هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أستمر في تتبع أخبار وسير الأولين من شعراء فلسطين، ليس فقط من أجل إثبات دور المبدعين الفلسطينيين في إثراء المكتبة العربية والشعرية تحديدا، وإنما لرصد ملامح الإبداع الأدبي في هذه التجارب، باعتبارها جزءا من الهوية الفلسطينية.. وسأعرض اليوم لسيرة القاضى يوسف النبهان.
القاضي الشيخ يوسف بن إسماعيل بن يوسف النبهاني (1849 ـ 1932)، افتتح التعريف به خير الدين الزركلي في موسوعة "الأعلام" بأنه "شاعر أديب من رجال القضاء، نسبته إلى (بني نبهان) من عرب البادية بفلسطين، استوطنوا قرية (إجْزِم) ـ بصيغة الأمر ـ التابعة لحيفا في شمال فلسطين".
ولد في قرية إجزم في لواء حيفا سنة 1849م، وتوفي فيها سنة 1932، ودرس في الأزهر مدة سبع سنوات، وله مؤلفات كثيرة، من أشهرها "المجموعة النبهانية في المدائح النبوية ـ أربعة أجزاء". ويُعتبر النبهاني كبير مُصنِّفي الكتب وناظِمي الشعر والقصائد المطولة بين علماء فلسطين وشعرائها في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
وتستحق حياته أن ندخل في تفاصيلها لنسبر أغوارها ونطلع على رحلاته المهنية والمناصب العلمية ودوره في الحياة العامة.
في طفولته وصباه، قرأ الشيخ يوسف على والده القرآن وبعض المتون، ثم أرسله أبوه إلى مصر لإكمال تحصيله العلمي سنة 1866، وجاور الفتى يوسف (16 عاماً) الأزهر الشريف ستة أعوام عاد بعدها إلى البلد وعُيّن للتدريس في جامع الجزار في عكا.
وبعد عام واحد، سنة 1873، تولى نيابة القضاء في جنين، ثم توجّه سنة 1876 إلى الآستانة وبقي فيها نحو عامين ونصف العام. وهناك اشتغل محرراً في جريدة "الجوائب"، وفي تصحيح الكتب التي تُطبع في مطابعها. ثم عُيِّن قاضياً عند الأكراد في الموصل، وبعد 15 شهراً جاء إلى الشام، ومنها إلى الآستانة حيث أقام لمدة عامين، ألّف فيها كتابه "الشرف المؤبد لآل محمد" (وهو كتاب اطّلعتُ على نسخة منه، محققة سنة 2015 في فلسطين، الشيخ أحمد بن منصور قرطام، وكتب اسم المؤلف فيه: قاضي القضاة يوسف بن إسماعيل النبهاني الشافعي الفلسطيني).
غادر النبهاني الآستانة إلى اللاذقية ليتولى رئاسة محكمة البداية سنة 1883، وأقام فيها نحو خمسة أعوام. ثم عاد إلى فلسطين فتولى رئاسة محكمة الجزاء في القدس، وفيها اجتمع بالشيخ حسن أبي حلاوة الغزّي، الذي لقّنه الطريقة القادرية وبعض الأوراد والأذكار، ولم يمضِ عام واحد حتى رُقّي إلى رئاسة محكمة الحقوق في بيروت، وأقام فيها ما يزيد عن عشرين عاماً، حتى فصل من وظيفته سنة 1909م. وفي بيروت ألّف معظم كتبه وطبعها، وهي أكثر من عشرين كتاباً.
وبعد فصله من وظيفته في بيروت، أصبح حراً فاختار أن يجاور قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، حتى الحرب العالمية الأولى و"ثورة الشريف حسين"، فهاجر من الحجاز وعاد إلى قريته إجزم، مسقط رأسه. واعتزل السياسة والتزم الصمت في فترة الانتداب البريطاني. وهذا مما يُسجَّل عليه حيث لم يشارك بالحراك السياسي في فلسطين (ربما لِكبر سنّه وعدم وجود موقف ديني موحد يؤيد فكره الصوفي)، وتوفي في قريته عن 83 عاماً في 18 كانون الثاني (يناير) 1932.
