كتاب عربي 21

ثوّار الأمس.. وثوّار اليوم

عبد الرحمن يوسف
1300x600
1300x600
نزل الثوّار في كانون الثاني/ يناير 2011 بالملايين، وأكملوا مسيرتهم عدة سنوات، قدموا بطولات عظيمة، أسقطوا الطاغية الخائن "حسني مبارك" في ثمانية عشر يوما، وسقط منهم شهداء، وجرحى، ومصابون، بعضهم فقد عينا أو اثنتين، قدموا للوطن تجربة ديمقراطية فريدة، ولكن فشلت النخبة السياسية في ذلك الوقت في إجبار النظام على تحول ديمقراطي يحفظ البلاد، ونجحت المصالح الإقليمية في تدبير انقلاب عسكري، نتجت عنه مآسٍ لا أول لها من آخر كما نعلم جميعا..

ثوّار 2011م كانت لهم صفات.. تختلف هذه الصفات عن كثير من صفات هؤلاء الثوّار المتظاهرين الشجعان الذي رأيناهم خلال الأيام الماضية في 2020م.. ما أوجه الشبه؟ وما أهم الفروق بين المتظاهرين في أول الثورة.. وبين المتظاهرين اليوم؟

* * *

لا يمكن أن نحصر ثورة يناير (2011) في طبقة اجتماعية بعينها، ولكن يمكننا أن نزعم أن هذه الثورة كانت معتمدة بشكل أكبر على الطبقة المتوسطة، خصوصا الطبقة العليا من الطبقة المتوسطة، تلك الطبقة التي تسكن المدن الكبرى بطبيعة الحال، وتتمتع بقدر من الرفاه الاقتصادي، والمؤهلات العلمية والعملية..

أما اليوم، فنستطيع أن نقول إن الحراك الذي بدأ في العشرين من أيلول/ سبتمبر الجاري (2020م) كان يعتمد على طبقة الكادحين والفقراء، لقد كانوا هم غالبية المتظاهرين، وهم يسكنون القرى، أو ضواحي المدن على أفضل تقدير، ويختلفون عن إخوانهم الذين كانوا في 2011 في أشياء كثيرة، في المستوى الاجتماعي والتعليمي وغيرها..

* * *

متظاهرو 2011 كانوا شبابا، طبعا لا نستطيع أن نزعم أنها ثورة جيل واحد فقط، ولكن لا شك أنها كانت ثورة شبابية، بحكم التركيبة السكانية لمصر في ذلك الوقت، حيث إن غالبية السكان في سن الشباب.. ولو قدرنا متوسط أعمار المتظاهرين عام 2011 يمكننا أن نقول إنه في حدود الخامسة والعشرين..

أمام اليوم.. فنحن نرى عشرات المراهقين - بل الأطفال - في الشوارع، وهذا مؤشر له دلالات في غاية الأهمية.. فالجالسون في القصور يعيشون في العقد السابع، أو الثامن من العمر، بينما الشباب في العقد الثاني والثالث.. يتظاهرون في الشوارع.. وبالتالي نستطيع أن نستنتج لمن المستقبل غدا!

* * *

ثائر عام 2011 كان غاضبا بلا شك، ولكن غضبه مختلف، فهو غضب منضبط، تحكمه السلمية، وكان للحراك كله كوابح، عشرات الشخصيات العامة، والتنظيمات السياسية، ورجال الدين، ومؤسسات إعلامية، مع تفوق كاسح في وسائل التواصل الاجتماعي..

هذه التوليفة تمكنّا من خلالها - نحن الداعين للتظاهر في 2011 - من فرض السلمية كقيمة أساسية من قيم الثورة، وكمظهر حضاري ما زالت ثورة يناير تفخر به إلى اليوم..

كانت هناك جماعات شبابية، مثل حركة السادس من أبريل، والاشتراكيين الثوريين، والحملة الشعبية لدعم ترشح البرادعي.. بالإضافة لشباب الأحزاب، وعشرات الشخصيات العامة التي كانت موجودة في الميدان وسط الناس.. أضف لذلك الأحزاب، وجماعة الإخوان.. الخ.

أما اليوم.. فلم يبق أحد!

فقد تفرقت النخب.. بين شهيد أو معتقل أو منفي، أو مجبر على السكوت.. بل ربما مجبر على الموالسة..

لذلك أصبح المواطنون وجها لوجه مع الدولة، دون ضوابط أو كوابح!

النظام يواجه مواطنا غاضبا، لا يرى فيه نظاما شرعيا أصلا، وهي مواجهة مباشرة، ولا يكاد يوجد من يتفاوض باسم هؤلاء البسطاء الذين يدافعون عن أنفسهم ضد قطيع من الضباع المسعورة..

