(1)
الدولة الفاسدة أخطر وأفشل وأسوأ من المجتمع الفاسد، إذ تعجز أي دولة مهما كانت عظمتها أن تنجب مجتمعاً، بينما يستطيع كل مجتمع مهما تفسّخ وتخلّف أن يفرز قيادته ونمط إدارته وطريقة حكمه.
(2)
تلبستني هذا الصباح روح المرحوم ماريو بوزو الذي كتب عن عصابة تحولت إلى دولة، وفكرت في مسيرة "بيرناردو بروفينزانو" الذي صنع دولة المافيا وفرض حضورها المؤثر في مجال السياسة والاقتصاد والاستخبارات، حتى أن عملية "جلاديو" تشير إلى هذا التكتل الاندماجي بين رجال العصابات وقادة العالم والمخابرات المركزية الأمريكية..
بمقاييس الإنجازات التي تروق للسيسي (فيلسوف القوة الغاشمة)، يستحق "بروفينزانو" لقب الزعيم المعجزة أو رئيس مجلس إدارة العالم، فالرجل هزم شرطة العالم ومخابراته، وربح الكثير من الأموال وأصدر الكثير من القرارات والأحكام، ونفذ الكثير من المشروعات والعمليات الناجحة وتحكم في اقتصاد العالم وقادته، عبر "خطة جلاديو" التي تطورت هذه الأيام إلى اشكال أعقد وأحدث، لكن الزعيم الذي كان يفكر كدجاجة يقتل كقدر انتهى مفرغاً من الذاكرة، لأن العصابة التي ورثت عرشه كانت ترغب في دفن لسانه ومحو ذاكرته، بعد أن ارتدى رجال العصابات الياقات البيضاء وأصبحوا قادة في الشرطة والمجالس النيابية وقصور الحكم..
(3)
فكرت في حادثة عيسى الراوي الذي قتلته "سلطة تفكر كدجاجة وتقتل كقدر"، وسألت نفسي: عيسي وراوي؟.. أين الراوي لهذه الحادثة؟.. لقد حضر عيسى على مذبح الفداء بينما غاب الراوي، لدينا روايات كثيرة ملونة وحقيقة واحدة ملوثة، من المهم أن نجد الراوي الصادق لمثل هذه القصص الحزينة.
قلت مخاطباً روح بوزو الهائمة في سقف الغرفة: قولي لصاحبك الذي كتب عن "عصابة تحولت إلى دولة" أن يكتب لنا عن "دولة تحولت إلى عصابة"، فالظلم في هذه الحالة يصير أكبر، والسلب يصير أسهل، والدم يصير أرخص. فعندما تقتل الدولة وهي ترتدي ملابسها الرسمية يغيب الأمل في انتظار عدلٍ من قانون أو نفع من قصاص فردي، فالدولة الباطشة التي تفكر كدجاجة وتقتل كوباء تعطل الحياة الطبيعية، تحرّض على الكراهية والعنف، وتنشر الذل والخوف، وتصبح خطرا على الكرامة والأمن وسكينة البيوت.
(3)
ماذا تريد الدولة من دم عيسى؟
كيف تنظر إلى فعلها وكيف تتعامل مع ردة فعل العائلات الغاضبة من إهانة الدم؟
هل تعترف بالخطأ وتفكر في اعتذار؟
هل تتخذ خطوات جادة لمحاكمة عادلة؟
هل تغير نهجها في اقتحام البيوت بقوة مفرطة واستسالها في أسلوب التصفية، واستخدام ضباطها للسلاح في مواجهة الأهالي العزل؟
(4)
على مقربة من الأقصر وقف
السيسي قبل سنوات في أسيوط يتحدث عن السلام الدافئ مع إسرائيل، ويطالب بتوسيع كامب ديفيد ويغري الفلسطينيين بعسل السلام. وبعد أعوام قليلة نبت غصن الزيتون تحت عباءة أولاد زايد والعرب المتأمركة، لكن السلام الذي يروج له السيسي لا يعرف طريقه إلى الجبهة الداخلية، حيث تتصاعد الحرب الغاشمة ضد شعب لم يعد من حقه أن يتكلم أو يعبّر عن رأيه، أو يدافع عن أرضه، أو يترشح للانتخابات، أو يحمي بيته وكرامة عائلته، أو يسأل حتى عن الحقيقة ليعرف ما حدث، ومن يفعل إما قتيل مثل عيسي أو مجرم مثل الصحفية بسمة التي ذهبت لتسأل: ماذا حدث؟
(5)
قبل ساعات احتفلت الدولة المنتصرة بالنصر العظيم على عدو صارت تنصره على شعبها! وهذه قصة لا تحتاج إلى "ماريو بوزو"، بل تحتاج إلى الراحل خليل حنا تادرس، فأنا أفهم أن تحتفل الدولة التي تفكر كدجاجة بانتصار أحمس على الهكسوس أو بموت قمبيز أو بانتحار كليوباترا، لكنني لا افهم أن تحتفل بالانتصار على "صديق" تدعو كل الأشقاء لإقامة العلاقات الغرامية معه. فالحرب قديما لم تكن مجرد رجل يضرب رجلا بالسيف، وهي حتى ليست شخصا يضرب شخصا آخر ببندقية، لكنه فعل عسكري له أهداف، ونحسب النصر والهزيمة بالقدرة على تحقيق هذه الأهداف أو عدم تحقيقها. فيا ترى ماذا كان الهدف من حرب أكتوبر؟ هل كانت حربا ضد المشروع الصهيوني الاستيطاني التوسعي، أم كانت مدخلا لصفقة تكريسه وقيادته للمنطقة كعاصمة سياسية واقتصادية وعسكرية حاكمة؟
(6)
تبدو فقرات المقال مفككة وبعيدة عن بعضها، وهذا يثبت أن المقال واقعي جداً، فنحن في مرحلة أشلاء ودولة أشلاء، لذلك يجب ألا نخاف من التعامل مع القصاقيص المبعثرة. علينا أن ننظر إليها بوعي لنتعرف عليها، ونعيد ترتيبها إما على خريطة تخصنا وتفيد مستقبلنا، أو نعترف بخريطة صفقة القرن ونسمح للقرون بترتيب كل الأجزاء والتفاصيل حسب الكتالوج الذي يحرص جاريد كوشنير على كشف عورته كما كانت سالومي تكشف عن ساقيها!
