هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "تاريخ المرأة في المشرق العربي القديم"
الكاتب: د. عيد مرعي
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق 2020
عدد الصفحات: 350 صفحة من القطع الكبير
يواصل الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني في الجزء الثاني من عرضه لكتاب "تاريخ المرأة في المشرق العربي القديم"، للكاتب السوري الدكتور عيد مرعي، عرض صورة المرأة في المشرق العربي كما سجلها التاريخ.
مرحلة صعود زنوبيا إلى الحكم
لقد كان لقيام الدولة الساسانية في العام 266م، بعد انقلاب ثورة (أردشير بن بابك بن ساسان) على الملك (أرطبان) الخامس ملك ألبرث، وعلى ملك أرمينيا، أثر كبير في حياة الدولة التدمرية، ذلك أن الصراع بين الساسانيين والرومان سرعان ما انفجر على أشده، فاستغلت إحدى أسر تدمر العريقة هذا الصراع المتجذر أحسن استغلال، وزعيم هذه الأسرة هو (أذينة) من (بني السميدع) أذينة من أسرة قديمة معروفة تولى رجالها رئاسة تدمر والزعامة عليها، واستطاعت بفعل تأييدها للرومان وتقربها إليهم أن تكتسب ود القياصرة وعطفهم عليها والإنعام على أفرادها بالألقاب والأوسمة وبالمال في معظم الأحيان، وبالقوة والمعرفة وهي غاية كل سيد قبيلة وأمنية كل رئيس في مجتمع قبلي يقوم النظام السياسي والاجتماعي فيه على مفهوم الحكم القبلي في كل زمان ومكان.
ولم يتعرض الرومان لحكم أفرادها على المدينة إذ كانت أحكامهم لا تعارض أحكام (روما) ولاتصطدم بها وتركوهم يديرون شؤونهم عليها وفق السياسة الرومانية وإرادة القياصرة وأوامرهم التي يصدرونها إلى (المشيخة) فكانوا يعدونهم لدى قياصرة الرومان. غير أن هذه الحرب التي اندلعت بين الفرس الساسانيين بقيادة ملكهم شابورا الأول ابن اردشير (241 ـ 272) والجيش الروماني بقيادة فالريانوس، قادت إلى انتصار الفرس على الرومان، فاجتاح ملك الفرس أسيا الصغرى، وشمال سوريا وعاث فيها فساداً وخراباً.
وما أن عرف أذينة بانتصار شابور على الإمبراطور الروماني وأسره له، حتى نظم جيشه، وزحف على طيسفون وتقابل مع جيش شابور في معركة عنيفة على ضفاف الفرات، انتهت بهزيمة شابور هزيمة نكراء. وكافأ الإمبراطور الجديد جالينيوس بن فالبريانوس أذينة على هذا الانتصار الذي أحرزه على الفرس فأنعم عليه بلقب قائد عام على جميع جيوش الشرق في سنة 262م، وبدأ أذينة يسترجع أراضي الامبراطورية من الفرس فهاجم شابور في طيسفون ونجح في استرداد البلاد الشرقية. وكانت لهذه الانتصارات أثرها العميق في نفس الإمبراطور، فكافأه على أخلاصه مرة ثانية في سنة 264م/ بأن منحه لقب "امبراطور على جميع بلاد المشرق"، ولم يكتف أذينة بما ناله من تكريم فلقب نفسه أيضاً بلقب "ملك الملوك" ومنحه مجلس الشيوخ الروماني لقب أغسطس، وهو لقب أباطرة الرومان.. وعلى الرغم من هذه الانتصارات التي حققها أذينة ضد الساسانيين، إلا أنه قتل غدراً من قبل ابن أخيه حيران وقتل معه هيرود بن أذينة في سنة (266- 267م).
كانت زنوبيا، إلى جانب ذلك "تتمتع بثقافة عالية، فقد أجادت بالإضافة إلى اللهجة الآرامية التدمرية التي كانت سائدة في تدمر، اللغة العربية والإغريقية واللاتينية والمصرية القديمة. وقيل عنها إنها كانت تتكلم اللغة المصرية القديمة بطلاقة، وإنها وضعت كتاباً في تاريخ مصر القديم.
تولت قيادة الدولة التدمرية بعده زوجته الثانية زينوبيا، وتتمتع (الزباء) بشخصية قوية وفائقة في إدارة شؤون الدولة الكبيرة في الشرق الأدنى القديم، هذه الدولة التي تمتلك جيشاً قوياً يخيف الفرس، ويلحق بهم الهزائم العسكرية، ويحظى باحترام وتقدير الرومان. وقد ورثت الزباء مملكة كان لها أثرها الكبير في النزاع السياسي العسكري بين المعسكر الشرقي وهو معسكر الفرس، والمعسكر الغربي وهو معسكر الرومان، يساعدهم في ذلك التدمريون، وانتهجت الزباء سياسة عربية بعد أن رأت أنَّ الرومان هم أعداء تدمر وأنَّهم لايفكرون إلا في مصالح الرومان الخاصة.
