة، مراجعة يتمّ بمقتضاها التمييز بين ما هو وحي وما هو تاريخ، أي بين الوحي الإلهي المتلو أو المروي، والوعي البشري المحكوم بظروف الزمان والمكان. وأكبر دليل على ذلك، ترجيح الشيخ ابن عاشور الشورى كطريقة لاختيار الخليفة على الوصيّة والعهد، إذ أدرك ابن عاشور أنّ الشّارع سكت عن هذا الأمر وأوكل شأنه للناس بحسب ظروفهم.

 

يقول ابن عاشور في هذا المقام في مؤلّفه "أصول النّظام الاجتماعي في الإسلام": "ولعلّ حكمة السكوت عن هذا الأمر قصد التّوسعة على الأمّة في طرق اختيار ما يليق ومن يليق بحال مصالحها في مختلف الأحوال والأعصار والأقطار، ومن حكمة ذلك ألا يكون لوليّ الأمر دالّة على الأمّة بحقّ أو وصيّة".
 
الفكر السياسي الإسلامي والتفاعل مع مجريات الواقع

يخلص أ.د منير بنجمور إلى أنّ ما استقرّ عليه القول عند أغلب الدّارسين والمحقّقين اليوم، هو أنّ الفكر السياسي الإسلامي لم تتشكّل معالمه، ولم تتبلور مكوّناته باستنطاق النّصوص التّأسيسيّة واستنباط الأحكام واستمداد القيم منها فحسب، وإنّما كان أيضا بالتّفاعل مع مجريات الواقع، فكان الفكر السياسي الإسلامي بالاعتبار الثاني انعكاسا للممارسة السياسية التي كانت تجري في سياق حركة التاريخ بدءا من العهد النبوي، وفي خضمّ صراع المصالح وتوازن القوى بين الفرق والمذاهب والأحزاب والطوائف.

في ذات السياق، يؤكّد بنجمور أنّ كلّ تجربة من التّجارب السياسيّة التي تعاقبت على التاريخ الإسلامي، تعدّ أنموذجا للسلطة، وأنّ ما كتبه فقهاء الأحكام السّلطانيّة تحت إكراهات الواقع لا يخلو من حرص على بناء صورة نمطيّة لسلطة الأنموذج تتخطّى قانون التغيير وتتجاوز مبدأ النّسبيّة، لترسي بالفكر السياسي الإسلامي إلى النمطيّة والوثوقيّة.

إزاء هذه الحقائق التاريخيّة، عبّرت النّخبة في البلاد العربيّة الإسلاميّة ـ على امتداد القرنين الماضيين ـ عن وعيها العميق بخطورة المسألة السياسيّة ضمن مشاريعها الإصلاحيّة، حتى غدت هي القضيّة المحوريّة. وكانت صدمة الحداثة القادحة لمراجعة الموروث الفقهي في هذا المجال بعيدا عن كلّ أشكال التبرير أو التوظيف، لا سيّما وقد تأكّد بروز أنموذج مضاد للحكم تبلور بفعل أفكار فلاسفة الأنوار.

وقد تنامى الجدل الفكري في خضمّ صراع المرجعيّات، فتصدّت طائفة للوافد بالرّفض واحتمت بالموروث بما هو جزء من الهويّة، وتفاعلت طائفة أخرى معه وتحمّست له لضمان الانخراط في تيّار الحداثة، وحاولت فئة ثالثة تحقيق معادلة بين الفكر السياسي الأصيل والفكر السياسي الدّخيل، بما يعني الإلحاح على اقتباس التنظيمات التي لا تنافي أصول الشريعة ومقاصدها.


التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم

خبر عاجل