هذا المتظاهر ما زال حتى اليوم ملتزما بالسلمية.. ولكنه ليس قليل الحيلة، فبرغم سلميته يواجه الرصاص بشجاعة، ويخطف بعض الجنود من شرطة مكافحة الشغب..

لو تحوّل هذا المتظاهر إلى خيار خشن.. لا يوجد من يستطيع أن يمنعه.. فهذا المتظاهر لا علاقة له بالنخب التي كانت يمكن أن تكبح متظاهري عام 2011.

* * *

استكمالا لموضوع الغضب.. لا شك أن الغضب شرط من شروط الثورة والتغيير.. ولكنه ليس الشرط الوحيد ولا الأهم.

لا بد من قيادة.. وهذه القيادة لا بد أن تقدم للمجتمع أملا مبنيا على رؤية مبدئية لما يمكن تحقيقه من مكاسب مقابل مخاطرة النزول إلى الشوارع..

لا يتوفر الآن في مصر إلا الغضب، وهو غضب قادر على إحراق العباد والبلاد، لكنّ تغييرا ناتجا عن الغضب فقط سيكون تغييرا في الوجوه والأشكال لا أكثر..

النخبة المصرية فقدت مركزها في القيادة، وهي حتى الآن لم تشعر بذلك، وما زال كثير منها يظن أن بإمكانه توجيه الجماهير دون تحقيق اصطفاف يحظى باحترام وثقة هذه الجماهير.. ربما لو تابع القارئ البيانات التي صدرت في الفترة الماضية سيلاحظ أن النخبة تصدر بيانات وكأنها هي من أشعلت هذا الحراك.. والحقيقة أنها لا تملك أن تحرك مواطنا واحدا!

(والحقيقة أيضا أن هذا الحراك في جوهره لم يكن استجابة لدعوة شخص بعينه، وإنما كان رد فعل حتميا لغضب طويل مكبوت نتيجة سياسات حمقاء باطشة.)

* * *

نقطة أخرى أظنها تهم القارئ الكريم.. ثوار 2011 نزلوا إلى الشوارع وكنا نظن أو نقدّر أن وراء كل متظاهر استجاب للدعوة ثلاثة يؤيدونه، ولكنهم لم ينزلوا بأنفسهم، أما ثوار اليوم.. فتأكد أن خلف كل واحد منهم ربما عشرة.. أو عشرون مواطنا يرغبون في النزول، ويتمنون إسقاط هذا الرئيس، وتغيير هذا النظام.. ولكنهم لم يتخذوا قرار النزول بعد، بسبب شدة البطش، ولأسباب أخرى لا مجال لذكرها الآن..

إن الأعداد التي نراها اليوم لا تعكس حجم الغضب الحقيقي، بل هي مجرد رأس صغير لجبل جليد ضخم، والغاطس من هذا الغضب أضعاف أضعاف ما نراه!

هؤلاء المتظاهرون الأبطال.. طليعة.. فرقة استكشافية.. ولو نزل عُشْرُ الراغبين في إسقاط هذا النظام لامتلأت الشوارع بملايين المتظاهرين!

* * *

آخر النقاط.. هل يمكن أن يؤدي هذا الحراك إلى تغيير؟

في رأيي الشخصي أنه يمكن أن يؤدي إلى تغيير محدود، تغيير مرحلي، لا يرضي ثوار 2011، ولا ثوار 2020، إنه تغيير تكتيكي بهدف استمرار الاستبداد، ذلك أن الحكم العسكري جاهز بسيناريوهات أخرى في حالة التخلص من رأس النظام، وهذه السيناريوهات ستعطل قطار التغيير قليلا، ولكنها لن توقفه أبدا!

هل تملك المعارضة المصرية أي سيناريوهات؟

للأسف الشديد لا تكاد تملك المعارضة المصرية شيئا تقدمه للأمة المصرية، وكل من على الساحة اليوم لا وزن لهم، ولا كلمة لهم في الحراك. هذا حراك لم يبدأه أحد من النخب، ولا يستطيعون أن يوقفوه إن شاؤوا.. مهما ادعوا عكس ذلك.

واجبنا أن ندعم هؤلاء البسطاء لابسي الجلابيات الجميلة، الذين نزلوا حاسري الرؤوس، كاشفي الوجوه، في شجاعة لم نر لها مثيلا منذ سنوات طوال..