استغلت الزباء حالة الضعف التي بدأت تدب في جسم الامبراطورية الرومانية، نتيجة الصراعات الداخلية في روما، واستنزاف الرومان في حروب مدمرة مع الساسانيين، وغزو البرابرة (الجرمان والقوط) للقسم الغربي من الامبراطورية الرومانية، فوضعت استراتيجية للاستيلاء على مصر بهدف توسيع رقعة بلادها شمالاً وجنوباً، خصوصاً وأن هذه الاستراتجية الحربية والسياسية كانت دوافعها تخدم مصالح تدمر الاقتصادية، إلا أنَّ السيطرة على مصر المشرفة على طريق الهند عبر الأحمر يجعلها متحكمة بصورة فعلية في طريق المواصلات بين الهند وعالم البحر المتوسط.
وهكذا استغلت الزباء حالة الإرباك في روما هذه، خصوصاً بعد انتصارها على الجيش الروماني ومقتل هرقلينانوس قائد هذا الجيش، ثم مصرع جالينوس عام 268 وانتقال عرش الامبراطورية إلى أوريليوس كلوديوس، فاستولت على مصر وألحقت بالجيش الروماني هزيمة كبيرة، وآلت مصر إلى زنوبيا.
وفي المرحلة التالية أرسلت جيشها إلى آسيا الصغرى، فاحتل الأناضول ووصل إلى مضيق البوسفور. وبامتلاك مصر وسوريا ومضيق البوسفور معاً، وضعت تدمر تحت سلطتها كل منافذ وطرق المواصلات البرية والبحرية مع الشرق الأقصى والمصادر الرئيسة لتموين روما في الوقت نفسه. وبذلك بلغت تدمر قمة مجدها السياسي في الربع الثالث من القرن الثالث الميلادي.
يقول الكاتب عيد مرعي: "كانت زنوبيا، إلى جانب ذلك "تتمتع بثقافة عالية، فقد أجادت بالإضافة إلى اللهجة الآرامية التدمرية التي كانت سائدة في تدمر، اللغة العربية والإغريقية واللاتينية والمصرية القديمة. وقيل عنها إنها كانت تتكلم اللغة المصرية القديمة بطلاقة، وإنها وضعت كتاباً في تاريخ مصر القديم. كما ادعت أنها من نسل الملكة المصرية المشهورة كليوباترا لكسب العظمة والتفاخر، ولتدبير استيلائها على مصر، وقلدتها في تصرفاتها اليومية في قصرها، من حيث اللباس وعادات المأكل والمشرب. وذكرتها في رسالتها تطلب مني الاستسلام وكأنك المنتصر، لكنك لا تعرف أن كليوبترا فضلت الموت كملكة على أن تعيش حياة الاستسلام والمذلة".
تأثرت "زنوبيا" بالفلسفة الإغريقية فدرستها وكانت تعقد مقارنة بين أعمال هوميروس وأفلاطون، وقربت منها الفيلسوف كاسيوس "لونجينوس" Longinus السوري المولود في حمص، الذي جعلته "مستشارها الخاص وكان قد درس الفلسفة في مدينة أثينا الإغريقية.. كان صوت زنوبيا واضحًا بحمل نبرة لبرجال، وإذا كان الأمر يتطلب الحزم كانت جادة حازمة، وإذا كان الموقف إنسانياً فهي لينة فطنة وسيدة مطاعة، استخدمت لركوبها عربة حربية ذات عجلتين وأحياناً ذات أربعة، وكانت تمتطي جواداً على الغالب، وتسير مع جيشها ورجالها على الأقدام لمسافة ثلاثة إلى أربعة أميال. كانت تهوى الصيد وتخرج له مع كلابها بحبٍ كبير، وتشرب مع قادتها، أما مع ضيوفها ـ من الفرس والرومان والأرمن والعرب، فتشرب مجاملة لهم حتى يقعوا ثملين. وقد وصفها المؤرخ الألماني "إدوارد غيبون " بقوله: "إنها كانت تتمتع بعبقرية فذة، وأنها أوتيت من الصفات، كالجرأة والشجاعة، ما رفعها إلى مرتبة البطولة. فقد عودت جسمها وبنيتها على التعب والجهد، فكانت ترتدي اللباس العسكري، وتمتطي الجياد، وتسير في مقدمة جيشها، وأنها بحسن بصرها بالأمور وجلدها وثباتها كانت خير عونٍ لزوجها أذينة في أداء مهام الحكم"(ص 105 من الكتاب).
