(1)
هشام عشماوي يطاردني لكي أكتب عنه، وكلما عزمت على النشر ينفجر حدث ليستولي على موضوع الكتابة، ويذهب المكتوب إلى أرشيف الحفظ. لكن الموضوع لا ينتهي، إذ يأتي حدث جديد فيعيد عشماوي إلى معركة الكلام والاهتمام.
في ملفاتي المحفوظة كتابات كثيرة عن حالة عشماوي: عن التحول، وعند القبض عليه وتسليمه لمصر، ومقارنة بينه وبين مبارك بعنوان "ضابطان"، ولغز إعدامه مرتين والذي يزيد الغموض في سيرته، ومع تجدد الحديث عنه بمناسبة عرض
مسلسل تلفزيوني يقدم نوعا من "الولاء والبراء العسكري" ويركز على المقارنة بين الضابط المارق (
هشام عشماوي) وبين ضابط الموالاة (
أحمد المنسي).
(2)
لن أكتب عن مفارقة "الاختيار" بين عشماوي والمنسي، لأنها (من وجهة نظري) أضعف مدخل للحديث عن الأفكار التي تربط بينهما، خاصة وأن رؤيتي للضابطين فيها الكثير من المشتركات والمشتبهات، برغم الاختلاف الظاهر في النظرة والتقدير. كما أن مساحة المقال لا تتحمل الكتابة الموسعة التي تشرح (من الشرح ومن التشريح معا) القصية بعواملها المتعددة، وخفاياها المتكتم عليها، وأساليبها المصطنعة، وأغراضها الفارقة. لذلك، سأبدأ بخارطة تناول، قد استكمل الكتابة فيها مرات أخرى، وقد يتصدى غيري للبحث عن المناطق المهجورة التي يتعمد الإعلام تسطيحها لصالح الاستقطاب السياسي الذي يشطر
مصر كلها إلى معسكرين، ثم يتوالى التشظي وصولا إلى مجتمع الفتات أو "دولة الأشلاء" كما وصفها "الشلو الكبير".
(3)
هل تذكرون اسم الرجل الذي
ألقى بنفسه في مسار المترو لينقذ ابنته من الموت؟
غالبا ما بقي في الذاكرة هو الموقف وليس الاسم، لذلك سأقفز إلى السؤال الثاني: هل هذا الرجل بطل أم شجاع؟
(4)
قبل أن تتعجبوا من صياغة السؤال وتحتاروا في "الاختيار" بين "بطل" و"شجاع"، أوضح لكم بعض المفاهيم، وأطرح عليكم وعليهم الكثير من الأسئلة:
البطولة مفهوم قديم، لكنه ليس ثابتا، بل يتغير (في شكله وموضوعه) بتغير العصور والمجتمعات، لكن المفاهيم الأساسية تبقى مستمرة في معظمها. ومن أهم هذه المفاهيم: إنكار الذات، والتضحية من أجل الغير، وعدم انتظار أجر، إلى جانب عوامل أخرى حددها المهتمون بدراسات البطولة في ثماني سمات رئيسية وأخرى فرعية. وهذا يعني أن لقب "البطل" لا يصح على أي موظف يقوم بواجبه، ولا يصح على أي أب ينقذ ابنه أو ابنته، إذ تكفي صفات أخرى للتحية، مثل "شجاع" أو "محب" أو "مضحي".
فالبطل حسب التعريفات التاريخية والعلمية هو من يأتي من خارج الواجب المنتظر والمفروض، لذلك لا تعلن معظم الدول حالة الحداد على "شهداء آلة القوة"، لأن إعلان الحداد على ضابط مقاتل يتعارض مع حقيقة تعامله مع فكرة القتل كوظيفه. فالدول تعلن الحداد على المدنيين، وعلى بعض الأفراد الذين قاموا بأداء مميز خارج الاختصاص وواجبات العمل الوظيفي. كما لا تنبغي المتاجرة بالبطولة وتقاضي الثمن، لذلك ارتبطت صورة البطل بمظهر القناع، كما في "زورو" وسوبر مان وإخوته الخوارق، و"رجل النقب" الذي فتح ثغرة في سور دمشق ليدخلها المسلمون الأوائل، ورفض أن يكشف عن اسمه، مفضلا أن يكون أجره على الله وليس جائزة من قائده ابن مسلمة.
