لن نغوص الآن في ملف "الطرد البريدي المسموم"، إذ كانت هناك معالجة تواصلية سيئة للغاية للملف من قبل مؤسسة الرئاسة، كما أننا لا نزال ننتظر بلاغا يقدم توضيحات أكثر بخصوص التحليل المخبري لمحتوى الطرد إن كان مسموما أم لا ومصدره حتى تكتمل الصورة بشكل أوضح. ما نعاينه في هذا المقال هو تفاعل الأطراف الإقليمية مع "الخبر المتداول". كانت المكالمات الهاتفية التي اتجهت إلى الرئيس من قادة دول ملفتة للانتباه من حيث سرعتها، قبل حتى صدور
بلاغ رسمي تونسي، ووضوح الرسالة السياسية التي تضمنتها. نحن لسنا إزاء مواقف داعمة اعتباطية، بل إزاء انكشاف الحزام الإقليمي الأقرب للرئيس التونسي.
أسرع تفاعل مع الموضوع كان التفاعل الرسمي الجزائري، وذلك قبل صدور أي معطى رسمي تونسي حول الطرد البريدي. ليس فقط مكالمة الرئيس الجزائري تبون، بل أيضا نشرها والتأكيد الواضح على دعم الرئيس
قيس سعيد، حتى إن عددا من
وسائل الإعلام المحلية اعتمدت على البلاغ الجزائري لأخذ الموضوع بجدية، ومثّل البلاغ الجزائري مناسبة لرواج الخبر حتى في وسائل إعلام إقليمية ودولية. وكان البلاغ الرسمي التونسي حول المكالمة لاحقا للبلاغ الجزائري، ولم يتعرض بشكل واضح للموضوع.
كانت المكالمات الهاتفية التي اتجهت إلى الرئيس من قادة دول ملفتة للانتباه من حيث سرعتها، قبل حتى صدور بلاغ رسمي تونسي، ووضوح الرسالة السياسية التي تضمنتها. نحن لسنا إزاء مواقف داعمة اعتباطية، بل إزاء انكشاف الحزام الإقليمي الأقرب للرئيس التونسي
لا أعتقد أن هذا الموقف الجزائري معني بدقة المعطى بقدر ما هو ما يرغب بوضوح في إيصال رسالة بأن الجار الغربي لتونس معني بكل تفاصيل الوضع، ومعني خاصة بدعم الرئيس التونسي إزاء أي تهديدات، والأرجح أيضا أنه معني بإظهار دعمه في سياق
التجاذب السياسي الداخلي، وما يمكن أن يحدث أيضا من استهداف له عبر عناوين "العزل" وغير ذلك.
الموقف اللاحق للموقف الجزائري كان بعد ساعات قليلة عبر اتصال وزير خارجية حكومة الوفاق الليبية مع وزير الخارجية التونسي، والذي أشار بشكل أوضح لحادثة "الطرد المسموم"، بما يعني تبنٍّ ليبي لتفاصيل لم يتم الإعلان عنها بعد من قبل الرئاسة التونسية. وقام رئيس حكومة الوفاق بعد يوم بدعم ذات الموقف وإظهار الدعم لموقف الرئيس التونسي. الموقف الليبي يعكس حرص حكومة الوفاق على أن تحافظ على علاقات قوية مع بوابتها الوحيدة نحو العالم الخارجي، أيضا لتفضيل تونس كمساحة وساطة مثلا على مصر التي لا يبدو أن السراج مرتاح لدورها في مسار المفاوضات الأخير.
الموقف الثالث اللافت هو الموقف القطري الذي تمثل في مكالمة من أمير قطر للرئيس سعيد، وذلك مباشرة بعد نشر أول بلاغ رسمي للرئاسة التونسية يفصّل فيها بعض ما حصل. قطر تبدو معنية بتطوير العلاقة مع الرئيس التونسي، الذي اختار أن يزور الدوحة في زيارة دامت أربعة أيام قبل أي عاصمة خليجية أخرى، قبل أشهر قليلة، وهو الأمر الذي لم يرق على الأرجح للمحور السعودي- الإماراتي.
الموقف القطري يبدو تعبيرا على رغبة الدوحة في اتخاذ مسافة من التجاذبات الداخلية، وعدم الاصطفاف مع الأغلبية البرلمانية التي تقودها حركة
النهضة. وبالمناسبة، لم يصدر رئيس البرلمان ورئيس حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي أي موقف إلا بعد الموقف القطري الداعم للرئيس التونسي، من خلال تدوينة في صفحته عبر فيها الغنوشي عن تمنياته بالشفاء لرئيسة الديوان التي فتحت الطرد، ولم يشر إلى الرئيس سعيد.
الرئيس التونسي سيواجه تحديات جدية داخلية وخارجية، وأن التهديد بعزله من قبل بعض الأوساط في الأغلبية البرلمانية، يعني في نهاية الأمر رغبة في التخلص منه
نحن هنا إزاء حزام جزائري- ليبي- قطري داعم للرئيس التونسي. وهذا الحزام بالمناسبة هو أيضا جزء من المجال الإقليمي غير المنخرط حتى الآن في التطبيع، إذ نلاحظ صمتا مغربيا ومصريا وسعوديا- إماراتيا مما حصل.
بالمناسبة، يجب أن نتوقع، بمعزل عن
موضوع "الطرد المسموم" الذي حتى
وإن تأكد فلا أعتقد أنه سيكون نابعا من جهة محترفة، أن الرئيس التونسي سيواجه تحديات جدية داخلية وخارجية، وأن التهديد بعزله من قبل بعض الأوساط في الأغلبية البرلمانية، يعني في نهاية الأمر رغبة في التخلص منه، وهو ما يمكن أن يلتقي مع رغبة أطراف أخرى إقليمية أو دولية غير مرتاحة للرجل.
twitter.com/t_kahlaoui