هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تدريبات نسور النيل وضرب سد النهضة
في مقطع فيديو صاحب بيانا للمتحدث العسكري في جيش النظام المصري على صفحته الرسمية عن تدريبات نسور النيل التي تنفذها قوات جوية وخاصة من الجيشين المصري والسوداني، ظهر عدد من المقاتلات روسية الصنع مثل (ميغ 29، وسوخوي 25، وطائرات أنتونوف، ومي 17، وهي طائرة مروحية مهمتها البحث والإنقاذ، ومي 24 وهي مروحية هجومية روسية الصنع).
وبحسب بيان المتحدث العسكري المصري، فإن التدريبات تضمنت مرحلة تجهيز وإقلاع الطائرات المتعددة المهام والمروحيات لتنفيذ المهام التدريبية، مبينا أن التدريبات شملت مهام الاستطلاع والاعتراض والمعاونة الجوية والأرضية، والهجوم والدفاع عن أهداف حيوية، وأعمال الدعم الإداري إلى جانب تنفيذ بعض المهام للقوات الخاصة من البلدين ومهام البحث والإنقاذ القتالي.
وحملت جملة "والهجوم والدفاع عن أهداف حيوية" معاني كثيرة وفتحت بابا للاحتمالات والتكهنات، عززتها كتائب النظام الالكترونية في مقاطع فيديو وتحليلات ومنشورات مكتوبة ومصورة بأن النظام قرر ضرب سد النهضة، وهي الرسالة التي أرادها النظام من خلال التدريبات. ولعل وجود رئيس أركان جيش النظام في التدريبات كان لتعزيز هذه الفكرة أيضا، وهي الفكرة التي يعضدها وضع المباحثات المتعثرة بعد انسحاب السودان منها.
ربما الظروف مهيأة لضرب سد النهضة
فقد تعثرت مفاوضات سد النهضة رغم الأمل الذي أعطاه وزير الري في النظام المصري، وتخطيطه لعقد لجان تعقد اجتماعات ينبثق منها اجتماعات تصدر قرارات تحيلها إلى لجان، وهو ما تناولناه في مقال "هذا ردهم.. فهل نسمع من النظام المصري ما يريح القلب؟". وإثيوبيا ترغب في هذه المماطلات، ولأن النظام ولأمر غير مفهوم يجاريها في هذا المضمار رغم وقف المفاوضات في السابق ثم العودة إليها بنفس التكتيك والتكنيك الذي حذر منه كل مخلص يخاف على حق مصر في حصتها التاريخية من مياه النيل، إلا أن النظام المصري عندما عاد للمفاوضات عاد بنفس الوتيرة دون إبداع أو تجديد، وهو ما أغضب الجانب السوداني واضطر وزير الري السوداني للانسحاب من المفاوضات وقال قولته الشهيرة: "أصرت مصر وإثيوبيا على الاستمرار في التفاوض بالأساليب المجربة التي وصلت إلى طريق مسدود في السابق.. وعليه قرر السودان الانسحاب من المفاوضات".
هذا الموقف أتى بعد أيام من بدء التدريبات العسكرية "نسر النيل" التي يشارك فيها الجيشان المصري والسوداني، وهي التدريبات المبرمجة مسبقا، وهو ما يظهر عدم التنسيق لا بين الخارجية والري السودانية وجيشها، ولا بين الطرف السوداني والمصري بالأساس، وهو ما يؤكد أيضا أن التدريبات جاءت تحت ضغط المعارضة المصرية التي طالما طالبت بحلول إبداعية من النظام المصري، ولأن النظام لا يفهم إلا لغة القوة فقرر أن يبدع على طريقته.