وتبقى ملاحظة أخيرة تتعلق بأن البطولة "فعل مصنوع"، لأن هناك قوة تسعى للاستفادة من قصص البطولة ونشرها بغرض إقناع أعداد أكبر بالحصول على المجد والشهرة إذا سلكوا طريق "البطل". ولذلك، فإن قصة البطل الواقعي في معظم الأحوال تكون مختلفة في كثير من التفاصيل والتوجهات والعبرة عن قصة البطل المصنوع، الذي تقدمه السيرة أو المسرحية أو الحكاية الشعبية أو الفيلم أو القصة الإعلامية. فلا الظاهر بيبرس المحكي في السيرة هو بيبرس الواقعي، ولا صلاح الدين الأيوبي، ولا عنترة بن شداد، ولا أدهم الشرقاوي، ولا أحمد المنسي، ولا..
ولنواصل المحددات قبل التفكير في ردود..
(5)
هل تتذكرون إبراهيم حمدي، بطل فيلم "في بيتنا رجل"؟
ذلك البطل الفني ليس حسين توفيق، كما كان في الواقع التاريخي والسياسي والإنساني، إذ لا يوجد أي شبه بين الشخصيتين إلا في حادثة الاغتيال، فلا تشابه في المنابع ولا تشابه في المسيرة ولا تشابه في المصير، لكن المرحلة اقتضت ظهور "بطل وطني" يواجه "خونة الوطن" الذين يتعاملون مع الاحتلال، بينما يمكن أن ينقلب المفهوم والسلوك تماما في عصر تحول فيه "مجند الأمن المركزي الجاهل أحمد سبع الليل" إلى ضابط متعلم وحاصل على دورات دولية، فيقتل أيضا باسم مواجهة "أعداء الوطن".
الفقرة الأخيرة لا تخص الضابط المنسي، لكنها فقرة عامة في المفاهيم التي يفرزها كل عصر ويسعى لتقديمها من خلال "ثوب البطولة". وحتى لا أستغرق في شروح وتفصيلات سأحاول تكثيف الأسئلة ونقاط التفكير، قبل أن ينتهي المقال دون تفكيك قدر كبير من هذه الإشكالية المعقدة.
(6)
كل دولة لديها ما يسمى بالبطل القومي، وبصرف النظر عن الخلاف الشخصي أو السياسي مع ذلك البطل فإنه يصلح كمقياس لفهم الثوابت الوطنية في هذه الدولة، سواء كان البطل سلميا مثل غاندي في الهند، أو محاربا مثل مصطفى كمال في تركيا ونابليون في فرنسا، أو أسطوريا مثل الملك آرثر في إنجلترا، أو "كومبو" سياسي قانوني عسكري مثل لينكون (أو لينكولن) في أمريكا.. إلخ.
والسؤال هنا: من هو "البطل القومي" الذي يمكن القياس عليه في مصر؟
إنه ليس عمرو بن العاص فاتح مصر وبوابة إدخالها للإسلام، وليس جوهر الصقلي مؤسس أول دولة مصرية مستقلة تماما منذ سقوط الفراعنة، وليس صلاح الدين الأيوبي، القائد الانقلابي بامتياز (مع الاعتراف بتقديره التاريخي في النفوس)، وليس قطز ولا بيبرس ولا الشيخ الشرقاوي ولا الشيخ السادات ولا عمر مكرم ولا محمد علي منشئ الدولة المصرية الحديثة، ولا جمال عبد الناصر قائد النظام الجمهوري (فالانقلاب على سيرته تم من فريقه ومن خصومه معا، فلم يحصل على مكانة أتاتورك برغم الخلاف حوله)، ولا سعد الشاذلي صانع نصر أكتوبر العظيم، ولا محمد مرسي (أول رئيس مدني منتخب) ولا السيسي (أول رئيس دكر) ولا أحمد المنسي ولا حتى رامز جلال..
