لم تحظ تجارب سجناء الرأي السعوديين بالتغطية الإعلامية اللازمة، ليس بسبب ندرة المؤسسات الإعلامية التي تعنى بالشأن الخليجي عامة والسعودي على وجه الخصوص، ولكن لندرة الناجين من تلك السجون، الذين سمح لهم إما بالخروج وتأمين عائلاتهم، أو ممن أقدموا على البوح بما عايشوه في السجون
السعودية.
ولقد كانت تجربة المخابرات السعودية مع الكاتب والإعلامي جمال خاشقجي، الذي قتل بطريقة بشعة في قنصلية بلاده في إسطنبول، واحدة من أفظع التجارب التي عكست طبيعة تعامل السلطات السعودية مع خصومها السياسيين..
عدا ذلك، اقتصر أمر السجون السعودية على ما تصدره المنظمات الحقوقية الدولية، وهي شحيحة، بالنظر إلى المعلومات الضئيلة عن حال المعتقلين، فضلا عن أن جزءا كبيرا من هؤلاء المعتقلين، لا سيما في السنوات الأخيرة، هم من أنصار علماء الدين الإصلاحيين، الذين يواجهون حربا ضروسا استهدفتهم منذ اندلاع ثورات الربيع العربي أوخر العام 2010 من تونس.
الناشط السعودي المعارض سلطان العبدلي، الذي اختار المملكة المتحدة مقرا لإقامته، صدم أفق التوقع، وأصدر كتابا هو أشبه بيوميات سجين سابق، في
كتاب حمل عنوان: "سجين الحرم: 200 يوم في ضيافة المخابرات السعودية"، الصادر عن مركز الجزيرة العربية لتعزيز الحريات، في أيلول (سبتمبر) 2020.
يروي الكتاب، الذي توشح غلافه باللون الأسود، والذي يغطي 271 صفحة من الحجم المتوسط، قصة سلطان العبدلي، نشأته وتكوينه الاجتماعي والديني والفكري.. وهو عبارة عن مجموعة من الخواطر التدوينية لمسيرة سلطان العبدلي التي تعكس في جزء كبير منها نشأة جيل الإصلاح السلمي في المملكة العربية السعودية، الذي تربى على قيم الإسلام التي تكرم ابن آدم، وتشرب الثقافات الحديثة من خلال إقدامه على المطالعة وتعلم اللغات الأجنبية، بل إن كثيرا من أبناء السعودية تلقوا تعليمهم الجامعي في العواصم الغربية.
يقول العبدلي في مقدمة كتابه مبررا اختيار عنوانه: "فبعد الرصد استشرت عددا من المحبين، ومنهم أبو عمرو الدكتور محمد الأحمري والدكتور محمد الشنقيطي، وكان في ذهني أسماء ظننتها ملفتة ومعبرة، ولكن بعد الشورى، انقدح في ذهني عنوان لهذه التجربة، وكنت كلما لقيت من أثق بعقله وأدبه وعلمه، طرحت العنوان بين يديه فإذا به يستحسنه، فعزمت على وسمه بـ: (سجين الحرم) 200 يوم في أقبية المخابرات السعودية".
ويضيف: "للارتباط الجغرافي بحرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والروحي والإسقاط مقصود، إذ كيف يكون سجن وظلم وحرم؟ تناقض لم يجمعها إلا هذا النظام البائس الذي تمسح بالإسلام، حتى لفظ نفسه تكريما للإسلام من ممارسات الخداع والمداورة، حيث العواهر أصبحن يمتطين الكورنيش جوار الحرم!".
وحول مضمون الكتاب، الأقرب إلى المذكرات والسير الذاتية، قال العبدلي: "ذكرت ما يمكن أن يقال إنه نافع ومفيد، وذكرت فيه أحزانا ومآسي مبكية ولطائف وأحوالا ورؤى، وحتى لا أثقل على القارئ، لاسيما أنه موضوع يهم الجميع، حاولت وعلى سجيتي التي أحبها أن أقدمه تقديما مباشرا مكسوا بالأدب والشعر، وذكرت شيئا من الخلفية الدينية وزمن الصحوة، وهو ليس كزمان الصمت الذي نحياه الآن، حيث كانت مرحلة ثرّة مفصلية، ثم عرجت على النسب والمرابع وما تفيأت ظلاله من البلاد ولمحة عن حركة دؤوبة في حب السياسة، وقد كرعت سلاف الوعي المبكر، وثم مراحل مهمة، ومنعرجات لا ينبغي إغفالها، ولا أخفي أني مزجت العاطفة بالفكرة والتجربة بالذكرى، وظللت على هذا النسق في كل ما ذكرته، ومنه تتبين نفسي ولا أواريها، وقد اتفقنا على شرعة الوضوح، والاتفاق شريعة المتعاقدين".
بهذه المزاوجة بين الذاتي والموضوعي، وبين الوقائع والذكريات، وبين الحنين والوجع، جاء كتاب العبدلي مقسما على 51 خاطرة، هي عبارة عن تحقيب زمني لمسيرة حياته طالبا ثم داعية، مستفيدا من الدعوات الإصلاحية التي رافقت صعود الديمقراطيين الأمريكيين، وما أشاعته من روح انفتاح ديمقراطي في العالم ومنها السعودية.
يقدم العبدلي لقصته مع سجن المدينة المنورة بالحديث عن صورة السجن في التاريخ الإسلامي، لدى الفقهاء والشعراء والسياسيين، قبل أن يدخل إلى الكتابة عن تجربته في سجن المدينة المنورة، التي استمرت قرابة سبعة أشهر.. ومع الصورة النمطية التي نقلتها سير معتقلي الرأي من المنتمين للتيار الإسلامي عامة في العقود الخمسة المنصرمة، وربما كانت مصر في مقدمتها، فإن ما يميز تجربة العبدلي، هو طبيعة النظام السعودي التي ظلت حتى يوم الناس هذا محاطة بكثير من الغموض، سوى حكايات نادرة تتناقلها المنظمات الحقوقية الدولية.
لعل البارز في كتاب العبدلي، الذي اختار العاصمة البريطانية منفى له، هو طبيعة التيار الإصلاحي في المملكة العربية السعودية، وأن جل ما كان يطالب به فقط هو الحرية في اختيار الحكام بعيدا عن كل مظاهر الاستبداد بما فيها التوريث.
ضم الكتاب، الذي سيظل واحدا من الشهادات الحية عن السجون السعودية، مجموعة من القصائد الشعرية للكاتب نفسه، بعضها كتبها بالسجن، وبعضها الآخر كتبها بعد خروجه إلى المنفى، بالإضافة لعدد من الصور التي تؤرخ لأهم الحقب العلمية التي مر بها العبدلي، من الابتدائية إلى الثانوية إلى الجامعة، ثم السجن.