ولا أقول إن مصر كسرت حاجز الخوف في 2020.. لأنها كسرت حاجز الخوف في 2011، وكل من يظن أنه قد بنى ذلك الحاجز مرة أخرى واهم، وعليه أن يتذكر عشرات الحوادث التي حوصرت فيها أقسام الشرطة أو اشتبك فيها المواطنون مع النظام لأسباب سياسية أو غير سياسية (قضية عفروتو في المقطم، قضية إسلام الأسترالي في المنيب، قضية جزيرة الوراق، احتجاجات حليب الأطفال، آلاف التظاهرات المسيسة منذ عام 2013 إلى عام 2015، ثم بعد ذلك تظاهرات تيران وصنافير.. والأحداث أكبر وأكثر من أن نحصيها)..

نحيي شعبنا الذي ما زال يثبت عظمته وأصالته وصموده، وما زال يثبت أنه شعب لم يجد النخبة التي تستحقه، ولم يجد السياسيين الذين يمثلون عظمته.

عاشت مصر للمصريين وبالمصريين..

twitter.com/arahmanyusuf
موقع الكتروني: www.arahman.net
التعليقات (5)
لن يأتى احقر من ذلك
الإثنين، 28-09-2020 07:51 م
اذا ذهب هذا النظام ،فأى من يأتى من بعده فسوف يكون من المخرفين الاهين الذين يسهل التغلب عليهم. و سوف يكون الشعب استعاد قوته
ما أروع تحليلك للسلمية في 2011 يا عبدالرحمن
الإثنين، 28-09-2020 12:08 م
جزاء الله خيرا على مقالاتك ونفع الله بك، أتمنى على الله أن يبلغ تحليلك للسلمية مسامع وذهن الاستاذ صابر مشهور الذي يشكل تهكمه وسخريته على سلمية المصريين في 2011 وما بعدها أهم هاجس في حياته قائلا سلمية ملوخية طعمية الخ. أكاد أشعر أن حديث صابر المشهور الساخر عن السلمية السابقة هو قضية حياته وآخرته، فمهما كان الموضوع الذي يتحدث عنه الاخ صابر لابد له ان يحشر السخرية من السلمية حشرا دون توقف. أدعو الله تعالى أن يقرأ الاستاذ صابر مقال الاستاذ عبدالرحمن ففيه التوضيح الكافي والتحليل الادق. وأذكر الاستاذ صابر بقوله تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً " الاسراء-36
الكاتب المقدام
الأحد، 27-09-2020 07:41 م
... جاء بالمقالة أن ثوار 2011 "اسقطوا مبارك في 18 يوماً"، ورغم أن التظاهرات هي التي ادت للتغيرات التي تلتها، فإن من أسقط مبارك فعلياُ هم شركاءه من جنرالات الجيش، للتضحية به وبأسرته لامتصاص تصاعد غضب الجماهير، ولانتهاز الفرصة لإلصاق كل تهم الفساد وغيرها بدائرة منافسة داخل النظام القائم للتخلص منها وللانفراد دونها بالسلطة، وإعادة سيطرتهم بتبني إصلاحات ظاهرية مؤقتة سرعان ما انقلبوا عليها، بما فيها سلسلة الانتخابات التي تلتها، التي فوجئوا بكم الملايين الثي شاركت فيها لأول مرة في تاريخ مصر، بعد أن اطمئنت الجماهير إلى أن إمكانية التزوير ستكون محدودة، وتلك هي أهم أحداث الثورة وأعظمها، فقد أثبتت أن الشعب المصري ليس فوضوياُ، ورغم أحقاب من التجهيل والإفقار والتهميش له، لديه الوعي والقدرة على إقامة نظام حكم ديمقراطي، وبالنسبة للقائمين بثورة 2011، فقد كان هناك بحسن نية، وبسوء نية من آخرين، تركيز على أن الثورة هي ثورة الشباب في ميدان التحرير، ومع احترامنا لهؤلاء ولدورهم، فإن اختزال الثورة في ثوار التحرير وخطباء منصته، فيه تقزيم متعمد للثورة، فغالبية شهداء الثورة قد سقطوا في أحياء شعبية وقرى بعيدة عنه، انظر كرداسة كمثال، ولولا تلك المظاهرات في الأحياء الشعبية وبعيداً عن العاصمة، التي أدت لتشتيت وإضعاف قوى قمع المواطنين، المسماة تدليساً وكذباُ بقوى الأمن، لأمكن تصفية المعتصمين بميدان التحرير في ساعات، والطبقة الوسطى تعجز وحدها عن القيام بأي ثورة، بسبب محدودية أعدادها، وضعف قدرتهم على مواجهات الشوارع، والطبقة الدنيا الشعبية التي تتكون من 90% من شعب مصر، والذين يمثل المجندين منهم غالبية قوات الجيش والشرطة، هم الأقدر على الثورة، وواجبهم الدفاع عن إفقارهم وتهميشهم وتدمير بيوتهم واستذلال ابناءهم، وسيرى منهم الذين أترفوا وتكبروا ما كانوا يحذرون في يوم قريب.