عندما تابعت قصة عيسى الراوي استرجعت ملاحظاتي السابقة عن خطة "الدولة الجاهلة" في تفكيك سلوك الثأر في صعيد
مصر، وقد تواكب ذلك مع تغريبة السبيعينات التي تسارعت بعد حرب أكتوبر، وكان على
الصعيدي أن يتنازل عن الكثير من سماته الشخصية والحياتية ويقبل بأن يكون له "كفيل" يتحكم فيه وينال أحيانا من كرامته على حساب المكسب المالي وبناء بيت الإسمنت الحديث!
لكن سلطة الاستعباد المؤقتة التي فرضتها ظروف التغريبة في الخليج لم تقدر أن تقضي على "الجين الصعيدي"، فحدثت انتفاضات عنيفة أثبتت أن الصعيدي يثأر لكرامته ضاربا عرض الحائط بأي خسائر مالية أو معيشية. وكانت انتفاضة المغتربيت المصريين في منطقة خيطان الكويتية واحدة من انتفاضات رفض المهانة، لكن مع تهاون "الدولة الدجاجة" في حفظ حقوق وكرامة المصريين في الداخل والخارج، أصبح الغضب من أجل الكرامة حماقة تهدد بالطرد من العمل والمعاناة من التعطل والفقر، بل أصبحت جريمة تؤدي إلى الترحيل في الخارج والحبس والقتل في الداخل!
(7)
اهتممت لفترة طويلة برصد المتغيرات التي حرص نظام السادات على إحداثها ضمن مشروعه لنشر السلام مع إسرائيل، والتبشير بحياة الرخاء عوضا عن معاناة الحرب، وطالعت عشرات الأبحاث التي نفذتها مؤسسات تابعة للدولة، بوعي أحيانا وبالصدفة بقية الأحيان، ومنها دراسات لمعدلات ونوعيات الجريمة في مراكز أبحاث الشرطة والمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، ومنها دراسات ميدانية عن الثأر في الصعيد وبيان المخاطر الاجتماعية المترتبة على استمراره، وكذلك المخاطر التربوية والعملية في حال استبداله بنمط سلوكي مغاير لا يلبي حاجة المجتمع، خاصة وأن القانون كان ولا يزال عاجزا عن إقناع أهالي القتلى والمهانين بالقصاص العادل ورد الاعتبار.
واتجهت ملاحظاتي إلى نجاح الخطة الصهيونية التي استهدفت كسر الحاجز النفسي مع الشعوب العربية عبر مسارين، أولهما: استخدام الإعلام الرسمي ودعم اتجاه التطبيع تحت شعارات السلام والتعايش والربح، والمسار الثاني كان يتعلق بتشويه التركيبة النفسية لصالح الصبر والخنوع وتجنب الحرب والضرب، وتحوير القيم المستقرة لتصبح الكرامة سلعة نسبية يمكن مقايضتها بالمال ضمن نظام "الصفقات". فكما تعقد الأنظمة "صفقات" أصبح لكل مواطن "صفقته" مع "الكفيل" أو موظف الحي أو ضابط الشرطة، لكي تمضي الحياة في تواطؤ مسكوت عنه حتى ينتفض أحد الشرفاء ويعلق الجرس في رقبة القط، فاضحا جريمة النوم في مخادع السلطة وحلفائها في الداخل والخارج.
(8)
جريمة مقتل عيسى الراوي ليست جديدة، وليست الأخطر والأكبر، لأن الشرطة تقتل بالعشرات وتصفي المواطنين بلا محاسبة في السجون وخحارجها وتهين قرى وأحياء بأكملها في سلوك قمع جماعي سافر، لكن رد الفعل على الجريمة هو الأعظم والأهم، وهو ما يستوجب رصد تفاصيله والاهتمام به، لأنه يكشف فشل خطة الإذلال وغرس "جين الخنوع" في الجسد الصعيدي، بدلا من جين الكرامة والشهامة والاستقلالية.
لكن الأمر ليس بالأمل الذي نتصوره بعد عمليات غسيل الدماغ الواسعة التي مارستها "دولة الدجاجة" ومنابر الإعلام العربية المتصهينة، كما أن تحالفات البيئة السياسية أدت عبر سنوات إلى تغيرات قيمية كبيرة في قيادات وأوساط العائلات والقبائل، بحيث منحت قيادات الشرطة فرصة عقد صفقات مع الوجهاء وكبار العائلات ونواب البرلمان لضمان السيطرة على الشباب الذين يعيدون ذاكرة الثأر للكرامة ويرفضون الظلم والهوان.
القصة مترابطة، بحيث يبدو لي أن قصة عيسى الراوي ليست بعيدة عن قصص الشهداء الذين دفعوا حياتهم من أجل كرامة تدنسها "دولة الدجاجة" بالسلام مع العدو والحرب مع الشعب!
لا يهم اسم الشهيد في قضايا الكرامة والشرف.. لا فرق بين عيسى وعويس.. لا تعنينا الأوراق الرسمية والروايات الرسمية.. تعنينا القصة والعبرة ومشاعر القلوب المكلومة مهما تغيرت الأسماء.
[email protected]