أفكَار

لماذا يتناقض التطبيع مع الديمقراطية؟ مثقفون يجيبون

تونسيون يتظاهرون أمام سفارة الإمارات رفضا للتطبيع مع إسرائيل  (الأناضول)
تونسيون يتظاهرون أمام سفارة الإمارات رفضا للتطبيع مع إسرائيل (الأناضول)

أعاد اتفاق التطبيع الإماراتي ـ الإسرائيلي الذي أعلن عنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم 13 من آب (أغسطس) 2020، الجدل مجددا إلى الساحات الثقافية والفكرية والسياسية في العالم العربي ليس عن خطر التطبيع على القضية الفلسطينية فحسب، وإنما أيضا باعتباره أحد أدوات الثورات المضادة، التي تعمل على إجهاض الانتقال الديمقراطي في منطقتنا العربية.

وعلى الرغم من حالة الرفض الشعبي الذي ميز الموقف العربي إزاء الاتفاق الإماراتي ـ الإسرائيلي، فإن ذلك لم يمنع حكام الإمارات من الاستمرار في قرار التطبيع مع الاحتلال، حتى وإن كان ذلك يتعارض مع ما اتفق عليه العرب جميعا في آخر مبادرة عربية للسلام قدموها في العام 2002.

وإذا كانت ضرورات السياسة قد فرضت على النظام العربي صمتا مريبا إزاء اتفاق التطبيع الإماراتي ـ الإسرائيلي، حيث لم يصدر أي موقف عربي رسمي رافض للاتفاق منتقد له، فإن ذلك لم يحل دون عدد من القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني فضلا عن عدد من المفكرين والمثقفين من الإعلان عن موقفهم الرافض بشدة لهذه الخطوة الإماراتية، ليس باعتبارها ضد مصلحة الفلسطينيين فحسب، وإنما لكونها واحدة من أدوات إجهاض ثورات الربيع العربي.

الإعلامي التونسي الحسين بن عمر، يناقش في هذا التقرير الخاص بـ "عربي21"، مع عدد من المفكرين والمثقفين العرب، مسألة التطبيع ليس من زاوية علاقتها بالحق الفلسطيني الذي تقره الشرائع السماوية والقوانين الدولية، وإنما من زاوية علاقتها بشعارات الانتقال الديمقراطي ومطالب المواطنة في العالم العربي. 

الديمقراطية تحقيق للمواطنة

كما للثورات جراحاتها وارتهاناتها المحليّة والدّولية، فإنّها غالبا ما تفيض برأسمال إنساني وأخلاقي أو فكري، قادر على ضبط إيقاعها الثوري والمحافظة على عمقها الإنساني. ومن البديهي أن لا تشذّ ثورات الربيع الديمقراطي، التي مثّلت انتفاضة سيدي بوزيد في شهر كانون أول (ديسمبر) 2010 شرارتها القادحة، عن هذه الصيرورة. فبقدر ما ظلّ الهاجس الغالب لدى طيف واسع من التونسيين، وهم يكابدون الإرهاصات الصعبة للفترة الانتقالية، هو أن تنجح ثورتهم في صناعة التوافقات التاريخية المؤلمة بين الجديدة والقديمة خدمة للتنمية وتجاوزا لأخاديد سنوات الدكتاتورية، فإنّ توقا فيّاضا لدى عموم التونسيين إلى أن يكون الوصم البارز لثورتهم السلمية ولانتقالهم الديمقراطي السلس هو تحقيق توافق معرفي بين فكرتي المقاومة والمواطنة ومنظومتيهما.

