ليس من المبالغة، في سياقات الحديث عن أثر العمل
الخيري في المجتمعات، القول بأن أقلّها تصدرُه لعملية البناء المجتمعي كعمادة
وركيزة لهذا البناء، ويكمن ذلك في أدائه لأدوار مجتمعية عدة، ترتكز في طبيعتها على
أساسين يشكلان مفهومه القيمي: معنوي ومادي.
في الجانب المعنوي، يرسم قطاع العمل الخيري مسارات
للمجتمع القويم، من خلال إعداد أفراده الإعداد السليم عبر تنمية إحساس المسؤولية
فيهم، وتوجيه الطاقات نحو عمل الخير، والابتعاد عن أي نهج انحرافي، ومن ثم خلق
أجيال قادرة على القيام بعبء بناء المجتمع، والمضي في عملية تطويره والنهوض به.
وفي الجانب المادي، لا يخفى على أحد إسهامات القطاع
الخيري الفاعلة في الحد من مشكلة الفقر، عبر مد يد العون لكل محتاج، وتحركه في هذا
الإطار من خلال منحيين: الأول إغاثي، والثاني تنموي.
ففي الإغاثي تبدو بشكل جلي مسارعة العمل الخيري
لإنقاذ الجوعى من الهلاك، وإيواء المشردين، وتوفير أساسيات الحياة للفئات المحتاجة
كالأسر الفقيرة والمرضى والأيتام، وغيرهم.
وفي المنحى التنموي، يضطلع العمل الخيري بوظائف عدة،
من ضمنها تشييد المدارس والجامعات، وتوفير فرص التعليم المناسبة للفقراء، ما يجعله
شريكا فاعلا في عملية النهوض بالتعليم وتطويره في أي مجتمع كان. تضاف إلى ذلك
جهود العمل الخيري العظيمة في تشغيل العاطلين عن العمل، والخريجين من الشباب، عبر
خلق فرص العمل بوسائل مختلفة، كدعم المشاريع الصغيرة، ودعم عملية التوسع في تطوير
القطاعات الحيوية للاقتصاد، كالقطاع الصحي، إضافة للقطاعات الإنتاجية، كالصناعة،
فضلا عن القطاعات الخدمية.
والحديث عن الأدوار التي يؤديها العمل الخيري وعمق
أثره في بناء المجتمعات، ووضعها على طريق التطور والارتقاء، لا يصح تناولها بعجالة،
فالعمل الخيري كجزء من منظمات المجتمع المدني، يدخل في تفصيلات الحياة اليومية
للأفراد والمجتمعات من جهة، إضافة لتلبيته فرائض دينية وأخلاقية من جهة أخرى، عبر
إسهامه في إنتاج مفاهيم التضامن والتعاون، وصولا للنهوض بالمجتمع نحو الأفضل.
ومن المهم في هذا الصدد التطرق إلى أهمية وجود
منظمات المجتمع المدني في الحياة العامة، بحسب ما تشير إليه مؤسسات دولية متخصصة،
حيث تعد ذات أهمية قصوى لأداء دورها في النهوض بمهمة التعبير عن شرائح أصيلة في
المجتمع، تلبي اهتماماتها واحتياجاتها وتطلعاتها، وتستند في ذلك إلى اعتبارات عدة،
منها الثقافي والسياسي والعلمي والديني والخيري، بينما يجري تصنيفها وفقا للأهداف
وطبيعة العمل الذي تنشأ من أجله.
وفي أوضاع النشوء والتطور الطبيعي لمؤسسات المجتمع
المدني، فإنها بالضرورة تكون جزءا من نسيج المجتمع، تعبر عنه أو عن أطياف وفئات
منه. ومن هنا تأتي أهمية الأدوار التي تؤديها هذه المؤسسات، خاصة أنها تقوم على
أسس تلبية حاجات المجتمع الضرورية، وليست لأغراض شكلية أو تكميلية، أو من باب
الرفاه الاجتماعي، كما تعتقد بعض الطبقات السياسية.
وتتميز مؤسسات المجتمع المدني بمرونتها وقدرتها
الكبيرة على التكيف مع المتغيرات والمستجدات السياسية والاقتصادية والاجتماعية،
ومن المهم التأكيد هنا جانب الاستقلالية في عملها، بحيث يكفل لها القانون عدم
وقوعها تحت ضغوط من جهة ما، من شأنها أن تعرقل أداءها ومسيرتها، أو تحيد به عن
أغراضه المنصوص عليها قانونيا، وفي ذلك ما يُكسبها نوعا من الحصانة تجاه ما ينتج
عن تغول جهات ما متنفذة، أو أطراف أو شخصيات أو مؤسسات تتحدى روح القانون.
وفي ذلك ما يعزز صلة مؤسسات المجتمع المدني
بالقانون، من ناحية تعزيزه وترسيخه، وليس التعدي عليه، وهو ما تؤكده أدبيات الأمم
المتحدة ومواثيقها في أهمية تشجيع الحكومات للجماعات التي تنتمي للمؤسسات غير
الحكومية، ومنظمات المجتمع المدني، في مكافحة الفساد، من خلال إشراكها في هذه
العملية الشاملة التي تعمل على تعزيز قيم النزاهة والشفافية، حيث بإمكان هذه
المؤسسات المساهمة، توعية المجتمع بمخاطر الفساد وآثاره، واعتمادها برامج وخطط عمل
تسير عليها، وتعمل على تعزيز منهجية النزاهة والشفافية في أداء هياكلها الإدارية
والفنية.
