تقارير

أسماء مؤسسة للهوية وللتاريخ الثقافي الفلسطيني

إبراهيم طوقان مع طاقم هنا القدس- (أرشيف)
إبراهيم طوقان مع طاقم هنا القدس- (أرشيف)

قبل أن نتابع سلسلة شعراء "البذور المعممة للشعر والأدب الفلسطيني"، أريد الإجابة عن سؤال تكرر: هل هذه السلسلة مجرد تراجم لعدد من الشعراء؟ وما هي أهمية هذا التوثيق؟ 

إن ما جمعناه هنا من أسماء ليس لكل شعراء فلسطين. وإن هذه السلسلة هي لإثارة ودفع نفوس المهتمين إلى البحث في تلك الحقبة وشعرائها وأثرها على الشعر الفلسطيني في تهيئة المجتمع الذي شهد النهضة الأدبية الأهم في تاريخه، كونها الفترة التي حملت جنين هذه النهضة، والتي تثبت استمرار الشعر الفلسطيني وقِدمِهِ.

الأهمية الثقافية لهذا التوثيق

في الجانب الثقافي، يؤثّر توثيق شعر هؤلاء وغيرهم في اعتبار أن قطار الشعر العربي الفلسطيني لم يتوقف في ما يسمى "عصر الانحطاط"، وأن هؤلاء المذكورين في هذا التوثيق كانوا يُعتبَرون شعراء في عصرهم، ولكن شعرهم كان ملتزماً بالمعايير والمعاني والمحسنات اللفظية في شعر عصرهم، من غير تجديد مهم في الشكل والمضمون. 

ولكننا نستطيع أن ندّعي أن الذين تسلّموا دفّة الشعر والنقد في العالم العربي هم من التيار الذي يمكن اعتباره "التيار التغريبي" بشكل عام، بأفكاره ومفاهيمه ومعايير النقد الأدبي فيه (أذكر في دراستي الجامعية في الأدب العربي بجامعة بيروت العربية، كانت "قصيدة اليباب" للشاعر الإنجليزي ت. س. إليوت هي النموذج الأهمّ للشعر والنقد). وبالتالي فإن لهم موقفاً مسبقاً من السابقين لهم، وما يتعلق بهم.

وما حدث لاحقاً، في عصر "التجديد والنهضة"، أنه أُدخِل هؤلاء الشعراء في دائرة الشعر التقليدي الذي لا يُعتدُّ به. وأسمح لنفسي هنا أن أخالف بعض تيارات النقد السائدة التي اعتبرت أن الشعر الفلسطيني انطلق من إبراهيم طوقان وزملائه (جلال زريق وأبي سلمى ولاحقاً عبد الرحيم محمود)، ذلك أن هذا التصنيف له أسبابه الكثيرة التي يغلب عليها الطابع الإعلامي والسياسي والاجتماعي، وربما عامل الانتماء الديني بحسب بعض النقاد.

العامل السياسي يعود إلى أن وجود هؤلاء الشعراء كان بعد "سايكس بيكو" ثم الانتداب والمقاومة، حيث بدأ الغليان في فلسطين منذ وعد بلفور في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917، وبدأ تنفيذه في يوم سقوط القدس في 9 كانون الأول (ديسمبر) 1917. فأصبح الشعر الفلسطيني سياسيَّ المضامين، وبرز شعراء الثورات الفلسطينية، بدءاً من ثورة البراق (1929) مروراً بثورة القسام (1935) والثورة العربية الكبرى (1936- 1939) والنكبة (1948) وما تلاها في أتون اللجوء والمقاومة.

في ما يخص العامل الإعلامي، من البديهي أن يتواجد الإعلام في المناطق المشتعلة سياسياً وعسكرياً، بالإضافة إلى أن الإذاعة الفلسطينية التي أنشأها الاستعمار البريطاني في القدس من أول وأقوى الإذاعات العربية على الإطلاق، وقد كان يعمل فيها الشاعر الرائد إبراهيم طوقان، وجرى فصله بسبب مواقفه الوطنية.

 

العامل السياسي يعود إلى أن وجود هؤلاء الشعراء كان بعد "سايكس بيكو" ثم الانتداب والمقاومة، حيث بدأ الغليان في فلسطين منذ وعد بلفور في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917، وبدأ تنفيذه في يوم سقوط القدس في 9 كانون الأول (ديسمبر) 1917.

 



فضلاً عن احتكاك هؤلاء الشعراء بباقي شعراء بلاد الشام (درس طوقان في الجامعة الأمريكية في بيروت، وترعرع أبو سلمى في دمشق والسلط برفقة والده الشيخ سعيد الكرمي، وكان جلال زريق سوري الجنسية، وشارك عبد الرحيم محمود في ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق سنة 1941 حيث كان يعمل مدرساً).. هذا الاحتكاك الشامي، إذا صحَّت التسمية، طيّر أسماء هؤلاء الشعراء إلى القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد، وهذه العواصم لها تأثير مهم، فقد كانت بعد النكبة "تُكتب الكتب في القاهرة، وتُطبع في بيروت، وتُقرأ في بغداد".

أما في ما يتعلق في العامل الاجتماعي والتأثير العائلي الثقافي، فسنجد أن إبراهيم طوقان ينحدر من أكبر عائلات نابلس وأكثرها نفوذاً في جبل النار. وتولّى التدريس في أكبر مدارسها التي أسسها أحد أقربائه وهي مدرسة النجاح الوطنية التي أصبحت جامعة النجاح الوطنية لاحقاً. أما أبو سلمى فكان والده أزهرياً فقيهاً وناشطاً سياسياً وشاعراً تولى القضاء في دمشق والسلط (راجع مقالنا السابق: الشاعر الشيخ سعيد بن علي الكرمي)، وكان مع إخوته الخمسة من أبرز المثقفين الفلسطينيين في القرن العشرين. وكان والد الشاعر عبد الرحيم محمود، الشيخ محمود عبد الحليم من كبار شيوخ المذهب الحنبلي وشعرائه في نابلس، وكان ذا تأثير على محيطه الاجتماعي (سنُخصّص له مقالاً في هذه السلسلة)، وكل هؤلاء حَرِص أهلهم على تثقيفهم، فكان ما أرادوا..

وفي العامل الديني قولٌ.. فبعيداً عن هاجس المؤامرة، كان معظم شعراء ذلك العصر أزهريين.. ومثلما كان هذا أحد أسباب بروزهم في السابق، فقد أصبح فيما بعد أحد أسباب طمس تراثهم. وكانت الحجة في ذلك أن أسلوبهم جميعاً تقليدي وكلاسيكي، يخاف من التجديد، ويصبّ القصائد المنظومة المكرورة في قوالب قديمة في الشكل، ومحسنات لفظية تهمل المضمون والفكرة.

ربما كان في هذا جانب من الحق، لكن السؤال الذي نطرحه هنا: ألم يكن هناك حالات شاذة من هؤلاء الشيوخ، تقوم بما قام به الشعراء الجدد الذين "صادف" أنه لم يكن بينهم شيخ أزهري واحد؟

من هنا، وكي لا ينقطع التراث الثقافي، وكي لا يقال إن نهضتنا مستوردة وليست بنت الأرض، ولتتبع معالم الهوية الفلسطينية كما دونها نخبها في صيغ أدبية متعددة ستبقى هي الشاهد المادي للأجيال المتعاقبة، سنتابع في ترجمة هذه الشخصيات الأدبية التي تم تغييبها رغم أهميتها وتأثيرها..

 

*كاتب وشاعر فلسطيني

التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم