أكثر
المتفائلين لم يكن يتوقع هذه الاستجابة لدعوة
الخروج على النظام العسكري في مصر،
صحيح أن من خرجوا لم يكونوا حشوداً قادرة على الحسم، لكن حتى هذا
الخروج الذي شاهدناه لم يكن متوقعاً، ثم إنه بلغ من الإبداع الفطري حداً فاق كل
توقع!
لا شك في أن
مصر حبلى بالثورة، وقد اتسعت رقعة الغضب لتشمل فئات كانت تكتم غضبها دائما، ولا
أظن أنه صار من بين فئات الشعب لهذا النظام بواكي، غير
مجموعة من الإعلاميين ارتبط
مصيرهم بمصيره، وعدد قليل لا يزال يزايد على أنصاره لعله يجد مكاناً له تحت الشمس.
صحيح أن هناك فئات استفادت من وجوده، لكنها استفادة تبخرت قيمتها مع الغلاء. وقد
بدا النظام في العام الأخير أكثر حدة، ولم يكن حتى مهتماً بمثله، فلم يرفع رواتب القضاة منذ أكثر من عامين، ولم يعد هو يمثل
الخيار الأمثل بالنسبة للشرطة، كما أن الجيش ليس هو هيئة المشروعات الهندسية، أو
كامل الوزير، واختزاله في ذلك عظيم الخطر!
صحيح أن ضباط
الجيش صاروا الآن أكثر نفوذا عما كان الحال عليه في العهود السابقة التي حكمت فيها
الشرطة، لكنه نفوذ أدبي يفقد قيمته مع ضغوط الحياة، واتساع دائرة الإفقار، فلا
يمكن أن تعيش غنياً في مجتمع فقير، أو منتصراً وسط شعب مهزوم. واستمرار
السيسي قد
يعرض كل الامتيازات للخطر، إذا ذهبت البلاد إلى الثورة، أو انزلقت إلى الفوضى لا
قدر الله.
العداء
المجنون:
لقد دخل
عبد الفتاح السيسي في عداء مجنون ضد المجتمع المصري في غالبيته العظمى، عندما أقر
قانوناً يلزم به المصريين بشراء بيوتهم، أو إعادة شراء مساكنهم، ثم أقدم على جريمة
هدم البيوت، وهدد بنزول الجيش للقرى للقيام بـ"الإبادة". ثم إنه أظهر
ضعفا مطاعاً في مواجهة الإثيوبيين، وإذ كنا نشكو دائماً من عدم وصول أزمة بناء سد
النهضة للناس لارتباطاتها بالقانون وتقنيات فنية، فقد وصلت الأزمة في هذا العام
للمصريين، وليس أخطر على حاكم عربي من شعور شعبه بأنه ضعيف، يستأسد عليه وفي
الحروب نعامة!
وإذا كان
بعض المواطنين قد استسلموا للهدم غير القانوني لبيوتهم، ولم يملكوا سوى الصراخ
والنحيب، ومنهم من قدم شكوى للسيسي من سياساته، فإن هناك مقاومة حدثت في بعض
المناطق، كانت سبباً في العدول عن فكرة الهدم والإزالة وتخفيض المبالغ المطلوبة،
لكن لدى الناس يقين بأن هذه مناورة ليمر يوم 20 أيلول/ سبتمبر بسلام!
فمصر حبلى
بالثورة، لكن القوى السياسية جميعها انسحبت من المشهد، وفقدت قدرتها على الفعل ولو
في الحدود الدنيا، فحتى الذين دعوا للانتفاضة ضد التفريط في التراب الوطني، انتهوا
الآن بعد أن ذاقوا مرارة السجن، وتجرؤ السيسي، فمن خرج منهم التزم الصمت، والإخوان
أخرجوا أنفسهم من المشهد الثوري منذ خمس سنوات مضت. وكنا ندرك تماماً أن الثورة
تحتاج إلى شرارة، وإلى طليعة تحشد وتتقدم الصفوف ليأتي لها غير المسيسين في اليوم
التالي، إن
تمكنت من الاستمرار لليلة واحدة، ضعف الطالب والمطلوب!
ولهذا كان
المتوقع ألا تجد الدعوة لمظاهرات يوم 20 أيلول/ سبتمبر استجابة، وأنها ستكون دعوة
شبيهة بدعوة 25 كانون الثاني/ يناير من العام الماضي، حيث لم يحضر أحد، مما اضطر
صاحب الدعوة إلى الاعتزال، وإغلاق صفحته، ويومئذ كتبت أنه عائد لا محالة، وذكرت
أسبابي لذلك وقد عاد فعلا، وليس هذا هو الموضوع!
قسوة
التجربة:
لقد كانت
تجربة الخروج يوم 20 أيلول/ سبتمبر الماضي قاسية، إذ اعتقل نظام عبد الفتاح السيسي
ثمانية آلاف مواطن، وأخلى سبيلهم بقرارات من النيابة بعد ذلك بغرامات باهظة، وتأكد
الناس أن السيسي مستعد لإبادة الشعب المصري كله مقابل استمرار حكمه. وها هو يهدد
بالجيش بالإبادة على نحو ذكر الناس بما لم يكونوا قد نسوه ومن مجازر في أكثر من
ميدان وأكثر من مناسبة، إنه يشهر السلاح في وجه الجميع، لا يرحم ضعيفاً، ولا
يستثني امرأة، ولا يوقر كبيراً، ولا يعرف حرمة!
