هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
عُرف الكاتب التونسي نزار شقرون بكونه ناقداً تشكيليا من أبرز من قدّم مقاربات تتجاوز القراءة النقدية إلى البحث عن مقاربات تنظيرية للفن العربي، فحملت أبرز أعماله عناوين: "نظريّة الفنّ العربي" (2010)، و"معاداة الصّورة" (2008)، و"مكاشفات الصورة في اللوحة والكاريكاتير" (2009)، و"رهانات الفنّ الغربي المعاصر" (2013)، و"الحداثة المعماريّة من الطّراز إلى التّعبير الحرّ" (2013)، و"نشأة اللّوحة في الوطن العربي"(2017).
كما كانت له محاضرات فارقة في عدة ملتقيات دولية مثل: "البنائيّة التّراثيّة في تجربة الفنان عادل مقديش" في بينالي طهران سنة 2003، و"تواصليّة الفضاء التّشكيلي في تجربة الفنّان بيار سولاج" في النّدوة الدّوليّة للمعهد العالي للفنون والحرف بمدينة قابس، سنة 2003، و"الاستعادة الرّمزيّة للحديقة المفقودة" في ملتقى المعاهد العليا للفنون لدول حوض البحر الأبيض المتوسط بالجزائر سنة 2005، و"من البحر تأتي اللّوحة أو أيكولوجيّة العمل الفنّي" في مهرجان الدّولي للفنون التّشكيليّة بالشّابة سنة 2006، و"جواد سليم في ميزان النّقد" في النّدوة الدّوليّة للفنون التّشكيليّة بالمعهد العالي للفنون والحرف بسوسة، سنة 2006، و"الدّعاية وصناعة القداسة" في المقهى الفلسفي للجمعيّة التّونسيّة للدّراسات الفلسفيّة، سنة 2007، و"التّشخيصيّة الجديدة في الرّسم التّونسي" في الملتقى الدّولي الأوّل للفنون التّشكيليّة بمصر 2007.
من جهة أخرى كتب شقرون الشعر، ولعلّه كان مفتتح تجربته في النشر، حيث أصدر أربعة دواوين هي "هوامش الفردوس (1990)"، و"تراتيل الوجع الأخير" (1993)، و"إشراقات الولي الأغلبي" (1997)، و"ضريح الأمكنة" (2002).
مغامرة إبداعية أخرى بدأت تراود الكاتب التونسي منذ سنوات، كما تفعل مع الكثير من الشعراء والباحثين، ونقصد هنا الرواية، وله فيها إلى اليوم ثلاثة أعمال بدأت بـ "بنت سيدي الرايس" (2010)، وتلتها "الناقوس والمئذنة" (2017)، وآخرها "دم الثور" التي صدرت بداية هذا العام في طبعة مشتركة بين "دار الوتد" و"الفارابي".
يقودنا هذا العمل إلى عراق سنوات الحصار حين نتابع رحلة باحث تونسي في التراث المعماري إلى بغداد مع عدد من زملائه إلى بغداد حيث يشاركون في مؤتمر. الهدف المعلن للرحلة لن يكون سوى حدث هامشي لأن جميع شخصيات الرواية وكلهم باحثون عرب تنضاف إليهم باحثة إسبانية، وهي أيضا فوتوغرافية تحمل شغفا معرفيا بارزا، ستحوّل وجهة الأحداث إلى هدف جديد، هو إيجاد "الباب المفقود" من كتاب كليلة ودمنة وهو بحث بدأه جدّها الذي أشار لها بأن كتاب عبد الله بن المقفع يحمل في أحد فصوله التي فقدت سرّ مقتله، وقد عاد هذا الكتاب إلى الشرق مع ترحيل المورسكيين في نهاية القرن الخامس عشر.
هكذا يربط المؤلف بين مأساتين في ضمير كل عربي؛ سقوط الأندلس وتدمير بغداد المعاصر بحصارها، لعله حصار شبيه بحصار غرناطة لولا أن الوسائل العدوانية قد تغيّرت بين العصور.
اقرأ أيضا: صالح علماني: أن تفتح قارة أدبية بأكملها
سيكون بطل الرواية، الباحث التونسي، أكثر من يتورّط في مشروع كارمن الإسبانية، ليس لسبب عقلاني فقط بل لأسباب شخصية نعرفها بالتدريج، منها علامة في حلم من أحلامه يرد فيه ذكر "دم الثور"، كما أننا نتعرّف على عالمه المنهار عاطفيا (زواجه الذي يبدو على حافة القطيعة) فنفهم أنه سيمسك بأي خيط يقوده إلى بناء مشاريع جديدة في الحياة. ناهيك عن الجو العام الذي اقترحه الكاتب لعمله، وهو وشوك انهيار النظام البعثي في العراق بما يختزنه من انهيارات لأحلام كبرى بدول قوية تقارع القوى العالمية وتعيد للعروبة موقعها الفاعل في التاريخ.
يخوض الباحث التونسي، بطل الرواية، وراويها حيث تأتينا الأحداث على لسانه وعبر عينيه، ويجد نفسه أسير هذا الهدف الذي رسمته كارمن وكأنه ثور إسباني يجد نفسه فجأة داخل حلبة الكوريدا. مغامرة تنتهي بالعثور على الباب المفقود من كتاب كليلة ودمنة ولكن المؤلف اختار نهاية مفتوحة غامضة، فالوصول إلى الخطوط يأتي بشكل خاطف في وقت يشير فيه الراوي إلى أنه يشعر بأنه يسير مع كارمن إلى المجهول.
فجأة تتوقف أحداث، ويقترح علينا نزار شقرون نص الباب المفقود من كتاب كليلة ودمنة والذي يعنونه بـ “باب ثأر بندبة" مقدما محاكاة لافتة بأسلوب ابن المقفع في لعبة طريفة وخطيرة، فلا يخفى أنه يوحي من خلال هذه القدرة على محاكاة نص قديم بأن كل الكتاب الذي نقرؤه منذ نعومة أظفارنا ليس سوى محاكاة لنصوص أخرى لا نعرفها، هي لنصوص الأصل في كتاب كليلة ودمنة.
يمكن اعتبار رواية "دم الثور" عملا من أعمال التأريخ الممكن لتراثنا الأدبي، حيث تحضر شخصيات كثيرة من التاريخ لكن من زاوية مختلفة. ومن جهة أخرى يمكن اعتبار العمل نوعا من المحاولة التأويلية لمسارات الكتب الأمهات لمخيالنا الجماعي، ولا شكّ أن كليلة ودمنة أحد هذه الكتب.
لو أننا تناسينا الشخصيات وحواراتها، يمكن اعتبار رواية "دم الثور" تاريخا افتراضيا لكتاب كليلة ودمنة، كيف كتب وما حدث لمؤلفه بسببه، ثم ما مرّ به الكتاب - كمادة وكفكرة - بين أطوار التاريخ العربي المتقلب. إن ما اقترحه نزار شقرون من تاريخ لكتاب كليلة ودمنة من أكثر ما نحتاجه اليوم من الفن الروائي، يذكرنا هذا العمل برواية الكاتب اللبناني أمين معلوف "سمرقند" والتي روت لنا كيف وصلت "رباعيات الخيام" إلى زماننا. كثيرة هي حكايات الكتب العربية التي ينبغي أن تروى؛ "ألف ليلة وليلة، "ديوان المتنبي"، "رسالة الغفران"، "آراء هل المدينة الفاضلة"، وغيرها كثير.