قضايا وآراء

من "اتفاق الصخيرات" إلى "لقاء بوزنيقة".. هل تجد أزمة ليبيا طريق الحل؟

امحمد مالكي
1300x600
1300x600
تبعدُ مدينة "بوزنيقة" المغربية عن نظيرتها "الصخيرات" بأميال قليلة، فكلتاهُما تُطلان على المحيط الأطلسي، وهما معاً تتوفران على ظروف مناخية جيدة، وبنية استقبال مُشجعة على الاستماع والحوار المتبادلين، كما تُساعدان الأطراف المتنازعة على استرجاع راحة الضمير، وروح السكينة، وكلها ميزات محبذة في المفاوضات من أجل "الوصول إلى نعم" (getting to yes)، على حد تعبير Roger Fisher (1922- 2012)، الأكاديمي في كلية القانون بجامعة هارفارد، ومدير "مشروع هارفارد للمفاوضات" سابقا.

لم تتسرب معلومات كثيرة عن اجتماع "بوزنيقة" الذي جمع البارحة (06 أيلول/ سبتمبر 2020) ممثلي الأطراف الأساسية في الأزمة الليبية، كما لم تتضمن كلمة وزير الخارجية المغربي، الدولة الراعية للاجتماع، ما يمكنه المساعدة على معرفة تفاصيل اللقاء والنتائج المتوقع منه، حيث انصب التركيز على الدور المغربي في توفير مناخ المفاوضات، وتقريب الأطراف للتحاور من أجل الوصول إلى المشترك. كما تم التشديد على حيادية المغرب، ورعايته لإنجاح اللقاء، الذي تعود سلطة الفصل في نتائجه أولا وأخيرا لليبيين أنفسهم.

بيد أن مبادرة المغرب في احتضان اللقاء مرة أخرى على أرضه، سعيٌ مدعوم بمباركة الأمم المتحدة ودعم القوى الكبرى، ومشاركة مختلف مكونات المجتمع الليبي السياسية والمدنية. ثم إن اجتماع "بوزنيقة" (بوصفه محطة جديدة في سيرورة البحث عن مخرج متوافق عليه للأزمة التي دامت تسع سنوات، منذ انهيار النظام السابق سنة 2011) غير مقطوع عن اللقاءات التي سبقته، سواء من خلال وثيقة اتفاق الصخيرات لعام 2015، أو عبر نتائج الناجمة عن الدورات المنعقدة حول الأزمة الليبية في عواصم بعض الدول الأوروبية.

من يتأمل في قوائم الوفود المشاركة في اجتماع "بوزنيقة" (06 أيلول/ سبتمبر2020)، يلاحظ تمثيلية الشرعيتين المتنازعتين مجاليا أو جغرافيا بين شرق ليبيا وغربها، وسياسيا في شخص كل من رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي خالد المشري، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، فالأول محسوب على غرب البلاد، والثاني على شرقها، إذا كان لهذا التمييز قدر من المقبولية من الناحيتين التاريخية والسياسية، لأن ليبيا أولا وأخيرا بلد واحد وإن تنوعت تكويناته.

والواقع، تبدو مظهريا المؤسسة التشريعية المغربية، أي البرلمان، وكأنها صاحبة المبادرة في إعادة فتح ملف الحوار الليبي- الليبي، من خلال استقبال رئيس مجلس النواب المغربي للطرفين معا، وحفزهما على التحاور بُغية التوصل إلى صيغة توافقية للأزمة. بيد أن السياسة، كما هو معروف، لا يعكس ظاهرها ما يجري في باطن ما يعتمل في حدائقها الخلفية. فالأزمة الليبية وصلت حدّا من الحدة والتعقيد لم يعد مقبولا حتى من قبل أكثر الأطراف تشدداً. ولفرط كثرة المتدخلين من القوى الإقليمية والدولية، وتشتت الليبيين وتوزع ولاءاتهم، وتصاعد شهية السلطة والمال لدى العديد منهم، فقدت ليبيا سيادة قراراتها، وانفلتت سلطة تقرير مصير الليبيين من أيديهم.

تحدثت البارحة هاتفيا مع صديق عزيز، أعتبره من خيرة الباحثين الليبيين في تخصصه (علم الاجتماع)، عاش طوال مساره العلمي مدافعاً عن استقلاليته الأكاديمية، وقد تجاوز الثمانين سنة، أطال الله في عمره، فقال لي متأسفاً: "لم يعد لدينا، نحن سكان طرابلس، سوى البحر، نناجي أمواجه، ونستحم في مياهه، ونستفيد من جمال زرقته، ولو كانت لدينا وزارة للبحر لسُدت الأبواب أمامنا، وتعطلت فرص استفادتنا كما هو حال باقي مؤسسات البلاد". وأضاف قائلا بحسرة كبيرة: "ليبيا ليست بخير، ولا نعرف إلى أين تسير"..

إنه رأي عالم اجتماع، مشهود له بوطنيته، ونزاهته الفكرية، وتفاؤله في أن يرى بلده مستقرا وآمنا ومزدهراً.. فكيف سيكون رأي الناس العاديين والبسطاء، الذين لا تسعفهم خلفياتهم التعليمية والاجتماعية في إعمال التفكير العميق لرؤية أحوال بلدهم وآفاق تطورها مستقبلا؟

يعرف القراء الكرام حجم الكتابات التي تناولت الأزمة الليبية، كما يُدركون أنها من صنف الأزمات المركبة، وقد أضافت إليها ثرواتها الطبيعية ضروبا من الصعوبات والتعقيد، كما لم يساعدها مسار بناء دولتها الوطنية على اكتساب مناعة الصمود في مثل هذه الأزمات، والخروج منها بأقل الخسائر.

فليبيا تؤدي ثمن ثرواتها الوطنية من نفط وغاز، وبحر ممتد على أكثر الشواطئ والسواحل جمالاً وجاذبية، وتؤدي أيضا ضريبة الجوار الجغرافي الواسع مع أفريقيا، والشرق العربي، وجنوب أوروبا. وهي أيضا وأساساً تعيش نتائج نظام سياسي عمّر أكثر من أربعة عقود (1969-2011)، ترك البلاد حقلا قاحلاً بدون مؤسسات، ولا وسائط سياسية واجتماعية، والأخطر أنه كرّس نمطاً تربويا وتعليميا ومدنياً، يقتضي عقودا من الزمن لتفكيكه وإعادة بنائه على نحو مغاير ومختلف.

ومن هنا، نفهم لماذا سهل اختراق الأرض الليبية، لإسقاط النظام أولا، وترك البلاد مرتعا للقبلية، والجهوية، ولغة السلاح. وندرك ثانيا أسباب تصاعد شهية القوى الإقليمية والدولية لتوزيع خيرات الليبيين من نفط وغاز، بل والفوز في جذب بعض القادة الليبيين إلى جعلهم شركاء في تبديد ثروات بلدهم، تحت أسباب وذرائع كثيرة، لا ترتقي إلى مستوى القيمة التي يجب أن تُعطى للوطن، والاستعداد الذي يلزم التعبير عنه لإنقاذه والمحافظة عليه..

لذلك، يمكن للإرادة الدولية، إن حضرت النزاهة والصدقية لدى أصحابها، أن تُخرج ليبيا من أزمتها، غير أن القرار الفصل لتخليص ليبيا من عقدتها يعود أولا وأخيرا لليبيين أنفسهم، وللحكماء في بلدهم، وللنخب الصالحة في مجتمعهم.
التعليقات (0)