والحال
كذلك، فكيف يمكن لأحد أن يتوقع الاستجابة لدعوة بالتظاهر؟!
لكن كانت
المفاجأة أن مدناً وقرى شهدت
مظاهرات أدهشت الجميع، فشاهدنا أناساً بسطاء في هذه
المظاهرات، وشاهدنا صِبية كانوا أطفالاً في زمن ثورة يناير وتداعياتها، كما شاهدنا
أطفالاً كانوا في عالم الغيب عندما اشتد ساعد شريحة من المصريين، خرجوا على مبارك،
فلما هُزموا صاروا معوقا رئيسا أمام أي حراك. وكانت الدهشة في اشتراك فتيات صغيرات
فيها.
وامتدت
المظاهرات من الجيزة، إلى مناطق في القاهرة مثل البساتين والمعادي، ومنها إلى كفر
الدوار بالبحيرة، والمحلة، وما أدراك ما المحلة؟ عنوان نضال الطبقة العاملة، لتصل
إلى الإسكندرية، ومنها إلى الصعيد، في أسوان وطهطا بمحافظة سوهاج، وقبل هذا كله
كان حراك مدينة السويس، وقد حالت عملية إضعاف سرعة الإنترنت دون تحميل الكثير من
الفيديوهات!
لقد
انتظرتهم قوات الأمن في ميدان التحرير والشوارع الرئيسية،
فخرجوا في الحواري
والأزقة، فأينما يكون الثوار يكون ميدان التحرير!
وكان
الجديد في هذه المظاهرات، هي هذه القدرة على المواجهة، وصد عدوان الشرطة. ففي إحدى
قرى أطفيح بالجيزة تم اشعال النار في سيارتين للشرطة، وفي مناطق كانت مطاردة
سياراتها والاعتداء على رجالها بالحجرة، ولهذا ينبغي على السيسي أن يقلق!
فهذا
الحراك، ليس محكوما بمن كان يحكم ثورة يناير، بل وحراك ما بعد الانقلاب العسكري،
ففي الأولى كنا نواجه اعتداء الأمن بالهتاف: "سلمية.. سلمية"، وفي
الثانية التزم الناس بما حدده مرشد جماعة الإخوان المسلمين "سلميتنا أقوى من
الرصاص"، فبدوا كما لو كانوا في كل مرة يخرجون ليعتقل الحاكم العسكري فريقاً
ويقتل فريقاً، لكن حراك أمس لم يكن مقيدا بكل هذا، ثم إنه ليس محكوما بالأطر
السياسية، أو التعليمات التنظيمية، والسواد الأعظم فيه من
الشباب سريع الحركة!
نزول
الجيش:
وأزمة
الحاكم العسكري محدود الخيال، إنه لن يفكر خارج مهمة إطار المواجهة المسلحة، وقد
يفكر جدياً في نزول الجيش للإبادة، فلا توجد لديه حلول سياسية، لأنه يحيط نفسه
بغير السياسيين ومعدومي الخبرة في هذا المجال، فضلاً عن أنه يتصرف على أنه أكبر
عبقري في تاريخ البشرية، فيتكلم ولا يستمع لأحد، وتقاليد إدارة المعسكر لا تصلح
لإدارة الدول لا سيما في وقت الشدة!
كما أن
تعليماته لن تكن قابلة للتنفيذ، لأن الواقع هو من سيحدد تعامل الجيش إذ نزل
للمواجهة، فهو هنا لا يواجه تيارا سياسيا واحداً جرت شيطنته، واتساع أرض المعارك
في القرى والنجوع والمدن، لن يجعل مجموعة واحدة لديها الاستعداد لتنفيذ الأوامر هي
من يتم إعدادها للمهمة، وباستدعاء شيوخ يفتون لأعضائها بالضرب "في المليان"!
وقبل هذا
وبعده، فإن السيسي 2013 ليس هو السيسي الآن، من حيث الحماس له، ووجود فريق من
المؤيدين لنزول الجيش وحماية مصر، وقد حرّض هو الرئيس محمد مرسي على فرض حظر التجول
في مدينة بورسعيد، في حملة إضعافه، وعندما لم يلتزم المواطنون بذلك وبدلاً من أن
يحثهم أفراد الجيش على الانصياع للقانون، لعب الضباط والجنود كرة مع الشعب على ضوء
القمر، فهذا الذي حدث في السابق بتخطيط، قد يحدث في هذه الحالة بدون ذلك!
فلن يغامر
ضباط الجيش بمواجهة مع الشعب، ولن أتحدث عن عقيدة عسكرية وما إلى ذلك، لكن هذا
الشباب الذي شاهدناه لن يواجه الأمر باستسلام، وعند رد فعل سيكون الجيش المصري كله
قد خسر، في معركة غير محسومة، فلا أحد يعلم ماذا سيحدث غداً، ولعل انضباط الشرطة
إلى حد كبير في الليلة السابقة، كاشف عن حجم الخوف من المستقبل!
لا بد
للسيسي أن يشعر بالقلق.
twitter.com/selimazouz1