مكانته العلمية وأسلوبه
كان للشيخ النبهاني مكانة علمية عالية في زمنه وبين أقرانه.. حيث حصل على إجازات علمية كثيرة ناهزت خمسين إجازة ذكرها في كتبه. وترك مجموعة من الأشعار النبوية جامعة بين الفصاحة والبلاغة والمحسّنات البديعية. وقد مدح بعض المسؤولين في شبابه واعتذر عنها فيما بعد.
امتاز أسلوبه بالمتانة والبعد عن الركاكة، وهو أشبه ما يكون بأسلوب العصر العباسي الأول نثراً وشعراً، حسب يعقوب العودات في كتابه "أعلام الفكر والأدب في فلسطين"، لكنه تأثر بعصره في ما يخص المحسّنات البديعية.
ويُروى عن الأديب إسعاف النشاشيبي قوله عن النبهاني: "لولا ضيق أغراض الشعر عند الشيخ لوضعته في صفّ شوقي"، وقد انحصرت أغراض الشعر عند الشيخ في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم والدفاع عن الإسلام.
ترك الشيخ النبهاني ثروة علمية كبيرة، وهو يُعتبر الأول في عصره من حيث كثرة المؤلفات، كتب في التصوّف والأدب والحديث والتفسير والتاريخ. ويقول عنه العودات: "وقد وجدت له في دار الكتب المصرية ما يقرب من 67 كتاباً".
ظفر بشهرة واسعة لغزارة شعره، وكثرة مؤلفاته في الحديث والتصوف وعلم الكلام ومصطلح الحديث. وأكثر ما اشتهر به المدائح النبوية. وفي همزيّته الألفية المسمّاة "طيبة الغرّاء في مدح سيّد الأنبياء" التي عارض فيها همزية الإمام البوصيري المسمّاة "أم القرى في مدح خير الورى" وزناً وقافيةً، وقال النبهاني في مطلعها:
نورُكَ الكُلُّ والورى أجزاءُ.. يا نبيّاً من جُندِهِ الأنبياءُ
روحُ هذا الوجودِ أنتَ، ولولاكَ.. لدامتْ في غَيبِها الأشياءُ
مُنتَهى الفَضلِ في العوالمِ جمعاً.. فَوقَهُ من كَمالِك الابتداءُ
لم تزل فوق كلِّ فوقٍ مُجِدّاً.. بالتّرقّي ما للترقّي انتهاءُ
جُزتَ قدراً فما أمامَكَ خلقٌ.. فوقَكَ اللهُ والبرايا وراءُ
خيرُ أرضٍ ثويتَ فهي سماءٌ.. بك طالتْ ما طاوَلَتها سَماءُ
ويمضي بهذه القصيدة حتى يتمّ ألف بيت، وقد ضمنها سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويذكر كامل السوافيري في كتاب "الأدب الفلسطيني من عام 1860 ـ 1960" أن هذه القصيدة امتازت بحسن التقسيم والترتيب، حتى صارت فريدة في بابها، حَريّةً بأن تدرّس وتحفظ ممن يهمهم مدح الرسول ومعرفة سيرته وفضائله ومعجزاته.
ختاماً، هذا واحد من شعراء فلسطين الذين سبقوا عصر نهضة الشعر في فلسطين، نافس كبار الشعراء، وصنفه النشاشيبي بمستوى أمير الشعراء أحمد شوقي، وعدّه الأمير الأديب شكيب أرسلان "من أشعر شعراء العصر". فإن لم يكن رائداً لعصر النهضة فإنه من البذور والجذور التي أطلقت هذا العصر الأدبي الفلسطيني الكبير.
* كاتب وشاعر فلسطيني