هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
المسار الديمقراطي في ليبيا تعرض لعقبات وحالت دون اكتماله عوائق كلها أو جلها ترجع إلى تفكير وفعل المؤثرين ممن يصنفون ضمن النخبة والنشطاء، لكن المسار اليوم يواجه تحديا أكبر وسابقة أخطر تتعلق ليس بمضمون مسودة الدستور، بل بالآلية التي تم التوصل إلى المسودة من خلالها.
أستطيع أن أضع بين يدي القارئ قائمة من الملاحظات على مسودة الدستور التي تم إقرارها بالأغلبية الصحيحة من قبل الهيئة التأسيسية في تموز (يوليو) من العام 2017م، بعض هذه الملاحظات جوهرية وتمس التأسيس الصحيح للانتقال وبناء الدولة على قواعد صحيحة.
إلا أن تحفظي لا يعطيني الحق في تعطيل عملية دستورية ديمقراطية تنتظر أن تستكمل مراحلها بعرض المسودة على الاستفتاء الشعبي، وذلك كما ينص الإعلان الدستوري، فإن أقرت صار للبلاد دستور شرعي عبر آليات ديمقراطية صحيحة، وإن رفض صير إلى تعديله وفق ما ينص الإعلان.
وتحفظي على موجة الرفض لمسودة الدستور ليس له علاقة بصواب أو خطأ التحفظات، فالمسودة عمل بشري من الممكن جدا أن يعتريه النقص أو يتلبس بأخطاء، وربما أشارك العديد من المتحفظين تحفظاتهم، إنما يرجع تحفظي إلى قلقي الشديد من مطالبتهم بتجاهل المسودة والبحث عن سبيل آخر لإقرار دستور!!
مطلب تجاهل مسودة الدستور، التي جاءت عبر مسار دستوري ديمقراطي، خطير لأنه يكرس التعدي على الانتقال الديمقراطي الصحيح ويفسح المجال لممارسات مشابهة لن تقوم بعدها للديمقراطية التي هي أساس الاستقرار أي قائمة في البلاد.
كثيرون، بل معظم من ترتفع أصواتهم احتجاجا على مسودة الدستور، لا يدركون خطورة أن تتجاهل المسودة، ولا يتوقعون أن يكون لهذا المسلك تأثيره المدمر على الانتقال الديمقراطي المنشود، فأن تعطي لنفسك الحق في تعطيل عملية دستورية ديمقراطية هو بمثابة تبرير لغيرك في أن يسلك المسلك ذاته في حال تحفظه على نتيجة من نتائج المسار الديمقراطي كانتخاب برلمان أو رئيس، أو مسودة دستور غير المسودة الحالية.
المسار الديمقراطي يضمن للمعارضين والمحتجين والمتحفظين فرصة لتحقيق رغبتهم بإسقاط مسودة الدستور، فما عليهم إلا التعبئة والحشد الشعبي لرفضها مستخدمين الحجة والمنطق وآليات العمل الديمقراطي، أما الإصرار على إسقاطها عبر إسقاط المسار الديمقراطي فهذا ليس فقط عجز وخيبة بل من قبيل وضع العصا في عجلة الانتقال الديمقراطي
ازدواجية المعايير التي تلبس بها قطاع كبير من النخبة والنشطاء والفاعلين السياسيين كانت ولا تزال من أبرز عوامل الإخفاق الذي نواجهه منذ العام 2011م. وتشكل هذه الآفة أبرز معاول تقويض مساعي التحول الديمقراطي، ذلك أنها تقوم على تبرير الموقف والممارسة والسلوك في حال كانت في مصلحتهم أو مصلحة من يمثلونه، ويقيمون الدنيا ولا يقعدونها إذا كان وقع الخصم في الممارسة والسلوك ذاته.
المسار الديمقراطي يضمن للمعارضين والمحتجين والمتحفظين فرصة لتحقيق رغبتهم بإسقاط مسودة الدستور، فما عليهم إلا التعبئة والحشد الشعبي لرفضها، مستخدمين الحجة والمنطق وآليات العمل الديمقراطي، أما الإصرار على إسقاطها عبر إسقاط المسار الديمقراطي فهذا ليس فقط عجز وخيبة بل من قبيل وضع العصا في عجلة الانتقال الديمقراطي التي تعثرت بسبب مثل هذه المواقف والممارسات.
سأكون سعيدا جدا إذا تم إسقاط المسودة عبر الآلية الدستورية والديمقراطية الصحيحة وهي الاستفتاء، وسأكون داعما لجهود من ينجحون في تكييفها وفق رؤيتهم إذا كانت الطريقة دستورية وديمقراطية، فما يشغلني هو تكريس الخيار والسلوك القانوني والديمقراطي، ووقف الفوضى والهمجية لنيل الحقوق.
وحول الإجابة عن سؤال "كيف للأقلية أن تضمن حقوقها دستوريا وهي تواجه أغلبية رافضة؟"، أقول إن كل الدول التي ترسخت فيها قواعد الديمقراطية فيها أقليات تكفل دساتيرها حقوقها كاملة، وكان ذلك عبر تعزيز قيم هي في صميم الانتقال الديمقراطي من عدالة واحترام للحقوق، فالوعي المجتمعي الذي يتطور مع ترسيخ الديمقراطية يحقق التفاعلات الإيجابية التي تضمن العدالة وتكفل الحقوق للجميع.
بينما يعزز سلوك الفوضى والتعدي على المسار الدستوري والديمقراطي الكراهية والعداوة والصدام، فالقوة تمنح تمييزا لا عدالة فيه، وتدفع إلى مكافأة الرفض بالقوة باستخدام الأسلوب ذاته وهو ما يعني سلسلة من حلقات الصراع الذي لا ينتهي.