بناء الدولة التدمرية واستقلالها عن الرومان
كانت "زنوبيا"، بالإضافة إلى الصفات السابقة، طموحة جداً تحلم بإقامة مملكة قوية مستقلة بزعامتها، معتمدة على جيشٍ قوي مدرب تركه لها زوجها أذينة الثاني، ومستغلة الأوضاع الصعبة التي كانت تعاني منها الإمبراطورية الرومانية في قسمها الغربي. وهذا ما برز بوضوح بعد اعتلائها العرش التدمري. فقد حاولت بعد العام 265م توسيع رقعة نفوذها لتشمل مناطق أوسع في وسط سوريا، مستغلة المشاكل التي كانت الإمراطورية الرومانية، القوة المسيطرة على الشرق آنذاك، تعاني منها أوروبا الغربية، غير أن الرومان تنبهوا لذلك، فأرسلوا جيشاً ادعوا أنه لمحاربة الإمبراطورية الفارسية الساسانية، إلا أنه كان في الواقع موجهاً ضد تدمر وملكتها "زنوبيا" تمكن الجيش التدمري من هزيمة ذلك الجيش وقتل فائده المدعو "هوكليانوس"، فاتسعت بذلك مساحة مملكة ؟زنوبيا" لتشمل جميع المناطق السورية، والأطراف الشمالية من شبه الجزيرة العربية، وبعض أجزاء من آسيا الصغرى، أي كل سوريا الطبيعية أو الكبرى.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فطموحات "زنوبيا" كانت أكبر من ذلك بكثير. فقد راحت ترنو بأنظارها نحو مصر، تلك المنطقة المشهورة بغناها وخصوبة أرضها، وتحكمها بطرق التجارة الدولية المارة عبر البحر الحمر والبحر المتوسط وقد جاءت الفرصة المناسبة للسيطرة عليها بعد مصرع الإمبراطور الروماني غالينيوس في العام 268، وانتقال السلطة إلى اوريليوس كلادوديوس 268 ـ 270 م ومهاجمة الجرمان والقوط للقسم الغربي من الإمبراطورية الرومانية، وخروج "بروبوس" حاكم مصر الروماني بأسطوله من الإسكندرية لمطاردة القراصنة والقوط.
يقول الكاتب عيد مرعي: "في خضم هذه التطورات قام بعض الزعماء المصريين وعلى رأسهم المدعو "تيماغينيس، والمدعو فيرموس بمراسلة "زنوبيا"، وحضها على القدوم إلى مصر، وإظهار استعدادهم لتقديم العون والمساعدة لها. فأرسلت في العام 270 م جيشاً إلى مصر قوامه سبعين ألف رجل بقيادة القائد المحنك "زبدا" وقد استطاع ذلك الجيش بعد خوض عدة معارك مع الرومان، إخضاع مصر لسلطة زنوبيا".
ويضيف: "بعد أن أدرك الرومان عجزهم عن مواجهة الجيش التدمري، اعترفوا لزنوبيا بالسيادة الفعلية على مصر، مقابل أن تبقى لهم السيادة الاسمية. وتم سك نقد تدمري في الإسكندرية في العام نفسه (أي 270م ظهرت عليه صورة "وهب اللات" ابن زنوبيا وصورة الإمبراطور الروماني الجديد "أورليانوس" (270-275)م ويعدُّ هذا دليلاً على اعتراف روما الفعلي بسيادة "زنوبيا" على مصر. في العام التالي، أي العام 271 م، لم تعد صورة الأمبراطور الروماني تظهر على النقد التدمري المسكوك في الإسكندرية. كان لهذا دلالة كبيرة، ألا وهي أن "زنوبيا" بدأت تفكر بالاستقلال عن الإمبراطورية الرومانية، ونزع نير الاحتلال الروماني عن مملكتها. والأمر الذي يؤكد ذلك أنها أطلقت على نفسها لقب "إمبراطورة"، وعلى ابنها لقب "ملك الملوك" (ص 107 من الكتاب).
اهتمت "زنوبيا" بإقامة المنشآت العمرانية في مملكتها، فشيدت بعض الأبنية في تدمر، وزينتها بالتماثيل والأعمدة والمنحوتات. وبنت حصناً على نهر الفرات سمته باسمها ليكون قاعدة للدفاع عن مملكتها ضد هجمات الفرس الساسانيين. كما أقامت حاميات عسكرية في آسيا الصغرى لصد الهجمات الرومانية المتوقعة من تلك الجهات، بعد أن ضمت أجزاء واسعة من آسيا الصغرى لمملكتها.
وبلغت تدمر في ذلك الوقت (بداية سبعينيات القرن الثالث الميلادي) أوج قوتها وتساعها، وتحولت من مجرد مدينة للقوافل والتجارة، أو مملكة صغيرة تابعة للإمبراطورية الرومانية، إلى مملكة مستقلة عظيمة الشأن يمتد نفوذها من آسيا الصغرى في الشمال إلى مصر في الجنوب، ومن سواحل البحر المتوسط الشرقية في الغرب إلى نهر الفرات في الشرق.
إقرأ أيضا: تاريخ المرأة في الشرق العربي.. زنوبيا نموذجا (1من3)