ما لا شك فيه أن
روسيا إحدى الدول الكبرى الفاعلة في المنظومة الدولية عموما وفي منطقتنا خصوصا، لا سيما في العقد الأخير من الزمان، وخاصة مع تداخل مصالحها السياسية والاقتصادية في المنطقة العربية من الخليج العربي، مع تطور العلاقات السعودية الروسية، لا سيما من خلال تحالف "أوبك+" الذي شكل في المرحلة السابقة عنوانا لتلاقي قطبي
النفط، وأرخى بظلاله راحة على الأسواق العالمية النفطية بين عامي 2016 و2019 قبل كارثة عدم الاتفاق في آذار/ مارس الماضي، وما تلاها من انهيار هائل لأسواق الطاقة، حتى وصل سعر الخام الأمريكي إلى سالب 37 دولارا للبرميل، كذلك الدور الروسي المحوري مع قطر، لا سيما في ثروات الغاز الطبيعي والانسجام الكامل في التعاطي والتكامل بين الدولتين، وصولا إلى الدور الروسي الفاعل والأساسي في سوريا بكافة فصولها العسكرية والسياسية، ناهيك عن لعبة القط والفأر مع الدولة التركية والعلاقات المتأرجحة مع الجمهورية الإسلامية في إيران.
إن كل هذه العلاقات صاغتها موسكو بميزان الذهب ترغيبا وترهيبا لسنوات خلت، غير أن الأمور على ما يبدو تبدلت في الآونة الأخيرة، وذلك مع دخول الزائر القاتل، فيروس
كورونا الذي على ما يبدو سيكون له تأثير بالغ على الاتحاد الروسي على كافة المستويات.
تبدأ تداعيات كورونا في مزيد من الضغط على المرافق الصحية في البلاد مع تفشي كورونا بطريقة جنونية في الفترة الأخيرة، غير أن موسكو على ما يبدو قادرة على احتوائه صحيا، أما اقتصاديا فيبدو لكورونا رأي آخر.
لقد انعكس انهيار اتفاق اجتماع "أوبك+" في آذار/ مارس الماضي على أسواق الطاقة، واشتعلت حرب أوبك/ روسيا لمدة تفوق الشهر، لتهوي بأسعار الطاقة إلى الحضيض مع تخمة المعروض والمنتج واضمحلال الطلب إلى الهاوية بفعل كورونا القاتل، مما راكم خسائر هائلة على الخزينة الروسية، خاصة إذا ما تذكرنا انهيار الأسعار النفطية ما يقارب 70 في المئة عن أسعار الربع الأول من العام 2020.
إلى ذلك، وبعد التدخل الأمريكي الفاضح أتى اجتماع "أوبك+" الأخير لينتج اتفاقا تاريخيا يهبط بالإنتاج 9.7 مليون برميل يوميا، وحصة روسيا وحدها ما يقارب 3.7 مليون برميل، أو ما يقدر بـ23 في المئة من قدرتها الإنتاجية. غير أن الاتفاق لم يعط المرجو منه، حيث كورونا يضرب اقتصادات الدول الناشئة، ويهلك الاقتصاد الصيني بضمور يقارب 7 في المئة، وتقفل أوروبا مصانعها، وتعلق شركات الطيران نشاطها، حتى بتنا نتحدث عن هبوط الطلب على النفط بحوالي 30 مليون برميل يوميا، فما أعطى الاتفاق ثمارا كافية لا لروسيا ولا لغيرها، لا سيما مع قلة التزام تقليل الإنتاج من دول كثيرة، خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك والبرازيل.
وهنا بدأت انعكاسات وتداعيات كورونا بالظهور. ويكفي أن نستعرض التأثير المباشر على العملة الروسية (الروبل) الذي بدأت تتذبذب أسعاره هبوطا يكاد يأخذ منحى خطيرا. إذ إنه يوم الاثنين (12 أيار/ مايو) شهد الروبل انخفاضا حادا في قيمته، لتصل قيمة الدولار الأمريكي إلى 75 روبلا لأول مرة منذ 22 نيسان/ أبريل الماضي، قبل أن تستعيد العملة الروسية بعض عافيتها.
إن الترابط العضوي بين أسواق النفط والنقد الروسي قد يشكل أزمة قادمة لموسكو، لذا لا بد من الحذر في الوقت القادم من فرضيات أكثر سوءا، تبدأ من انهيار أسعار نفط أورال الروسي لتصل إلى ما دون العشرين دولارا، وتوقعات سوداوية بوصول قيمة العملة الروسية إلى مئة روبل مقابل الدولار الواحد، إضافة إلى ذلك، ماذا عن حرب العملات العائدة بين قطبي العالم؛ أمريكا وروسيا؟
إن قوة الدولار في الآونة الأخيرة المتزامنة مع ضعف الروبل وانهيارات أسواق الطاقة خاصة؛ تعتبر تهديدا اقتصاديا جديا للدب الروسي ومتانة اقتصاده الذي يصفه بعض الخبراء بالاقتصاد الهش والمزيف.
كلنا يعلم أن الأيام القادمة حتى نهاية 2020/ وربما حتى خروج لقاح جديد لكورونا، لن تكون أياما وردية على الاقتصاد العالمي، ومنها بالمباشر الاقتصاد الروسي، فكيف إذا غمز الكثيرون بأن حرب النفط هي بالأساس بالتناغم بين دول أوبك والولايات المتحدة بهدف كبح الجماح الروسي؟! فكيف لموسكو أن تعالج أوجاعها الاقتصادية إلا عبر صندوقها السيادي، والذي على ما يبدو بات هدفا للأمريكان لتقليصه وضرب العدو اللدود بكل الأسلحة الاقتصادية والنفطية الممكنة؟
وللتذكير، فإن وزير المالية الروسي أنطون سيليانوف صرح بأن "إيرادات ميزانية روسيا من مبيعات النفط والغاز ستهبط بثلاثة تريليونات روبل (39 مليار دولار) عن المتوقع لهذا العام، بسبب انخفاض أسعار الخام".
وعليه، يدعو العديد من الخبراء الروس إلى تخطي المرحلة بأقل الخسائر عبر تغيير السلوك الاستهلاكي لدى المواطنين من أجل إنقاذ الاقتصاد، حيث إن كل مواطن يجب عليه الاكتفاء بشراء السلع الضرورية فقط، وعدم العودة إلى بعض السلوك الاستهلاكي، وذلك للمحافظة على ميزان المدفوعات والميزان التجاري الجريح بفعل انهيار إيرادات النفط الروسي هذا العام.
إن مصير الروبل الروسي لا بل الاقتصاد الروسي برمته يبدو غامضا، لأن هناك تساؤلات حول الموقع الذي ستحتله بعد أزمة كورونا مع امتداد الدور الروسي من المياه الباردة إلى المياه الدافئة في شرق المتوسط، وصولا إلى إيران وعبر المحيط نحو فنزويلا. وكلنا يعرف أن التداعيات لا تزال قائمة وبقوة والتحديات القادمة قد تكون أشد، خاصة إذا ما صحت التوقعات بأن كورونا عائد بموجة كارثية ثانية قد تكون أكثر قوة.
يرى الكثيرون أن على القيصر الروسي التبصر كثيرا قبل أي توجه، خاصة أننا على أبواب انتخابات أمريكية مفصلية في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، وقد تكون مفصلية لكل الاقتصاد العالمي مع اختلاف الرؤية لدى الحزبين في الولايات المتحدة من قضايا التجارة العالمية والعلاقة مع روسيا، وملفات استراتيجية أساسية كالنفط والغاز في دول المنطقة.