(1)
لا أحب
ترامب وأتمنى أن يخرج من كابينة قيادة العالم بأسرع وقت، لكن هذا لا يعني أنني أحب
بايدن ولا يعني انني متفائل بقيادته للعالم، كل الحكاية أنني أراهن على التغيير في اتجاه "اللص الظريف"، أو الفاسد الأكثر ثقافة وشياكة والأقل حماقة وشعبوية. وهذه قصة محزنة من قصص تاريخ الإنسان على الأرض، قد يتيسر الوقت لكتابة فصول منها عندما نجد فرصة للتنفس والاسترخاء وسط حرائق العالم المشتعلة.
(2)
العالم تغير إلى درجة تحقيق الخيال، فقد شاهدت قبل ساعات تجربة شركة "جرافيتي" لصناعة البلدلات النفاثة، ورأيت رجلا يطير فوق النهار والجبال مثل "سوبرمان"، لكن المشهد استحضر الماضي بنفس الدرجة التي يطرح فيها أسئلة
المستقبل. فهذا الرجل كان يطير دائما في خيالنا فوق سماء بغداد وفي حواديت الصغار وفي أفلام الخيال العلمي، لكن الحكايات القديمة لم تتخلص من الأشرار، بل إنهم كانوا أكثر مقدرة على الاستئثار بالأدوات الخارقة من بساط الريح وخاتم سليمان والبنورة السحرية ومصباح علاء الدين وأجنجة إيكاروس، إلى برامج بريزم وفين وشيفرات التحكم في كلام وأفكار ومزاج البشر ونزعاتهم الاستهلاكية.
(3)
لست مرناً، وهذا أبرز عيوبي التي أعرفها واعترف بها، فهناك عيوب لا أعرفها ولا أعترف بها. وأتذكر جيدا أنني صارحت أحد أصدقائي الأعزاء بهذا العيب في مرحلة مبكرة من حياتي السياسية والثقافية، قلت له ذات أمسية شتوية عندما كنا نتناقش في التغييرات السياسية والمهنية التي أربكت حياتنا في منتصف التسعينيات: أنا صعب التكيف، ولا أميل إلى التحولات السريعة حتى لو تفهمتها نظرياً، وبعد ذلك أطلقت على هذه المشكلة "متلازمة الرؤييين".
وقد كان والدي واحدا منهم: رجلا عنيدا لديه رؤية صارمة لتنظيم العالم، وقد شاهدت عن قرب مراحل هزيمته أمام تغيرات العالم. كان منحازاً للمدن برغم ثقل الموروث الريفي للعائلة. تصور أن تخلصه من الأرض والزراعة وعمله بالتجارة والعقارات قد يلغي التاريخ القروي الذي كان يحرضنا على التباعد معه بكل الطرق المباشرة وغير المباشرة، لكنه فقد ثروته تدريجياً، ولم يتبق له إلا القليل ليتعيش منه ويواصل حياته بطريقة أقرب إلى القرية من المدينة، وأقرب إلى ما كان يرفضه طيلة حياته.
(4)
كنت على خلاف مع نموذج أبي، لذلك لم أكترث بهزيمة متغيرات الحياة له، بل إنني كنت ألومه في مناقشاتنا الكثيرة، وكان يقابل آرائي (القاسية أحيانا) بسمو تعلمه من "هزيمة الأيام". وكنت أسأل نفسي دائما: كيف تمكن هذا الدكتاتور العنيد من تطوير ذاته لتقبل الهزيمة والاستمرار بدون مرارة ولا انكسار؟
بعد سنوات اكتشفت أن صلابتي تحولت على المرحلة السائلة دون أن تمر بمرحلة المرونة، فقد زلت قدرتي على التكيف ضعيفة، لا أطاوع ولا أنثني ولا أخضع لمحاولات تشكيلي بالقوة. فالسيولة كانت في جوهرها حيلة للتخلص من قدرة الآخرين على الإمساك بي وتشكيلي كما يشاؤون. وفي تلك الأثناء بدأت سلسلة "مقالات التماهي" في إحدى الصحف الخليجية، وكانت المقالات أقرب للأسئلة منها لتقديم الرؤى والرأي أو المعلومة والحقائق.
كنت أعرف أن العالم القديم ضدي، وأتشكك في العالم الجديد المقبل لأن "القديم الضد" لن يفرز إلا "جديد ضد"، بمعنى أن الاتجاه الذي أرفضه سيكون أقوى وأكثر قدرة على الإخضاع؛ لأنه سيسعى لامتلاك الأدوات الجديدة التي كنت مع أمثالي ندعو لها باسم التحديث والتقدم. لكن التقدم العلم والثقافة وفي الأدوات لا يسهم بالضرورة في اتجاه العلماء والمثقفين والمنتجين للأدوات، لكن ديناميت نوبل سيكون مؤثراً في العالم أكثر بكثير من جوائزه العلمية والثقافية.
