مهما اختلفت مواقف المهتمين بالشأن التونسي من الأحزاب ومن مسار الانتقال الديمقراطي أو طبيعة نظام الحكم، فإنهم لن يترددوا في اعتبار حركة النهضة والتيار الديمقراطي (ومن ورائه الكتلة الديمقراطية في البرلمان) اثنين من أهم الفاعلين السياسيين في تونس. وإذا ما كانت حركة النهضة فاعلا أساسيا في الحياة السياسية القانونية منذ فترة المجلس التأسيسي التي أعقبت ثورة 17/14 المجيدة، فإن التيار الديمقراطي قد أصبح رقما صعبا في التوازنات السياسية بعد انتخابات 2019 التشريعية.
ورغم تصدر النهضة لنتائج الانتخابات التشريعية، فإن تحصل التيار الديمقراطي على المرتبة الثالثة (بعد حزب قلب تونس المحسوب على المنظومة القديمة) أوجد مشهدا سياسيا مربكا للحزب الأغلبي، وجعله بين خيارين لم يكن من السهل الحسم فيهما داخل الحركة: الالتزام بالوعود الانتخابية التي أكدت على ضرورة الخروج من "مرحلة التوافق" مع ممثلي المنظومة القديمة، أو الانقلاب على تلك الوعود ومواصلة سياسة التوافق؛ مع ما يعنيه ذلك من كلفة"سياسية" في مستوى الداخل النهضوي (تغذية الانقسام بين القيادات وخسارة جزء من القاعدة الانتخابية التقليدية للحركة) وكلفة "أخلاقية" بترسيخ صورة الحزب الذي اختار أن يطبّع مع المنظومة القديمة بشروط تلك المنظومة.
ولم يكن حرج التيار الديمقراطي أقل من حرج حركة النهضة. فالناخب التونسي قد اختار أن يُسند المرتبتين الأولى والثانية لقوتين سياسيتين يمينيّتين لم يُخف التيار معارضته لخياراتهما الاقتصادية والاجتماعية، كما لم يُخف في حملته الانتخابية تموقعه في اليسار الاجتماعي الرافض لمنطق التوافق مع المنظومة القديمة ومحصوله الكارثي. ولكنّ الواقع السياسي كان يفرض على التيار الديمقراطي (كي يخرج من تهمة استمراء النقد النسقي للسلطة دون القدرة على تحمل مسؤوليتها) أن يطرح نفسه باعتباره مشروعا للحكم وليس فقط للمعارضة. وكان"الحكم" يعني واقعيا أن يقبل التيار بالعمل المشترك مع تشكيلات حزبية وأيديولوجية "يمينية" بالضرورة.
ورغم تخفف التيار من منطق اليسار الثقافي (أي اليسار الوظيفي الذي كان يشتغل بمنطق التعارض الرئيس مع الإسلاميين والتعارض الثانوي مع البرجوازية اللاوطنية الحاكمة)، فإنه كان يتوجس خيفة من حكومة النهضة الأولى (حكومة الحبيب الجملي)، ولذلك كان من بين الأطراف البرلمانية التي أسقطت هذه الحكومة ورفضت تزكيتها.
وبصرف النظر عن الأنساق الحجاجية التي استعملتها النهضة أو التيار لتبرير منطق تشكيل الحكومة أو إسقاطها، وبصرف النظر عن الإرباك الذي أحدثه قرار النهضة اعتماد "توازي المسارات" بين الانتخابات الداخلية في مجلس النواب وبين منطق تشكيل الحكومة، فإن عدم تزكية حكومة الحبيب الجملي جعل القرار يعود إلى رئيس الجمهورية الذي يعطيه الدستور التونسي الحق في اختيار المرشح "الأقدر" لتشكيل ما أسماه بعض قيادات حركة الشعب الناصرية بـ"حكومة الرئيس". وهي حكومة شكّلها إلياس الفخفاخ الذي لم يكن مرشح حركة النهضة ولا حزب قلب تونس، ولكنه كان (لأسباب تحتاج إلى تفسير يتجاوز حدود هذا المقال) مرشح جزء من المنظومة القديمة (حزب تحيا تونس بقيادة رئيس الوزراء السابق يوسف الشاهد) ومرشح حزب التيار الديمقراطي.