فقد كان لافتا للانتباه، الارتباط الوثيق بين شعاري الثورة التونسية: "الرحيل يا عصابة السرّاق" و"الشعب يريد تحرير فلسطين". هذا الوعي المتقدّم في شعارات الثورة التونسيّة وإجماع التونسيين، على اختلاف مشاربهم الفكرية وتنظيماتهم السياسية، على مركزية القضيّة الفلسطينية في وجدان التونسيين، إلى الحد الذي يرتقي فيه الموقف من القضية الفلسطينية ومقاومتها الباسلة إلى مستوى العامل المحدد في توجّهات الناخبين، في مقابل موجة التطبيع الخليجيّة التي تقودها دولة الإمارات العربيّة المتحدّة، دافع مهم للتساؤل عن مدى أهليّة تونس الثورة في قيادة قطار مقاومة التطبيع مع الصهاينة ومناقشة طبيعة الدّور الموكول للفنانين في نشر ثقافة المناهضة لدى شرائح واسعة من التونسيين. كما أنّ إجماع التونسيين على مركزية القضية الفلسطينية يجعلنا نبحث في مدى تلازميّة فكرتي المواطنة، بوصفها المكسب الأبرز للثورة التونسية، والمقاومة. 
 
هل تقود تونس الموجة المناهضة للتطبيع؟

يرى الدكتور زهيّر إسماعيل، باحث في مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية، في تصريح لـ "عربي21"، أنّ الإجابة على سؤال مدى قدرة تونس (الثورة) على قيادة موجة مناهضة التطبيع مع الكيان الصّهيوني، بعد توقيع ما سمّي بالاتّفاق الإماراتي ـ الإسرائيلي، تنفتح على أهمّ القضايا التي تشغل المجال العربي ومحيطه وتسلّط الضوء على زوايا معتّمة أريد لها أن تبقى كذلك، وفي مقدّمتها مسألة الثورة ومسار بناء الديمقراطيّة الذي انطلق في 2011 وعلاقتهما بالقضيّة الفلسطينيّة ودعوى "الربيع العبري" ومسألة التطبيع.

 


 
ويضيف إسماعيل: "إنّ تخصيص تونس بهذا السؤال مردّه أنّ تونس هي البلد العربي الوحيد الذي تواصل فيه المسار الديمقراطي، بالرّغم من تحوّل الحراك الثوريّ في سوريا واليمن وليبيا إلى احتراب أهلي مدمّر وبالرغم من إجهاض المسار الديمقراطي الجنين في مصر، بواسطة الانقلاب العسكري الدموي الذي تمّ في 3 تموز (يوليو) 2013".

في ذات السياق، يرى إسماعيل أنّه لم يكن هناك انتباه كبير إلى تلازم شعارين انطلقا مع الثورة من تونس هما: "الشعب يريد إسقاط النظام" و"الشعب يريد تحرير فلسطين"، وتردَّدا في مصر وليبيا وسوريا واليمن. وتكرّر هذا التلازم خلال الموجة الثانية من ثورات الشباب في الجزائر والسودان ولبنان والعراق.

المجال العربي وحدة جغرافيّة ولسانيّة مرشّحة لأن تكون قوّة سياسيّة واقتصاديّة وازنة بكيانها السياسي المستقلّ مثلما هو حال المجال التركي والمجال الإيراني المجاورين. ولكنّ عاملين حالا دون أن يحقّق المجال العربي ما تحقق في تاريخ المجالين الجارين وهما: الاستبداد والاحتلال. وهو ما جعل هذا المجال منطقة للتدخّل الإقليمي والدولي بما في ذلك تدخّل المجالين الجارين. لذلك كانت الغاية التي تجري إليها الثورة ومستر بناء الديمقراطيّة في المجال هو بناء الكيان السياسي للمجال وإزالة ما يعترضه من عقبات في مقدّمتها الاحتلال والاستبداد. كان هذا حدس الشعوب وفطرتها السياسيّة.