من هو إذا البطل القومي لمصر أيها المصريون؟
(7)
قل عبد المنعم رياض وأنت مطمئن، لأن الوضع الرسمي اعتبر استشهاده يوما لكل شهداء مصر، ولأن التقدير الشعبي لم يخالف التقدير الرسمي، ولأنه القائد الأبرز في النظام الجمهوري الذي تحتفظ ميادين مصر بتمثال له، حسب التقليد الفرعوني القديم. فإذا كان رياض هو "البطل القومي" نظراً لاستشهاده في ميدان المعركة، أفلا ينبغي أن نتذكر هوية العدو الذي قتل بطلنا القومي؟ وبالتالي يمكن وضع محدد لمفهوم البطولة يستند إلى أن البطل هو من يخوض الحرب ضد ذلك العدو فينتصر عليه أو يموت على الطريق ذاته.
هذا المدخل الوطني (الرسمي) يفرض على الدولة وعلى جيشها أن يضبط مصطلح الشهيد، بحيث يكون على طريق عبد المنعم رياض، وإلا فإن رياض كان يخوض حربا خاطئة ينبغي تصحيح مسارها، واختيار معايير أخرى للبطولة وللشهادة، ويوما آخر للاحتفال بالشهداء الذين ضحوا دفاعا عن القضية التي حارب من أجلها "أبو الشهداء" وبطلنا القومي المعاصر.
(8)
أشير سريعا إلى فكرة اختزال البطولة في "أيقونة"، ولا أعترض على ذلك؛ لأن معظم دول العالم لديها تقدير كبير للأبطال المنسيين يختزلونه في مصطلح "الجندي المجهول"، الذي يتضمن تكريم كل مقاتل بالتساوي ودون تمييز يؤدي إلى مشكلات عسكرية واجتماعية، مثل التمييز في كمية الغنائم وعدد السبايا.
لذلك، فإن "الاختزال الرمزي" للأبطال المنسيين مقبول ومفهوم وعادل، لكن "الاختزال الواقعي" وتسمية "البطل الخارق" على حساب تضحيات وشجاعة مقاتلين آخرين، لا شك سيؤدي إلى مشكلات وأزمات وتمرد وفساد؛ ربما كانت تحولات عشماوي ناتجة عنها أو عن أزمات قريبة منها، لأن التمييز الواقعي يعني مكافآت وامتيازات وأمجاد تذهب لفرد لم يفعل أكثر مما فعله غيره من المقاتلين، لأنهم جميعا كانوا يؤدون واجبهم بحكم الوظيفة وليس على سبيل التطوع. ومن هنا تأتي القصص الجانبية لمقاتلي كمين "مربع البرث"، بحيث لا يمكن احتساب البطولة للرئيس (قائد الكتيبة) حسب التقاليد الوظيفية التي تختزل كل الشعب في شخص الرئيس.
وأنا على سبيل الاهتمام أحتفظ بقصة الضابط محمد صلاح كما سجلتها مجموعة التأريخ العسكري النشيطة (المجموعة 73 مؤرخين). فالضابط صلاح آخر من استشهد، وأبرز من قدم معلومات ساعدت في صد الهجوم، لأنه الضابط المسؤول عن إحداثيات المدفعية، كما أنه صاحب طلب قصف إحداثيات الكمين وهو موجود فيه، حتى لا يسقط في يد المقتحمين. ومن هذه المعلومات يبدو محمد صلاح في نظري وفي نظر زيمباردو، مؤسس "علم البطولة" الحديث، هو الأقرب لمفهوم البطل، لأنه تجاوز حدود عمله المعلوماتي إلى تحفيز قادته على دك الموقع والاستشهاد طوعا من أجل هدف أسمى، على حساب فرصته في النجاة بحياته.
(9)
سأعود للكتابة عن كثير من النقاط تفصيلا، لأن المعلومات مهمة في فهم القضية التي طمست البروباجندا معالمها، ومن النقاط التي سأعود إليها:
أثر التسجيل الصوتي الأخير للضابط أحمد المنسي في إحراج التقصير المؤسسي وتأخر الدعم، وغياب المعلومات والمراقبة التي أدت لوصول المهاجمين وتصرفهم على مدى 90 دقيقة بكل حرية، وكذلك خطأ التمركز بدون تأمين، ثم رفض فكرة الانسحاب تاركا جثث جنوده أو المصابين منهم، وهي شجاعة واحترافية محمودة، لكنها تضع المسؤولين في محل مساءلة، لذلك يمكن تغطية كل الأخطاء بالأسلوب الاحتفالي، ليستمر مشهد نزف دماء المدافعين عن الوطن، وكلما اقتضى الأمر يتم الاحتفاء بواحد لمحو غضب الآلاف، عبر تقديم وعد بأنهم جميعا سيلقون "مجد الواحد المختار"، وهو ما لا يحدث في الواقع.