ولعل قائل يقول إن الظروف التي تعيشها إثيوبيا في إقليم تيغراي تفتح الباب أمام تكهنات بتهيئة الظروف لضرب السد، ومن ثم تضع التدريبات المشتركة بين كل من الجيش المصري ونظيره السوداني في محل غير ذلك الذي من المفترض أن تكون فيه؛ لولا التهويل الإعلامي من الجانب المصري. وكذلك هذا الظرف الطارئ الذي تسارعت أحداثه خلال أسبوعين لا يمكن أن يكون أحد المعطيات التي دفعت لتدريبات نسر النيل، فالعالم بشؤون الجيوش يعرف أن التخطيط للتدريبات وتحريك القطع ونقل الجنود يحتاج أسابيع من الترتيب والتنظيم لتقليل الخسائر في المعدات والأفراد، هذا على المستوى الداخلي، فما بالنا بنقل قوات خارج حدود الدولة؟
هل يمكن للنظام المصري ضرب سد النهضة؟
الإجابة على سؤال: هل يمكن للنظام المصري ضرب سد النهضة؟ ليست قطعية بطبيعة الحال، فالسياسة متغيرة والتنبؤ ردود الأفعال أو الأفعال نفسها يُبنى بالأساس على دراسة عوامل كثيرة، منها شخصية الفاعل وشخصية المفعول به، وكذا الظروف المحيطة، والفواعل، والمؤثرات في هذا الفعل أو في محيطه، ويمكن تقسيم هذه العناصر إلى فنية وعلاقات دولية وعسكرية..
الأسباب الفنية
إذا بدأنا بالأسباب الفنية نجد أن العوامل الفنية مثلا بحسب الخبراء تمنع الإقدام على توجيه ضربة عسكرية لسد النهضة الإثيوبي، بعد أن دخل خزان السد مرحلة الملء منذ ما يقارب الأربعة أشهر، وهو الملء الأول للخزان والمقدر بـ4.9 مليارات متر مكعب، والذي جاء بعد يوم واحد من من القمة الثلاثية برعاية أفريقية، والتي جمعت رؤساء دول وحكومات مصر والسودان وإثيوبيا، وأكدت بحسب بيان الرئاسة المصرية "أهمية مواصلة المفاوضات والتركيز في الوقت الراهن على منح الأولوية لبلورة اتفاق قانوني ملزم بشأن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة"، وهو ما يكشف استراتيجية إثيوبيا في التعامل مع الملف.
لكن الأهم هو حجم الملء الذي يصعب معه بأي حال من الأحوال الإقدام على ضرب السد في حضور هذه الكميات التي تزداد مع الوقت، لما ستنتج عنه من آثار، مبتدئة بفيضانات، قد لا تؤثر على مصر في مراحلها الأولي، لكن مع وجود مخزون كبير في بحيرة السد العالي فإن المفيض وكذا جسم السد سيتأثران مع الوقت.
وعلى الجانب السوداني، فسيكون الأثر أكبر بكل تأكيد لقرب السد من الحدود السودانية، وسيؤثر بكل تأكيد ليس فقط على الأراضي والمزارع التي لم تتعافَ من فيضان آب/ أغسطس الماضي وآثاره، بل سيزيد الأمر سوءا مع تأثر سد الروصيرص تحديدا، والذي ستصل المياه إليه في حال ضرب سد النهضة خلال ثماني ساعات، وإلى سنار خلال يوم، وإلى الخرطوم خلال ثمانية أيام، مخلفا دمارا كبيرا خلال مساره، وهو ما يجعل السودان يفكر كثيرا قبل الإقدام على هذه الخطوة.
أسباب دولية
ولعل الأسباب الدولية أكثر تأثيرا على متخذ القرار في مصر؛ لأنه بعد سبع سنوات يبحث عن شرعيته ويقدم لذلك كل غال ونفيس حتى السيادة، فلا يخفى على أحد أن السد الممول من الصين؛ تدخل أمريكا شريكا فيه لدوافع استراتيجية تكمن في عدم رغبتها في ترك الصين في القرن الأفريقي تغرد منفردة. ولكل من السعودية والإمارات استثمارات في السد وفي إثيوبيا. والإمارات تريد أن ترسخ أقدامها في إثيوبيا، الدولة الأكبر في القرن الأفريقي، لحماية مصالحها في كل من جيبوتي وإريتريا.