من جهته يرى الدكتور ناجي الحجلاوي، شاعر وباحث في الحضارة، في تـ "صريح لـ "عربي21"، أنّ قيادة الوعي المقاوم للتّطبيع يجد في البيئة التّحرّريّة التونسيّة تربة صالحة للنّمو والتّطور. وممّا يغذّي هذا الوعي المقاوم اختلاط دماء الفلسطينيين بدماء التّونسيّين في حوادث حمّام الشّط وسيلان دم محمّد الزّواري عل يد الصّهيونيّة الغادرة. كما أنّ تونس وهي تخوض معركة التّحرّر من الدكتاتورية منذ 14 كانون ثاني (يناير) 2011، البلد الصّغير الذّي حوى الزّيتونة أول جامعة في التّاريخ الإسلامي وحوى بيت الحكمة أوّل مؤسّسة ثقافيّة في الشّمال الإفريقي، وهو البلد الذّي سبق أمريكا في مسألة تحرير العبيد بل علّمها كيف يكون الإنسان حرّا، فإنّها تروم قيادة العالم العربي في مجال مناهضة التطبيع. إنّه بلد الشّابي صاحب إرادة الحياة وأغاني الحياة إنّه شعب لا يحب الحياة فقط بل يتوق إلى صناعتها.

إذا الشعب يوما أراد الحياة        فلا بدّ أن يستجيب القدر 
ومن لا يحبّ صعود الجبال       يعش أبد الدّهر بين الحفر 

وهو القائل أيضا:
 
سَأعيشُ رَغْمَ الدَّاءِ والأَعداءِ              كالنَّسْر فوقَ القِمَّةِ الشَّمَّاءِ
أرْنُو إلى الشَّمْسِ المُضِيئةِ هازِئاً          بالسُّحْبِ والأَمطارِ والأَنواءِ
لا أرْمقُ الظِّلَّ الكئيبَ ولا أرَى           مَا في قَرارِ الهُوَّةِ السَّوداءِ

تلازم المقاومة والمواطنة

بديهي أن يقودنا السؤال السالف عن مدى أهلية تونس الثورة لقيادة مشروع مناهضة التطبيع عربيّا إلى ثنائيّة ظلّت مستفزّة ولسنين طويلة لأنظمة عربيّة مستبدّة بشعوبها في الوقت الذي ما فتئت ترفع فيه شعار مقاومة المحتل الصهيوني، وفي طليعة هذه الأنظمة نجد الأنظمة القومية، على وجه الخصوص النظام الناصري في مصر ونظاما "البعث" في كل من العراق وسوريا.

في هذا الإطار يؤكّد زهيّر إسماعيل على أنّ تحرير الأوطان، على وجه الخصوص فلسطين، لا يتمّ إلاّ بشعب حر. فلا تكفي الوطنيّة في هذا الباب. وكان هذا شأن الانقلابات العسكريّة في البلاد العربيّة منذ مطلع خمسينيّات القرن الماضي، والتي قامت باسم الوطنيّة وتحرير فلسطين. ولكنّها بسبب استبدادها لم تحرّر فلسطين ولم تقم تنمية ولا كرامة. وبقايا هذه الأنظمة التقت مع قوى التطبيع في أطروحة "الربيع العبري" وتعاونت معها على حرف الثورة إلى حرب أهليّة.

ويضيف إسماعيل إنّ هذا السياق ساعد على كشف الفارق المهمّ بين المقاومة العضويّة، التي تلازم بين المقاومة والمواطنة، وبين المقاومة الوظيفيّة، التي تفكّ الارتباط بينهما وتستمد مشروعيتها من خارج سياقها المحلي والوطني. وبالتالي فإنّ هذا السياق رسّخ الأطروحة التي تربط ربط ضرورة بين المقاومة، على وجه الخصوص تحرير فلسطين، والمواطنة، بما تعنيه من إسقاط نظام الاستبداد وتأسيس الحريّة.
 
والخلاصة الأكثر تكثيفا وفق إسماعيل هي أنّ من يقود الحرب على التطبيع هو السياق الذي يستمرّ فيه المسار الديمقراطي والتقدّم في بناء المواطنة. وتمثّل تونس الحالة الوحيدة تقريبا التي يتوفّر فيها هذا الشرط. ولذلك اكتسبت معركة بناء الديمقراطيّة وتواجه قوى الثورة والثورة المضادّة في السياق التونسي بعدا إقليميّا وعالميّا. فليس غريبا أن يتابع العالم وهو يكتم أنفاسه لحظة إعلان نتائج التصويت على سحب الثقة من رئيس البرلمان. الديمقراطيّة ومسار تأسيسها في المجال العربي تهديد لنظام الاستبداد العربي ولـ"الديمقراطيّة الاستيطانيّة العنصريّة" التي تخاف من أن يصبح الشعب المحيط بها حرّا مثل "شعبها" المجلوب من وراء البحار بعد سلخه عن هويّته الأوروبيّة وإيهامه بأرض موعودة هناك في ضفّة المتوسّط الجنوبيّة.