ومما سأعود إليه أيضا في مقالات لاحقة إذا شاء الله:
قضية الاختيار وثنائية عشماوي والمنسي، والأسس التربوية والتدريبية التي تقوم عليها حياة الأفراد في معسكرات الجيش، باعتبارها نموذجا لمجتمع مغلق له تقاليده وقواعده، وبالتالي فإن أي حديث عن ملتزم أو متمرد، يجب أن يأخذ في اعتباره قضية البيئة التي ينشأ فيها الاثنان، لأن ملاحظة وجود متمردين سياسيين أو عسكريين داخل مؤسسة منضبطة إلى حد التعنت مثل المؤسسة العسكرية، تطرح الكثير من الأسئلة المسكوت عنها، فالمؤسسة أحد أبرز مصانع التطرف السياسي والعسكري. ويكفي أن نتذكر جماعة الفنية العسكري، كما نتذكر أن الرئيس المغتال في النظام الجمهوري المصري تم اغتياله من داخل المؤسسة وليس من خارجها، وبالتالي فإن سؤال البيئة كاشف ومهم.
كذلك سأعود لفكرة فائض العنف الذي تنتجه مثل هذه المؤسسات، وطريقة تنظيمه وتوجيهه، بحيث لا يرتد على المجتمع أو المؤسسة بالخطر، وهي الظاهرة التي تعرضت لها أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى، وتعرضت لها أمريكا تحت عنوان "العائدون من فيتنام"، والتي انعكست في زيادة معدلات الجريمة ونوعيتها. وفي مصر كانت حالة "العائدون من أفغانستان" سببا في اغتيال السادات نفسه، ثم في دخول المجتمع في دوامة العنف بلا علاج صحيح، وبالتالي لا بد من تفكيك الكثير من المفاهيم لنستوعب جوهر الأزمة التي يشعلها النظام الكيدي بإعلام تعبوي استقطابي مسطح وجاهل.
(سؤال للتفكير في إجابة)
إذا كانت السلطة في مصر حارسة للوطن وحريصة عليه لدرجة الفداء بالروح وتحبيذ الاستشهاد من أجله، فلماذا لا يقوم الرئيس بالتشجيع العملي لهذا الاتجاه في سياسة الدولة نفسها بدلا من هدر أموال كثيرة في مسلسل تلفزيوني، وهي أموال نحتاجها ويحتاجها الرئيس المحب للمال؟
والاقتراح البسيط أن يتسق الرئيس مع نفسه ولا يخشى الموت، ويبدي استعداده للشهادة إذا اقتضى الأمر، فيخفف من ميزانية الحراسة والتأمين التي تكلف الدولة تسعة ملايين جنيه يوميا في المتوسط، إذ تزيد التكاليف في حالة الحركة الزائدة والزيارات الميدانية وانتشار عدد المقرات التي يتحرك بينها الرئيس وعائلته.
ولمن لا يعرف فإن الإشارة الرسمية الوحيدة للنفقات الفاتورية لحراسة الرئيس كانت تتكلف يوميا قرابة ثلاثة ملايين جنيه، وهي الإشارة التي وردت في تقرير فرعي واستثنائي للجهاز المركزي للمحاسبات، من غير أن تتضمن النفقات الثابتة للحرس الجمهوري، وقوات الصاعقة والداخلية التي يتم استخدامها في تأمين الرئيس. ولا شك في أن خطوة تفكيك الحرس الجمهوري ودمجه في الجيش ستوفر زخما كبيرا للحرب ضد الإرهاب، لوجود آلاف الكفاءات المدربة تدريبا عاليا، ومع ذلك لا يتم الاستفادة من خبراتها في هذه الحرب التي يضعها النظام على رأس اهتماماته وأولوياته.
نأمل أن نجد الوقت والعقل لنواصل التفكير والتفكيك النافع للإصلاح، فالخير لمن أصلح أو دعا للإصلاح. وكل عام وأنتم بخير.
[email protected]