عبد الحميد الجزائري
الأحد، 27-09-2020 07:24 م
كنا في الجزائر ، قبل السيسي ، في تنافس حاد مع مصر الحبيبة ، في مجالي السياسة والرياضة .و ما إن وقع انقلاب السيسي، حتى دخل الحزن قلب كل جزائري0إيماننا كبير في أن الغد لأبناء مصر 0 لاإله إلا الله و السيسي عدو الله0 سنلتقي قريبا في مصر الحبيبة0
أين التحلي بالموضوعية!‏
الأحد، 27-09-2020 01:29 م
أخطر ما يمكن عمله في هذه المرحلة هو الافتقار إلى الموضوعية في التحليل وعدم إعطاء كل ذي حق حقه. بطبيعة الحال، ‏أصاب الكاتب في عرض بعض جوانب الاختلافات بين محركي انتفاضة عام 2011 وانتفاضة اليوم، ومنها حجم الانتفاضة ‏ومنظموها. ولكن الكاتب لم يفلح في إخفاء تعصبه الليبرالي المذموم على حساب الموضوعية. فقد ذكر القوى المحركة ‏والمشاركة في انتفاضة عام 2011 فذكر كل من هب ودب ولم يذكر أكبر قوة شاركت فيها وأعني الإخوان إلا على سبيل ‏الإضافة: "بالإضافة إلى" وكأنهم كانوا سقط متاع. وأنا هنا لا أدافع عن الإخوان فقد انتقدت قياداتهم في مناسبات كثيرة، ‏ولكني أدافع عن الموضوعية فلولا الإخوان لما كُتب لانتفاضة 2011 أي نجاح، وأكرر "أي نجاح". وليس هذا تقديراً ‏شخصياً بل هو الشهادة الموضوعية التي أقرّ بها كثير من الناس، ومنهم ساويريس نفسه، وأفضى بها بعض قيادات الشرطة. ‏لماذا المكابرة؟ ولماذا تغمط الإخوان حقهم؟ ولماذا تفرق بين شهداء انتفاضة 2011 والانتفاضة المستمرة عامين كاملين أو ‏أكثر بين عامي 2013 و2015 التي قدم فيها الإخوان آلاف الشهداء للتصدي للانقلاب على الديمقراطية التي تتغنى بها ‏ويحق لكل حر أن يتغنى بها؟ لماذا عدم الحديث صراحة عن شهدائهم هؤلاء بغض النظر عن بعض المواقف السياسية ‏لقياداتهم؟ ولماذا تتهمهم بما يجب اتهام "الليبراليين العلمانيين" المتعصبين به، وهو عدم قدرتهم على تحريك الشارع بل ‏وعدم رغبتهم في ذلك بعد انقلاب يوليه 2013؟ لسنا في حاجة إلى افتراضات لكي نثبت قدرتهم على تحريك الشارع فقد ‏حركوه، بكثافة أثناء انتفاضة يناير 2011 وبكثافة أكبر طوال أكثر من عامين عقب الانقلاب الدموي الذي كان يحظى بتأييد ‏كل "القوى العلمانية المدنية وغير المدنية" التي تنتمي أنتَ إليها. أعرف أن حياء الإخوان يمنعهم من الكلام صراحة عن ‏ذلك بالإضافة إلى انشغالهم حالياً بالآلاف من عائلات شهدائهم ومصابيهم وعائلات الآلاف من مطارديهم في الداخل هم ‏والمطاردون في الخارج وعشرات الآلاف من معتقليهم وعائلاتهم، بما في ذلك العشرات أو ربما المئات من نسائهم وفتياتهم ‏اللائي لم يتردد الانقلابيون في اعتقالهن وتعذبيهن وعائلاتهن وامتهان كرامتهن. كما أنني ألمس في كلامك استعلاء على ‏هؤلاء الأبطال أصحاب الجلاليب الذين يضحون حالياً بأنفسهم وكل ما يملكون من أجل مواجهة هذا الانقلاب وأفعاله ‏الإجرامية في حقهم، ومنها هدم مساكنهم وتركهم في العراء وتركهم يعانون أشد المعاناة من الغلاء وتكبد الأمرين في ظل ‏الخسيسي وانقلابه الوحشي. أدعو الكاتب أن يتحرر من قيود تعصبه العلماني لكي ينصف هذه الانتفاضة ومن يمكنهم أن ‏يحولوها إلى ثورة حقيقية وهم الإخوان لو وجدوا إنصافاً واصطفافاً حقيقياً ممن يتشدقون دائماً بالاصطفاف وهم أبعد الناس ‏عنه.‏