 


   
من جهته يرى ناجي الحجلاوي أنّ الحريّة جوهر نفيس يظلّ يتنفّس كالأنفس حتّى في ظلّ الاستبداد الذّي ساد البلدان ولا سيّما العربيّة منها والإسلاميّة، والدّليل على حيويّة هذا الجوهر ما شهدته تونس من إطاحة بأعتى الأنظمة السّلطويّة. ومع ذلك فإنّ ولادة الحريّة تظلّ ولادة قيصريّة عسيرة التّحقّق، لأنّ تحقّقها رهين حركة اجتماعيّة بطيئة النّمو في ظلّ الصراع مع أعداء التّحرّر الممجّدين للماضي وبؤسه.
 
الفنان دعامة المجتمع المقاوم

إنّ تعزيز المواطنة الفاعلة، بوصفها متلازمة لفكرة المقاومة، يتمّ من خلال سعي المثقف، الفنّان على وجه الخصوص، إلى الانخراط في مختلف قضايا مجتمعه. انخراط من شأنه أن يقود إلى تغيير اجتماعي وإدراك أفضل لدور الفنون في توطين فكرة المقاومة الشعبية الأفقية، التي بوسعها تفعيل فكرة مناهضة التطبيع الثقافي والرياضي والاقتصادي مع محتل للأرض ومغتصب للعرض.

ما سبق يدفعنا للبحث في ممكنات الفنان التونسي والعربي في غرس ثقافة الممانعة الثقافية والفنية. في هذا الإطار يرى ناجي الحجلاوي أنّ المقاومة فلسفة حياة، تشمل كل النواحي الاجتماعية والتّربوية والاقتصاديّة والسّياسيّة والمجتمع المقاوم بهذا المعنى مجتمع تسوده الحيويّة والنّشاط وفيه تتماسك عرى شبكة العلاقات الاجتماعيّة على حد عبارة المفكّر الجزائري مالك بن نبي. 

وثقافة المقاومة ذات مستويات عديدة أقلّها هي درجة مقاومة التّطبيع لأنّ العلاقة الطّبيعيّة تكون مع الإنسان في كلّ أنحاء العالم، ما عدا من افتكّ الأرض وصادر الدّيار وأسفك الدّماء على مرّ الأيّام وعلى على مرأى ومسمع العالم بأسره ضاربا بكلّ المواثيق الدّوليّة عرض الحائط. والتّنكّر لهذا العدوّ الغاصب أمر مفروغ منه ولا سيّما إذا تحلّى المرء بصفة المثقّف وصفة الفنّان.

في ذات السياق، يضيف الحجلاوي بالقول إنّ الثقافة والفنّ مجالان ينهضان في جوهرهما على الحريّة وما لا يقبله العقل أن يقيم الحرّ مع الغاصب علاقة طبيعيّة. تستمدّ الثّقافة مضامينها ويستلهم الفنّ أفكاره من الحياة ولا قيمة للحياة إذا تمّ اغتصابها وتدنيسها بالجريمة المنظّمة ولا أدلّ على ذلك من القنابل المنسابة على الأبرياء يوميّا. 

الفن رؤية وخطاب صريح يثير القضايا الجوهريّة

يرى علي العبيدي، مخرج فيلم "الرديّف 54"، وجود توجّه واضح لدولة غربيّة في دعم ما أسماها بـ"السينما الرّجعيّة" داخل الفضاء الفني التونسي. وهو ما يفرض "صناعة الوعي بالقضايا العادلة وقضايا التحرر الوطني في مواجهة صناعة الوعي الزائف والقضايا الوهميّة".

