ما زلنا في خضم أزمة
كورونا،
هذه الجائحة التي زارت جميع بلدان وشعوب العالم بدون سابق إنذار، لتزاحمهم على
حياتهم قبل لُقمة عيشهم. ولكن في سياق
الفلسطينيين في الداخل يبدو الأمر مركبا
بشكل أكبر، فطبيعة هذه الأزمة جاءت لتُبرز بعض التناقضات السياسية والحياتية لهذه
المجموعة التي تُحسب على تعداد سكان المؤسسة
الإسرائيلية ومواطنيها، وبنفس الوقت
هي جزء من شعب تعاديه هذه المؤسسة وفي صراع معه.
هذه الأزمة أبرزت عدة أسئلة حول
الهوية،
والانتماء وطبيعة تعامل السلطة، في هذه الحالة السلطة الإسرائيلية، مع مجموعة
(أصلانية) تحمل هوية مختلفة، وتنتمي لشعب تعاديه، ولكنها تعيش معه معاشا وواقعا.
في
المجتمعات المختلفة حول العالم تكون
الأزمات محفزا للترابط المجتمعي، معززة للانتماء ورافعة للتلاحم بين أبناء الشعب
بترفع عن الخلافات، ولكن في سياق الصراعات المستعصية فالأمر أشد تعقيدا، وتأثيره
على الناس مختلط أو قُل صعبا.
أظهرت جائحة كورونا أن الفلسطينيين في الداخل
(فلسطينيي 48) يعيشون ضمن سياق وواقع مركّب، فهم من جهة يملكون المواطنة
الإسرائيلية، ويخضعون لمنظومة الصحة الإسرائيلية، ويعملون في السوق الإسرائيلي،
ومعيشتهم مرتبطة عضويا بهذه المؤسسة، وبالتالي فأي تغيير في المجتمع الإسرائيلي له
ارتدادات عليهم. ولكن في نفس الوقت هم جزء من شعب فلسطيني احتلت أرضه، وبفعل حرب
ونكبة ألمّت بهم أصبحوا واقعين تحت سلطة أخرى.
أطلّت جائحة كورونا لتُظهر تعقيد الحالة التي
يعيشها الفلسطينيون في الداخل، لترتبط بسؤال الهوية والانتماء في مقابل الواقع
المُعاش ومصيرهم الحياتي المتعلّق بالسياق الذي يعيشونه، ليخرج علينا البعض، ومع
وطأة الجائحة، بالقول إن الفلسطينيين في الداخل والإسرائيليين لديهم "مصير
مشترك"، مع عدم إظهار الواقع على حقيقته، لينسل للتفكير بُعد الأسرلة كانتماء
يناهض الانتماء الفلسطيني وليخرج بعباءة الإنسانية.
وعليه من المهم التوضيح أن "المصير
المشترك" في واقع كورونا ليس نابعا من حالة حتمية ارتضاها الفلسطينيون في
الداخل، بل من حالة احتلالية، وتحوّل تاريخي وإجبار لأصحاب البلاد، على تركها أو
وضع مصيرهم بيد الآخرين، وفرض مصير مجموعة أخرى عليهم. وبالتالي هو واقع مُختلق وليس
مصيرا مُختارا.
والحالة الإنسانية المرتبطة بتمني زوال المرض
عن الناس غير منعزلة عن ضرورة عدم الانجرار لتشويش الحدود المهمة بين التعاطف
الإنساني وبين رفض الظلم والاحتلال، والذي هو رفض إنساني وأخلاقي من الدرجة
الأولى، ورفض فاعليه وإدانتهم يجب أن لا توقفه أزمة.
أظهرت أزمة كورونا كذلك أن لها أبعادا سياسية
واجتماعية تتقاطع فيها حقيقة الاحتلال الإسرائيلي والواقع المركّب للفلسطينيين في
الداخل. فعلى صعيد المؤسسة الإسرائيلية ظهر أن التعامل مع الفلسطينيين في الداخل
ومحاولة فحص انتشار الوباء في صفوفهم كان متأخرا بعض الشيء، وما زال متخلفا من
ناحية الأرقام والمتابعة عن المجتمع اليهودي الإسرائيلي، مما يشتم منه البعد
العنصري، مع أن المؤسسة الإسرائيلية ستضطر لأن تقوم بمجابهة الفيروس في المجتمع
العربي، ليس حبا في الفلسطينيين في الداخل وإنما خوفا على المجتمع اليهودي
الإسرائيلي وانتقال الفيروس له مجددا، وإلّا ستضطر لخلق حالة دولتين في الداخل،
تقسم بها المجتمع العربي عن اليهودي، بما لذلك من بُعد مفاهيمي سيؤثر على تعريف
المؤسسة الإسرائيلية لذاتها وطبيعة رؤيتها لدورها وسلطتها وتصورها لما تسميه أرض
"إسرائيل". وبنفس الوقت يمكن أن تستغل هذه الجائحة لتعزيز الهوية
الإسرائيلية في صفوف بعض الفلسطينيين في الداخل، على اعتبار أنهم أصبحوا مرتهنين
بالخطوات الإسرائيلية والقرارات الحكومية، وحتى أن حيزهم الإخباري والمعرفي
والثقافي يتجه أكثر لأن يكون معتمدا على الإعلام الإسرائيلي وأذرعه.
في نفس الوقت فإن هذه الجائحة وكما يبدو يمكن
أن تخترق اختراقا ناعما، ولو شعوريا، الهوية الوطنية والدينية للفلسطينيين في
الداخل، فمع كل ما ذُكر من الارتباط بالمؤسسة الإسرائيلية والانغماس في مشاكل
الحياة المرتبطة عضويا بهذه المؤسسة، فإن ضعف القدرات الجمعية للفلسطينيين في
الداخل بتنظيم أنفسهم ومؤسساتهم وعدم قدرتهم على بناء مجتمع يعتمد على نفسه،
وكونهم أصبحوا مرتهنين ارتهانا كبيرا للمؤسسة الإسرائيلية، فإن السُبل لاختراق
هوية المجتمع تتزايد. يترافق ذلك مع الوضع السياسي والخطاب السياسي الذي تسير به
بعض الأحزاب السياسية في الداخل المتجهة للغوص في البوتقة الإسرائيلية بقصد أو
بدونه، مع ضعف القضية الوطنية الفلسطينية وتراجع الاهتمام بها.
وأخيرا، مع كل ما ذكرت لا يمكن النفي أن طبيعة
الاحتلال وخطواته التمييزية تُظهر للفلسطيني أنه كان وما زال غير مرغوب به، وطبقة
ثانية حتى لو امتلك المواطنة الإسرائيلية، وهذا ما يمكن أن يعزز انتماءه الوطني
والديني، إضافة لوجود الأصوات الوطنية وعلو صوتها في هذا الاتجاه، ناهيك عن
الموروث الوطني والثقافي المتأصل المناهض للاحتلال وظلمه في صفوف الفلسطينيين في
الداخل، مع إمكانية تراجع منسوب هذا الانتماء أو تضعضعه لفواعل كثيرة. وبالتالي
هناك حاجة لتعزيزه، ويكون ذلك من خلال دور أكبر للأحزاب والشخصيات الوطنية في ذلك،
إضافة للعمل على بناء متكامل لمجتمع عصامي يعتمد على ذاته ولديه مؤسساته الفاعلة،
وكذلك تعزيز الارتباط بالحاضنة الفلسطينية والعربية والإسلامية.