قضايا وآراء

بين تركيا "الخلافة" وتركيا "التوسعية"!

إبراهيم خطيب
1300x600
1300x600

لا شك أن كُثرا منا باتوا شاهدين على الاهتمام الكبير بالحالة التركية من قبل العالم العربي، حتى أن البعض دخل إلى أدق التفاصيل التركية وبات يتابعها بشكل دائم، وهذا يعود لعدة أسباب:

1- انعدام النموذج العربي: يعاني العالم العربي من انعدام نموذج لدولة لها ثقل في المنطقة مع قدرات اقتصادية وسياسية، ويكون فيها تمثيل حُر لشعبها وانتخابات حرة، وحضور في الساحة الدولية ومحاولة تمثيل تطلعات العالم الإسلامي ومنه العربي. فالعالم العربي يعاني من وجود دول ضعيفة وبعيدة كل البعد عن تطلّعات شعوبها وتمثيلهم الديمقراطي، بل عانى ويعاني عالمنا العربي من أنظمة قمعية قتلت شعبها وأجرمت بحقه، وأنظمة عسكرية جعلت من الدولة ثكنات ومصدر تكسب لجنرالتها، أو أنظمة شمولية يكون الحاكم مركزها وفيها توريث للحكم.

كانت هناك محاولة عربية، شعبية ومن بعض القيادات الصادقة، للخروج من عنق الزجاجة ومن هذا الوضع من خلال ربيع العرب، ولكن هذا الربيع أُريد له أن يوأد لكي تستمر هذه الأنظمة والمنتفعون منها في السيطرة على خيرات ومقدرات عالمنا العربي. لكن هذا الربيع الذي لن ينتهي وسيستمر، وإن مر في كبوات تفرضها قوة الأنظمة المُجرمة وداعميها.

في مثل هكذا واقع كانت الخيارات الإقليمية محدودة، ولعبت إيران وتركيا دورين مهمين في المنطقة. تمثل الدور الإيراني بدور توسعي داعم للأنظمة القمعية، يُرافقه نفس طائفي يُقاتل وفقه، فيما أظهرت تركيا أنها داعمة لتحرر الشعوب وساندت الربيع العربي، واحتضت مُشرديه ومطارديه. هذه الحالة دعت العديد في العالم العربي لرؤية تركيا كنموذج يسعى العرب لتطبيقه في بلدانهم.

وبالمناسبة، كانت إيران نموذجاً (وما زالت عند البعض) من خلال تقديم الدعم العسكري ومساندتها لمقاومي إسرائيل، لكن هذا النموذج تراجع كثيراً عند كثير ممن كانوا يتبنونه؛ مع كل الدور الإيراني في المنطقة ومساندته لأنظمة قمعية، وتأثير ذلك على الوعي الجمعي العربي تجاه ايران، ناهيك عن أن البعض لديه اعتبارات أيديولوجية وقومية لبغض تركيا وإيران ودورهما؛ بنفس الوقت.

وبالتالي باتت رؤية تركيا على أنها نموذج يحتذى به ويُتمنى منه الكثير على صعيد الأمة ككل. هذا لا يعني أن تركيا ليس لديها مآرب سياسية تمثّل تطلعات هذه الدولة القومية (ولربما الساعية لدور يتجاوز حدود الدولة القومية ليصل لواقع الأمة)، لكن يجب كذلك تقييم هذا الدور ودراسته، ولجمه إذا ما كان هذا الدور متجاوزاً لقواعد التعاون المشترك أو يمثّل طبيعية استحواذية قومية بحتة، بعيدة عن مفهوم الأمة الذي يريده عدد من أبناء الشعوب العربية والإسلامية.

2- قدرة تركيا وتطورها: ما زال تقدم تركيا في عدة مضامير، صناعية واقتصادية وعمرانية، حاضراً في الوعي الجمعي العربي في السنوات الأخيرة، خصوصاً مع زيارة الكثير من العرب لتركيا، وكذلك من خلال المقارنات التي يجريها العرب مع بلدانهم، إضافة للدور الكبير الذي يلعبه الإعلام والقوة الناعمة التي تبذلها تركيا في تسويق ذاتها. ويبدو أن كل هذا يؤتي أُكله في النظرة الإيجابية والمُعجبة بتركيا عند العديدين من العرب.


3- دمجها الديمقراطية والإسلام: يُدرك الجميع أن طبيعة العالم العربي محافظة، وأن شعوبها لم تنفك عن خلفيتها الإسلامية، وبنفس الوقت إرادتها للعيش بكرامية وحرية وديمقراطية وحُكم فيه العدل. وبهذا السياق نجحت تركيا بتسويق نفسها على أنها دولة فيها حريات ونوع من الديمقراطية، إضافة لتوجه من قيادتها نحو جعل الإسلام حاضراً في النقاش والحياة العامة التركية ومجابهاً متدرجاً للعلمانية الإقصائية، كل هذا مع عدم وجود بديل عربي يحاول الجمع بين الأمرين. وكل ذلك ترافق أيضا مع متابعة الناس للتغيير في تركيا ونجاح قيادتها في لجم العلمانية الإقصائية هناك، بعد سنوات عجاف من هذه العلمانية التي جعلت الحجاب جريمة والتدين مأخذاً.

مع كل ما ذكرته من النظرة المتصورة في العالم العربي لتركيا ومحاولة تحليل أسباب ذلك الإعجاب بتركيا وقيادتها الحالية، ولكن المبالغة باتت لها أثر كبير، وخصوصاً في الآونة الأخيرة.. ولكي لا نصطدم بتغيّر الواقع أو الهلامية المفرطة، يجب تحليل الحالة التركية بعين مجرّدة، والإيقان بأن الواقع التركي ليس بالضرورة هو الهدف والمأمول عربياً (مع أن مقارنة واقع تركيا مقارنة بحال العالم العربي ترجح لصالح الأولى).

فمعادلة العلمانية والتدين في تركيا ليست واضحة بشكل نهائي، كما أن الرئيس أردوغان ومع كل خطواته، يوجب علينا الخشية عليه من ذاته وإمكانية أن تكون قوته وشعبيته مصدراً لانفراده بالسلطة، كما أن مآرب تركيا، بصفتها دولة قومية لها احتياجاتها الخاصة، يوجب علينا أن نكون واعين لحدود هذا الدور ومصلحته ومفسدته على مجمل شعوبنا وأمتنا. وهذا إضافة للحاجة لتفريقنا بين الخطوات العملية "والخطوات الشعبوية" التي يمكن أن تقوم بها تركيا، والبون بين التصريحات والأفعال، مع إدراك أن تركيا وقيادتها خاضعتين للظروف الإقليمية وتوازنات القوة ومصالح تركيا القومية وأولوياتها، كما يمكن أنه ليس هناك جدية قوية لتنفيذ بعض ما يُقال.

أخيراً، في ظل الواقع العربي والإسلامي المترهل، ومع دور تركيا ودعمها لتحرر الشعوب العربية واحتضانها للمشردين واللاجئين منهم، ونصرتها لعدد من قضايا الأمة، ومع دور تركيا المتصالح بشكل تصاعدي مع الهوية الإسلامية، وخذلان الأنظمة العربية لبلدانها وشعوبها، فيبدو من الطبيعي أن تكون هذه النظرة الإيجابية لتركيا، ولكن يجب أن تكون مضبوطة وسقف الآمال منطقياً!

التعليقات (0)