ويرى علي العبيدي أنّ الديمقراطيّة بارقة أمل في المقاومة وسند كبير لها. وفي الوقت نفسه فإنّ المقاومة التي لا تدعم الديمقراطيّة هي "مقاومة انتهازيّة ومشبوهة" وأنّ "من يدّعي الديمقراطيّة ولا ينتصر للمقاومة الفلسطينية وقضيتها العادلة فهو غير ديمقراطي. فالديمقراطية والمقاومة متلازمان ويتبادلان التأثّر والتأثير. وإنّ الديمقراطيين الذين يحاصرون المقاومة بتعلاّت واهية والمقاومون الذين لا يعترفون بالديمقراطيّة هما شريكان في فسح المجال للتطرّف والدّعشنة".

 



ويخلص علي العبيدي إلى أنّ الفنّان العربي، على وجه الخصوص الفنان التونسي، عليه أن يستفيد من الديمقراطية والمقاومة وأنه من مصلحته أن تنتعش الديمقراطيّة كي تستمرّ المقاومة. وبالتالي عليه استغلال المنجز الديمقراطي لطرح القضايا الجوهرية، مشدّدا على أنّ "الفن ليس مستشفى استعجالي للأمراض النفسيّة، فهو رؤية وخطاب صريح، يثير القضايا الجوهريّة ذات البعد التاريخي الحقيقي". 
 
ضرورة ربط مشروع مناهضة التطبيع بمشروع المقاومة نفسه

يرى الدكتور أسامة عكنان، مخرج وسيناريست وناقد سينمائي أردني، في تصريح لـ "عربي21"، بضرورة ربط الفنان بمنتج لفن مناهض للتطبيع، مؤكدا على أنّ قدرة الفنان على الإنتاج تظلّ محدودة، ما لم ترتبط بمؤسسة إنتاج متبنية لفكرة مناهضة التطبيع وداعمة لها. وهو ما يفرض وفق رأيه اختراق مؤسسة التوزيع وإعادة النظر في البنية الأساسية لمؤسسة عمل الإنتاج الفني.

 


ومع تأكيد عكنان على ضرورة استثمار المتاح المحدود في مناهضة التطبيع، بحكم افتقاد المجال الفني والدرامي التونسي إلى فكرة الصناعة الدرامية والسينمائية، فضلا عن الصناعة السينمائية نفسها، فإنه يؤكّد في الإطار نفسه على أن مشروع مناهضة التطبيع يبقى محل لبس وارتباك وفوضى مادام معزولا عن مشروع المقاومة نفسها. مضيفا بالقول أنّ مشروع مناهضة التطبيع سوف يظلّ أعرجا إذا كان منفصلا عن مشروع المقاومة وأنّ مشروع المناهضة لا يجب أن يكون بديلا عن مشروع المقاومة.

معضلة مؤسسات إنتاج الفن المناهض

بالرغم من أهمية فكرة مناهضة التطبيع ومع الإقرار بحتمية انخراط الفنّان المناهض في عمليّة إنتاج فني مناهض إذا كان يروم ترسيخ فكرة المناهضة ونجاحها، فإنّ عكنان يشير بالبنان إلى ما يعتبرها معضلة عملية تواجه إنتاج الفن المناهض، وقال: "إن المعادلة محكومة بواقع موضوعي غير مساعد على إنتاج منجزات مناهضة خصوصا في مجال السينما، بحكم سيطرة الجهات غير المنخرطة في مناهضة التطبيع وربمّا المعادية لها على شبكات التمويل الداخلي والخارجي". 

ويذكر عكنان أنه يملك فيلما كاملا وجاهزا للتصوير، يحمل عنوان: "عرس في طريق البحر"، مدّته قد تصل إلى ثلاث ساعات كاملة، وبمواصفات عالميّة، ويقدّر أن مشروع فيلمه يمكن أن يكون أكبر مشروع فنّي مناهض لما تسمّى بـ"صفقة القرن"، ولكنّه مركون لغياب المنتجين والمموّلين. هذا بالإضافة إلى روايته "الحليب والدّم"، نشرت بدار نشر مصريّة سنة 2011، وتطرح فكرة رفض التطبيع مع الصهاينة، من خلال قصّة عائلة مصريّة اضطرّت للعلاج في فلسطين المحتلّة. 

