في مثل هذا التوقيت من كل عام، ينشغل
المصريون بشهر رجب، الشهر الحرام، الذي يمثل محطة مهمة على طريق الاستعداد لرمضان، تستدعي البحث عن فضائل الأعمال والتخطيط لاستقبال الضيف الكريم. وبينما ينشط أئمة المساجد والخطباء في إلقاء المواعظ حول الأعمال التي يمكن القيام بها، وسبل الاستعداد لرمضان، تأخذ الشبكة العنكبوتية حيزا من البحث والنقاش حول هذه الأمور، في ظل وجود كلمات مفتاحية على محركات البحث تساعد الراغبين على معرفة المزيد.
وعوضا عن ذلك، وبدلا من الاستفادة بهذا الزخم السنوي حول شهر رجب، تصدر "
الشهر العقاري" ليحل محل الشهر الحرام؛ فغصت محركات البحث في مصر بالتساؤلات عن الإجراءات الجديدة المزمع اتخاذها، وأفردت وسائل الإعلام والقنوات التلفزيونية مساحات واسعة للحديث عنها، بمناسبة قرار تسجيل
العقارات الذي يلزم المواطن بالإفصاح عن ممتلكاته العقارية وتسجيلها، سعيا من الحكومة إلى إيجاد كود عقاري لكل وحدة سكنية، أو رقم قومي مميز لكل عقار - كما يحلو للبعض - وذلك بعد القانون الذي أقره ما يعرف بالبرلمان المصري - إذا جاز التعبير - إثر تعديل المادة 35 من قانون الشهر العقاري، التي حددت طريقة جديدة لإشهار العقارات وتسجيلها، واشترطت إدخال الخدمات للعقارات المسجلة فقط.
تسعى الحكومة جاهدة لاستحلال أملاك المصريين وأموالهم، ويمارس المسؤولون هوايتهم المفضلة في التنغيص على المواطنين وتكدير صفوهم بتعديلات جديدة على قوانين متهالكة، من أجل إفراغ جيوبهم
وبالتزامن مع شهر رجب الذي جعله الله من الأشهر الحرم، ليسلم الناس على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، من جميع ألوان الأذى، تسعى الحكومة جاهدة لاستحلال أملاك المصريين وأموالهم، ويمارس المسؤولون هوايتهم المفضلة في التنغيص على المواطنين وتكدير صفوهم بتعديلات جديدة على قوانين متهالكة، من أجل إفراغ جيوبهم واستزاف ما قد يتبقى لديهم من مدخرات.
التعديلات الجديدة على قانون الشهر العقاري
والمزمع تطبيقها خلال الشهر الحالي، تمثل تهديدا للملكية الفردية، التي لن تثبت - وفق التشريع الجديد - إلا بإجراءات طويلة ومعقدة، لم يتمكن مقدمو برامج "التوك شو" من شرحها أو تبسيطها للمواطنين على مدار ساعات متواصلة استضافوا خلالها من يعتبرونهم خبراء في هذا الشأن، فيما لم يستطع هؤلاء وغيرهم تبديد مخاوف كثير من المواطنين من إجراءات تحديد الثروة العقارية أو توثيق الملكية، لأن الإجراء ربما يتخذ تكئة لفرض
ضرائب جديدة قد يرتفع مقدارها وفقا للقيمة السوقية للعقار. وهذا الأمر ليس بمستبعد، نظرا لأن الحكومة المصرية دأبت على اتخاذ قرارات من شأنها تبديد أموال المصريين دون دراسة العواقب والمآلات، وليس أدل على ذلك من الغرامات الضخمة التي فرضت للتصالح في
مخالفات البناء، وما تبعها من غضب شعبي واسع النطاق، انعكس على هيئة مظاهرات غير مسبوقة في القرى خلال أيلول/ سبتمبر من العام الماضي، لتضطر الحكومة في النهاية إلى تخفيض تلك الضرائب من أجل تهدئة الرأي العام وإيقاف هذه التظاهرات.