كما أن المجتمع الدولي لا يتحمل صراعا في منطقة حساسة كالقرن الأفريقي الذي يشرف على واحد من أهم المضايق في العالم، وتمر منه ما يقارب 12 في المئة من حجم التجارة العالمية يشكل النفط نسبة كبيرة منها، لذا فإن العالم الذي دفع باتجاه الحل السلمي بالمفاوضات من خلال الاتحاد الأفريقي وبرعاية الأمم المتحدة؛ لن يقبل بشكل أو بآخر أن يتم تهديد هذا الجزء الحساس من العالم، ومن ثم فإن العقوبات تنتظر من يهدد السلم والأمن في هذه المنطقة.
ومع اقتراب تسلم الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن لمقاليد الحكم في أمريكا، فإن تصريحات على شاكلة "إنه وضع خطِر جدا، لأن مصر لن تكون قادرة على العيش بهذه الطريقة، سينتهي بهم الأمر إلى تفجير السد، قُلتها وأقولها بصوت عال وواضح: سيُفجرون هذا السد. وعليهم أن يفعلوا شيئا".. هذه التصريحات المحرّضة لم يعد لها مكان في عالم يحاول تصحيح خطئه في السنوات الأربع الماضية. فبايدن المخضرم يفهم قواعد اللعبة ويعرف كيف تدار من خلال السياسة لا حلبة المصارعة، لذا فإن الإقدام على ضرب السد سيوجه بالرفض بكل تأكيد من الإدارة الأمريكية الجديدة، إلا لو اتخذ القرار سريعا ونفذ قبل ذلك، وهو ما سيعرض النظام المصري لعقوبات وسيفتتح أربع سنوات عجاف عليه في ظل البحث المستمر عن الشرعية.
أسباب عسكرية
قد يكون في الظاهر ومن خلال تدريبات "نسور النيل" أن هناك تقاربا بين النظامين في مصر وفي السودان، لتشابه كبير بينهما كونهما عسكريين وأتيا بانقلاب ويبحثان عن شرعية ويرانها في التقرب من الكيان الصهيوني وتقديم المزيد من التنازلات على حساب شعبيهما، وهو ما جعل السودان مثلا يفتح أراضيه لمغامرة مصرية لا أظن أنها ستكتمل بعد تغير الحال في أمريكا تحديدا. لكن على المستوى العسكري، فإن السماح لسلاح الطيران المصري بالمرور من أجوائه لضرب السد يعني إعلان السودان الحرب ضد إثيوبيا، وهو ما يعرضه لضربات انتقامية، لا يحتملها مع حالة السيولة السياسية التي يعيشها السودان.
كما أن المقاتلات المصرية لا تتمتع بنفس كفاءة نظيرتها في البلد المصدّر، فهي محدودة من حيث خزان الوقود والتصويب والقوة النارية، وهو ما يحتاجه تدمير سد. كما أن الوصول إلى السد ليس نزهة جوية مع دولة تصنف كقوة كبيرة في أفريقيا، فعملية التمويه والاقتحام مفتقرة في السلاح المصري، كما أنها تفتقر للقنابل الذكية التي تخترق التحصينات. وإذا نجحت طائرات الرافال المصرية في الوصول إلى السد وتجنبت الدفاعات الجوية الإثيوبية، فإن القوة النارية لها لن تلحق بالسد سوى أضرار محدودة.
كما أن الملاحظ في تدريبات "نسور النيل" أن الطائرات المستخدمة روسية رغم وجود طائرات غربية ضمن تسليح الجيش السوداني، وهو ما يؤشر عن رفض أمريكي وغربي لما يمكن أن يقدم عليه النظام في مصر، وهو تحذير مبطن فهمه النظام في القاهرة وحرص على تنفيذه، لذا فرسالة التدريبات واضحة وعلى خلاف ما يحاول إعلام النظام ولجانه الإلكترونية ترويجه؛ من أن النظام سيضرب سد النهضة، لكن الحقيقة فيما يبدو تنتهي عند ذلك "الشو" الإعلامي، وتهديد بوجود ورقة ضغط على إثيوبيا فقد قيمته بفقد ترامب مقعده في البيت الأبيض.