تحالف سياسي بين رئاسة الجمهورية والكتلة الديمقراطية؛ التي قبلت دخول الحكومة بشروط أقل من تلك الشروط التي وضعها التيار الديمقراطي أمام الحبيب الجملي
وبحكم افتقاد إلياس الفخفاخ لقاعدة حزبية أو انتخابية كبيرة (تحصّل على 0.63 في المئة من أصوات الناخبين في الانتخابات الرئاسية ولم يتحصل حزب التكتل الذي ينتمي إليه على أي مقعد في البرلمان)، فإن اختياره من طرف الرئيس كان إيذانا بميلاد تحالف سياسي بين رئاسة الجمهورية والكتلة الديمقراطية؛ التي قبلت دخول الحكومة بشروط أقل من تلك الشروط التي وضعها التيار الديمقراطي أمام الحبيب الجملي، ثم رفض دخول الحكومة رغم الموافقة على أغلبها الأعم.
من توازي المسارات إلى تداخلها
كان ملف شبهات
تضارب المصالح وشبهات الفساد التي طالت رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ هو القطرة التي أفاضت كأس الحزام الحكومي الهش. فقد استغلت حركة النهضة هذا الملف ليطالب مجلس شوراها بتغيير المشهد الحكومي؛ الذي لم تُخف الحركة يوما رغبتها في توسيعه ليشمل حزب "قلب تونس". وأمام رفض رئيس الحكومة والكتلة الديمقراطية لهذا المقترح، مدعومين برئاسة الجمهورية، قدمت النهضة لائحة لسحب الثقة من الحكومة ممضاة من 105 نائبا برلمانيا. ولكنّ رئيس الجمهورية سارع إلى قطع الطريق أمام إمكانية عودة حق تشكيل الحكومة إلى الحزب الفائز بالانتخابات (أي حركة النهضة) وطالب رئيس الوزراء بالاستقالة حتى يبقى المتحكم الأول في عملية الاختيار طبقا للدستور، وهو ما كان.
رغم أهمية الخلاف في الموقف من رئيس الحكومة ومن تشريك حزب قلب تونس في الحكومة، فإنه لا يمكن اختزال التوتر بين النهضة والتيار في المستوى الحكومي. فمواقف الحزبين تكاد تبلغ درجة التناقض في مستوى علاقة كل طرف منهما برئاسة الجمهورية أو بالاتحاد العام التونسي للشغل وباقي الشركاء الاجتماعيين ومكوّنات المجتمع المدني، وفي مستوى مجلس النواب.
فالتيار الديمقراطي يرى أن منطق "توازي المسارات" قد أوجد مشهدا برلمانيا يحتاج إلى تعديل جذري؛ بتنحية رئيس المجلس الذي يحمله الحزب المسؤولية الأولى عما آل إليه العمل البرلماني من فوضى. ولكنّ رفض محصول توازي المسارات جعل التيار أمام واقع "تداخل المسارات" الذي جعله يتلقي موضوعيا (بصرف النظر عن مقاصده) مع وريثة التجمع المنحل وحاملة مشعل الاستئصال "الصلب"
عبير موسي، وهو التقاء برز في تزكية ممثل التيار الكتلة الديمقراطية للائحة تقدمت بها عبير موسى لاعتبار حركة النهضة حركة إخوانية إرهابية، كما برز في اللائحة التي تقدمت بها الكتلة الديمقراطية وكتل أخرى
لتنحية رئيس البرلمان.
الالتقاء الموضوعي مع زعيمة الحزب الفاشي قد حصل، مع ما يعنيه ذلك من تقوية العداء بين النهضة والتيار، خاصة بعد أن أبدى بعض قيادات الكتلة الديمقراطية رغبتهم في تشكيل حكومة تستثني النهضة
ورغم رفض الكتلة الديمقراطية إمضاءات نواب "الدستوري الحر"، فإن الالتقاء الموضوعي مع زعيمة الحزب الفاشي قد حصل، مع ما يعنيه ذلك من تقوية العداء بين النهضة والتيار، خاصة بعد أن أبدى بعض قيادات الكتلة الديمقراطية رغبتهم في تشكيل حكومة تستثني النهضة، دون "قلب تونس" وباقي ممثلي المنظومة القديمة.