المواطن المصري يدفع ولا يحصل على مقابل، وعندما يتعلق الأمر بأبسط حقوقه كتوصيل المرافق يترك لإجراءات عقيمة لا تنتهي، ويجبر في النهاية على إتمام الخدمة بالجهود الذاتية
وكما هو الحال دائما، لم يدرك صانع القرار في مصر ما قد يصيب السوق العقاري من ركود بعد تطبيق الإجراء الجديد، الذي ألغى "صحة التوقيع"، الذي كان يسهل على الجميع استصداره لإعطاء نوع من الحجية لعقود البيع والشراء من المحكمة المختصة. ويتوقع أن يؤدي ذلك إلى تراجع في عمليات البيع والشراء التي تلزم المتعاقدين بالتسجيل في الشهر العقاري برسوم ضخمة.
وعلى الجانب، الآخر ستفتح هذه الإجراءات الباب واسعا أمام التلاعب الذي سيحدث، من أجل تخفيض سعر العقارات في العقود الرسمية، سعيا إلى الهروب من رسوم التسجيل المرتفعة، والضرائب المحتملة بعد ذلك، إضافة إلى العزوف عن الشراء خوفا من صعوبة التسجيل، التي قد ينتج عنها عدم القدرة على توصيل المرافق، في حال وجود مخالفات - وهي موجودة دائما في المباني الجديدة - وما سينجم عن ذلك من صعوبة استغلال العقار في السكن، أو تأجيره، فضلا عن هبوط متوقع في الأسعار بسبب عدم التسجيل.
قد يخرج أحدهم ليعقد مقارنة بين ما يحدث في مصر حاليا، والإجراءات الضريبية المنتشرة في جميع دول العالم، ولا سيما الدول الغربية، لكن هذا من الإجحاف المبالغ فيه، فالمواطن في الدول الغربية يدفع الضرائب - وإن كانت مرتفعة بعض الشيء - لكنه يحصل في المقابل على تأمين صحي، وتعليم عالي الجودة، وبنية تحتية مميزة، وخدمات بلدية، ومرافق عامة تراعي آدميته، بينما المواطن المصري يدفع ولا يحصل على مقابل، وعندما يتعلق الأمر بأبسط حقوقه كتوصيل المرافق يترك لإجراءات عقيمة لا تنتهي، ويجبر في النهاية على إتمام الخدمة بالجهود الذاتية كما يحدث في كثير من القرى والأحياء الشعبية، ليتراجع دور الدولة ويتعاظم دور الفرد، وتزداد العشوائية على حساب التخطيط.
هذه الممارسات تقتل الانتماء لدى المصريين، الذين ضربوا أروع الأمثلة في الحفاظ على بلدهم بعدما سرت روح 25 يناير في عروقهم، فنظفوا الشوارع وزيّنوا الميادين، وأنقذوا الشركات الوطنية من الإفلاس، وحولوا أموالهم ومدخراتهم في الخارج إلى البنوك المصرية لدعم الجنيه، وكانوا على استعداد لبذل دمائهم من أجل مصر، لمجرد الإحساس بأنهم استعادوا ملكيتها، بينما يستميت الجالس على رأس هرم السلطة حاليا لإثبات امتلاكة صك ملكية مصر، ليتمكن بموجب ذلك أن يفعل ما يحلو له.
لا شك أن المواطن المصري في أمسّ الحاجة إلى من يدعمه بعد الإجراءات المتتالية التي تستهدف استنزافه نفسيا وماديا، وتدفعه دفعا إلى الهروب من وطنه في أقرب فرصة ممكنة، لكن الحل من وجهة نظري للمشاكل المستعصية تكمن في الداخل؛ فلا يمكن لأي حاكم مهما بلغ من عنفوان أو جبروت فرض الطاعة المطلقة على الشعب، ويتعين على الشعب تفعيل عوامل السيادة الكامنة لديه في الأوقات الحرجة، من خلال اتخاذ خطوات بسيطة لتأكيد تلك السيادة، أو الدلالة عليها، مثل "العصيان المدني"، الذي قد يشكل حلا مناسبا لمشاكل المصريين المزمنة خلال الفترة القادمة.