ما ذكرناه سالفا، ربما يلقي بعضا من الضوء على
أهمية مؤسسات المجتمع المدني، ومنها العاملة في القطاع الخيري، في إنجاز المشروع
التنموي لأي مجتمع ديمقراطي، بل تعدها مواثيق الأمم المتحدة أهم محركات التنمية
في المجتمع، وطبيعة العلاقة التي تربط القطاعات الثلاثة، المحكومة بنصوص قانونية
تنظم هذه العلاقة، لحماية ما تحققه هذه القطاعات من منجزات تنموية، وللحيلولة دون
طغيان أي من القطاعات بعضها على بعض.
ليس لقطاع فاعل كمنظمات المجتمع المدني، ومن ضمنها
مؤسسات العمل الخيري، أن تشكل حالة قاصرة أو عبئا على مجتمعها، بل على العكس
تماما، فهي تقف إلى جانب بقية القطاعات في الصفوف الأولى كشريك في صنع التنمية
المجتمعية، وتحسين مستوى معيشة الشعوب عن طريق قدرتها على الوصول للفئات الأكثر
احتياجا في جميع المجالات، ما يعزز قاعدة أن هذه المؤسسات هي من المجتمع وله،
ويدعو في الوقت ذاته إلى الحاجة لفتح المجال أمام تشجيع تأسيس المزيد من مؤسسات
المجتمع المدني، ومنها الخيرية، لا محاربتها أو إقصائها، أو تجريمها دون إخضاعها
لعدالة القانون، فغيابها مجتمعيا، تدفع ثمنه الفئات الفقيرة كافة، وذات الحاجة في
المجتمع.
الاستعراض السابق لبعض الحقائق عن جوهرية حاجة
المجتمعات لقطاع العمل الخيري، يحيلنا إلى التطرق لبعض المحاولات هنا وهناك، لجر
جهود العمل الإنساني برمزيتها القيمية، ورفعة مقامها الروحي إلى مربع التجاذب
السياسي الضيق.
وفي الضفة الغربية تحديدا، بات العمل الخيري الموجّه
للأسر الفقيرة يقف أمام حيرة محاولات استلاب روحانياته وأدواته، تحت عناوين
"حشرِه" في زاوية "التأدلج" الفصائلي، وتحقيق المكاسب السياسية
عبر بوابته.
حالة التنكر الصريح تبدو واضحة لأبسط مفاهيم العمل
الخيري والإنساني، التي تحمل أولى معانيه الرفض بكل تجلياته لاحتكار فضائله لأي
جهة كانت، فعمل الخير لا يستوعب حالة الضيق، كونه الأكثر رحابة بمبادئه التي لا
يحدها أفق، فهو المنجز الإنساني الذي يولد مع ولادة كل بشري.
تتجاوز حملة الاعتقالات الأخيرة لكوادر وطواقم عاملة
في مجال العمل الخيري في أثناء أدائهم لعملهم في توزيع المواد الإغاثية الأساسية على
أسر فقيرة في مدن وقرى الضفة، ومصادرة المساعدات، حدود التنافس الفصائلي، والمخاوف
من إمكانية استغلال العمل الخيري والاجتماعي لغاية الاستقطاب السياسي بين خصوم
سياسيين، إلى وجود صورة مشوهة في عقل الطبقة السياسية لطبيعة المجتمع المدني، ومدى
أهمية مؤسساته وفاعليتها.
وليس لتبريرات تنظيم العمل الخيري والإنساني أن تجد
طريقها للإقناع أمام أنماط التعامل التي تتخذ بوضوح شكلا "إقصائيا" مع
مؤسسات اجتماعية وخيرية بعينها في المجتمع، لكون المنتمين لها يتبنون فكرا سياسيا ما. فكيف لمجتمع يقوم على أسس ديمقراطية، ويحتكم لمؤسساته القانونية، أن
تسعى المؤسسة السياسية الحاكمة فيه لاصطباغ مؤسسات المجتمع المدني فيه بلونها
السياسي الواحد، وبنمط أداء معين يعبر عن أيديولوجيتها الحزبية، بينما تقوم فكرة
مؤسسات المجتمع المدني بما فيها الخيرية في الأساس على التنوع المهني والمعرفي، في
مجتمع ديمقراطي يؤمن بالتعددية الفكرية، بما يخدم عملية التنمية والبناء، في إطار
سلطة القانون؟
يبدو تعامل الأجهزة الأمنية في الضغة الغربية مع مؤسسات خيرية بشكل إقصائي أمرا مستغربا، يدفع إلى التساؤل عن سوية العلاقة التي تربط بين القطاعات الثلاثة بعضها مع بعض (الحكومي والخاص ومنظمات المجتمع المدني)، وفيما إذا كانت فكرة الأداء المتناغم بينها والمحكومة بتحديد المهام والصلاحيات من جانب القانون
مترسخة، أو أنها مُدرَكة، وذات تصور مكتمل لدى الطبقة الحاكمة.
فالقانون بمؤسساته المتجذرة في المجتمع الديمقراطي،
أتاح رسم مسارات وقنوات للتواصل بين القطاعات المجتمعية، حتى لا يطغى أحدها على
الآخر، في سلطته أو صلاحياته، كي تمضي عملية تنمية المجتمع بصورة صحية وسليمة، من
خلال تأسيس هيكلية تقوم على التكامل بين القطاعات الثلاثة، وليس التنافس فيما
بينها، حيث الأجدى هنا العمل على تحقيق مفاهيم التعاون، التي يأمرنا بها الخالق،
تبارك وتعالى، بقوله في الآية الكريمة: "وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ"، في وقت تزداد فيه الحاجات نتيجة
حرب الاحتلال متعددة الأوجه، والمستمرة ضد الشعب الفلسطيني من جهة،
و"حرب" مكافحة تفشي وباء كورونا، من جهة أخرى.