وهذه هي المسألة التي أخذتني أولا إلى كونديرا في الأدب ودريدا وايريك فروم وفوكو في الفلسفة ومشاكل المجتمعات، ثم أوصلتني إلى إيهاب حسن وليوتار وبودرياد وزيجمونت باومان، حيث أصبح الواقع هو الخيال وأصبح الخيال هو الواقع. فقد تحدث باومان عن سيولة كل شيء لدرجة سقطت معها ثنائية القديم والجديد وكل الثنائيات بالطبع، وتحدث بودرياد عن موت الواقع القديم ووراثة الصور المصنوعة لكل ممتلكاته، وقال كونديرا قولته المحيرة ان الحياة ليست هنا بل في مكان آخر!
(5)
كنت أقرب إلى الحداثة ومفاهيمها ولم أتعجل (بحكم تعثري في عملية التكيف السريع) في الانتقال إلى سيولة الحداثة، وكنت أنظر إليها باعتبارها مرحلة "جاهلية معاصرة"، أي مرحلة كفر بالعلم والأخلاق البرجوازية والتبشير الكاذب التي خدعتنا به الحداثة، قبل أن يتبين لنا أنها ليست إلا وسيلة لكي يسرقنا اللصوص الظالمين القديم بأسماء وملابس وألقاب جديدة، الرئيس عوضا عن الإقطاعي صاحب حق اليلية الأولى، والمفكر والداعية والخبير عوضا عن الكاهن والقس، ورجل الأعمال والمصرفي عوضا عن التارج والمرابي.. إلخ.
مع اشتداد وطأة الهزائم وتخلف الأدوات لم أعد انتمي إلى الحداثة، ولم أقبل بضلال "ما بعد الحداثة"، وبالتالي خرجت من العالمين صرت في مرحلة اقرب إلى "البرزخ الدنيوي".. عالم بين علمين ومكان بين مكانين، أفكار بين بين ومواقف بين بين، بل إنني فارقت حبي القديم لسيزيف كبطل يهتم باللحظة فقط على حساب الماضي والمستقبل معا، وفقدت إعجابي بأفكار كولن ويلسون عن "اللامنتمي"..
الخارج المتمرد الذي يكتفي بالخروج الاحتجاجي لاعناً الواقع بصرف النظر عن تفكيره في المستقبل، صرت تواقاً لمشاركة الضائعين في بناء عالم جديد. ليست لدي بطاقات هوية قديمة ولا شروط للانضمام، لأن أي هوية قديمة تعني أنك لست من سكان البرزخ، بل تعني أنك متمسك بالحياة حيث كنت، وبالتالي لن تتوفر لديك رغبة في تأسيس عالم جديد باتفاقات حرة مع آخرين لا يهم إن كانوا يشبهوننا في الأفكار والسحنة والمشروعات. يكفي أن يجمعنا رفض العالم الذي عرفناه جميعاً، ذلك العالم البغيض الموزع بين جلادَين وبين ظالمين، بين فاسدَين وبين قاتلَين.. عالم ترامب وبايدن.
(6)
يهز أحدهم راسه مستنكراً ويتحدث باستهزاء عن جمهورية أفلاطون ويوتوبيا توماس مور وكوميونة باريس ويقول بطريقة بايدن:
متى؟..
إن شاء الله؟
وكلمة إن شاء الله بطريقة بايدن تعني "في المشمش أو "عندما يبيض الديك"، فهي عند بايدن مجرد حيلة يستخدمها المتهربون والمماطلون، بينما الذي يفعل ويقدر وينجز المهام ويفي بالمواعيد هو رجل الأعمال والشرطي والرئيس.
(7)
لا أمتلك مقدرة على مقارعة بايدن ولا ترامب، ولا أفرح بانتصار أحدهم (إلا إذا كان الأقل حماقة كسر الأكثر همجية وعنجهية وشراهة)، لكنني سأظل أحلم بمجتمع يحكمه ناسه كما تعني كلمة "الديمقراطية" التي اغتصبها أجداد ترامب وبايدن.
سأظل أحلم بشعب يستطيع أن يحكم نفسه بنفسه، ويستطيع أن يعين حاكمه كموظف ويعزله كموظف، ومهما كان الحلم بعيداً فلن أفرط فيه ما دمت أملك روحاً وعقلاً وصدقاً، لهذا لن أقبل أبداً بتشكيل العالم على أي صيغة ترفضها أفكاري وأحلامي. سأظل أحافظ على حالة السيولة، سأظل أشعل النار تحت سبيكة العالم الفاسدة لتحتفظ بسيولتها وتتبخر منها الخبائث وتخلصها النار من الشوائب، إلى أن يأتي يوم النصر (إن شاء الله) ونتمكن من تشكيل السبيكة كما نريد، لا كما يريد زعماء العصابات المتنافسون على حكم العالم.. المتفقون على استبعادنا واستعبادنا.
قد أخسر الدنيا؟ نعم.
لكني سأظل أقول لكل الحكام الحمقى: لا.
رحم الله محمود درويش وكل المنتظرين الحالمين.. سكان البرزخ الدنيوي.
[email protected]