عندما ظهر التيار الديمقراطي، استبشر الكثير من التونسيين بهذا الحزب اليساري الاجتماعي الذي يعد بالخروج من المربع الأيديولوجي، وبإعادة الصراع إلى مداراته الاقتصادية والاجتماعية التي ارتد عنها أغلب المنتمين إلى عائلات اليسار الثقافي. وما زاد من تفاؤل التونسيين (بمن فيهم النهضويون الرافضون لمنطق التوافق) هو ضمور المحدد الأيديولوجي للصراع في خطابات التيار، وتركيزه على موضوع مقاومة
الفساد الذي كاد أن يتحول إلى سياسة دولة.
ولكنّ استمرار سيطرة جناح التوافق على قيادة النهضة بزعامة راشد الغنوشي، واقتراب التيار من رئاسة الجمهورية والاتحاد العام التونسي للشغل (وقياداته التي تغلب عليها المقاربة "الوطدية" في التعامل مع الإسلاميين)؛ كل ذلك كان يؤذن باتساع الهوة بين الحزبين. وهي هوّة تجعل الحديث عن إمكانية ميلاد كتلة تاريخية يكون نواتها حركة النهضة والتيار ضربا من الخيال، على الأقل في المستوى المنظور.
مطر الخلاف.. وخراج المنظومة
ختاما، يبدو أنّ الكتلة الديمقراطية (حسب تصريحات الكثير من قياداتها) تتجه نحو البحث عن إمكانية تشكيل حكومة تستثني حركة النهضة. وهي فرضية ذات كلفة سياسية كبيرة على هذا الحزب، لأن تلك الحكومة لا يمكن تشكيلها بغير "قلب تونس" الذي كان التيار إلى وقت قريب يعارض أي دخول له في حكومة الفخفاخ. كما أنها ستكون حكومة "المنظومة القديمة"، بامتياز لأنها غير قادرة على الاستغناء عن "شقوق" نداء تونس حتى إذا ما استغنت عن حزب عبير موسى.
وسيكون من الصعب على التيار أن يفسر (خارج منطق الاستئصال لايت) سبب قبوله بتشكيل حكومة مع "المشبوهين" ورفض حركة النهضة التي كان وما زال يتهمها بتوفير الحماية لهم.
سواء أتحقق مطلب التيار الديمقراطي (تكوين حكومة بغير حركة النهضة) أم تحققت رغبة النهضة (تشكيل حكومة مع قلب تونس)، فإن المستفيد الأعظم سيكون "المنظومة القديمة" التي ستضمن تواصل هيمنتها على الحقل السياسي، مهما كان السيناريو الذي ستعرفه تونس في الأيام القادمة
أما حركة النهضة فإنها (في ظل هيمنة فريق التوافق) ستوظف موقف التيار والكتلة الديمقراطية كلها للدفاع عن سياسات التطبيع مع المنظومة القديمة. وستعمل على إقناع قواعدها بصدق توجهاتها السابقة وخياراتها اللاحقة؛ بحكم أن"الثوريين" في اليسار الاجتماعي وفي حركة الشعب لا يختلفون في شيء عن "اليسار الثقافي" أو "الجبهة الشعبية"، وهم يمثلون تهديدا وجوديا للنهضويين، مما يستدعي التحالف الاستراتيجي مع ممثلي المنظومة القديمة (أو ما يُسمى
بالمصالحة التاريخية بين الإسلاميين والدساترة).
وسواء أتحقق مطلب التيار الديمقراطي (تكوين حكومة بغير حركة النهضة) أم تحققت رغبة النهضة (تشكيل حكومة مع قلب تونس)، فإن المستفيد الأعظم سيكون "المنظومة القديمة" التي ستضمن تواصل هيمنتها على الحقل السياسي، مهما كان السيناريو الذي ستعرفه تونس في الأيام القادمة.
twitter.com/adel_arabi21