ويقول عكنان إنه بالرغم من الاهتمام الكبير الذي لاقته الرواية من لدن الإعلام الرسمي المصري في عهد مبارك، فإن "مدير إنتاج قناة المنار اللبنانية، التابعة لحزب الله، قال لي قبل حرب تموز 2006 حرفيّا: "الرواية وفكرة الفيلم المستوحاة منها فيهما تجنّ على اليهود !!". 

هل يخشى العرب من مواجهة ثقافة الاحتلال والتّطبيع؟ 

في محاولة لفهم خلفيات قابليّة فئة كبيرة من العرب، حكومات وشخصيات، لفكرة التطبيع مع الصهاينة، يرى ناجي الحجلاوي أنّه قد مرّ على العرب زمن طويل من الدّهر يتنفّسون الخوف ويقتاتون من مآدبه، فاستهلكوا ثقافة الخوف وأصبحوا منتجين للقهر في كلّ مستوياته السّياسية والاجتماعية والفكرية. يُقهر المرء في الأسرة و في المدرسة وفي الشّارع وفي الإدارة. ولا عجب في أنّ يخاف المقهور من أعدائه. تحوط به الهواجس والمخاوف من قطع رزقه ومن نفيه ومن سجنه، ولا يستطيع الدّفاع عن نفسه المظلومة ليستردّ حقّه المسلوب. ولمّا كان فاقد الشّيء لا يعطيه فإنّ العرب الذّين فقدوا شجاعتهم التّي عرفوا بها في جاهليتهم لا يطمع المرء في أن يتصدّوا للغاصب. وليس خافيا أنّ العلاقات الجائرة بين الدّول القويّة والأخرى الضّعيفة تفرض على الضّعفاء قابليّة الاستعمار ومن قبِل الاستعمار لكونه مغلوبا ولع بتقليده وسار في ركبه وهكذا يدور في فلك التّطبيع لأنّه لا يمتلك إرادة حرّة وقرارا مستقلّا.

الشعر الشفوي واستنهاض الأمّة

يرى متابعون أنّ هزيمة الأيام الست سنة 1967 كانت فاصلة في ارتحال غرض الشعر الشفوي من همِّ القبيلة إلى همِّ الأمّة. ارتحال استبدل الحنين إلى النجع والحنين إلى القبيلة بالحنين إلى الأمّة وهمومها في التحرر من نير المحتل الغاصب للأرض والمنتهك للعرض. ولئن أسهمت هزيمة 1967 في تحويل محور أغراض الشعر الشفوي وجعل قضايا الأمّة في طليعة اهتمام الشعراء فإنّ غطرسة الصهاينة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، فضلا عن حالات الوهن والتشتت العربيين، قد أفاضت الشّعر "القومي" وجعلت منه عنوانا بارزا للتشهير بالاحتلال ودعم مقاومته الباسلة. 

 


 
في هذا الإطار، يؤكّد الشاعر الشعبي محمد الغزال الكثيري، في تصريح لـ "عربي21"، على أنّ القضية الفلسطينية مثّلت ملفا مُهمّا شغل النخب المثقفة على اختلاف مذاهبها وانتماءاتها السياسية والعقدية والإيديولوجية منذ تاريخ النكبة، مضيفا أنّ الشعر الشعبي، بوصفه المعبّر عن هواجس الناس وميولاتهم، لم يكن بدعا من الوعي العربي العام الذي ظلّ مستنكرا لاحتلال فلسطين، وهو ما جعل معظم الشعراء الشعبيين ينشغلون باكرا بهذا الهاجس العربي التليد وقد واكبوا مختلف أطوار الأزمة فعايشوها منذ انطلاقتها سنة 1948 ولامسوا تطوراتها، حتى كبُر حُلمهم بالوحدة والتحرر وتجرعوا مرارة الانتكاسة التي ظهرت في قصائدهم ومرثياتهم.

التعليقات (0)