ما زالت أزمة
كورونا مستمرة بتبعاتها الصحية والاقتصادية، ولا شك أن هذه الأزمة كشفت عورات الكثير من دول العالم، وهشاشة نظامها الصحي، وورقية اقتصادها القومي، وبروز بعض النظريات غير الأخلاقية التي جددتها النيوبرالية المتوحشة التي قدمت الإنتاج على الإنسان، وجعلت الصحة خدمة تباع وتشترى بفعل قوى السوق، فانحرفت بوصلتها من كونها صناعة تخدم البشر إلى تجارة بصحتهم وحياتهم.
ولن يكون الخروج من الأزمة كما كان الدخول فيها، فالعالم مقبل على تغيير لا محالة، ولكنه لن يكون تغييرا جذريا بقدر ما هو تغيير تدريجي، لا تختفي معه العولمة بل تظل موجودة في ظل كون العالم قرية صغيرة، ولكنها ستكون عولمة لا تعرف القطب الواحد، بل سيفرز العالم تكتلات تفرض واقعا جديدا في بضع سنوات.
والمهم هو مكانة العالم العربي والإسلامي في هذا التشكيل الجديد، الذي لن يكون لهم قدم فيه إلا بالتكتل والتعاون والتكامل وترك التآمر على بعضهم البعض، ومداراة عورة الاعتماد على استيراد الغذاء والدواء والسلاح بالاعتماد على النفس لتلبية الحاجات.
وإذا لم يتحقق ذلك في المدى القريب المنظور وهو الواقع العقلاني المألوف، فلا أقل من الاستفادة من أزمة كورونا، فما من أزمة إلا ويولد من رحمها فرص، لاسيما والعالم أجمع في ظل انحباسة عرف بقيمة القدرة الإلهية، التي آثارها محسوسة رغم أن رؤيتها غير محسوسة، من خلال هذا الفيروس المخفي الذي فعل بالناس الأفاعيل. ومن ثم فهذه فرصة عظمى للتعريف بالإسلام ومنهجه لاسيما
الاقتصادي الذي هو رحمة ليس للمسلمين وحدهم بل للعالمين جميعا.
لقد كشفت هذه الأزمة عن أهمية دور الدولة في الاقتصاد، وأنها لا يصح أن تكون حارسة فقط، بل دورها راعية بنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "الإمام راع ومسؤول عن رعيته". وهي كراعية تتضمن الحراسة ولا تحول بين القطاع الخاص باعتباره قاطرة التنمية. وترتبط العلاقة بينهما توسعا وانكماشا وفق الحركة الاقتصادية للقطاع الخاص في المجتمع، فالحكومة يجب أن تغيب حيث يجب أن لا توجد، ويجب أن توجد حيث يجب ألا تغيب. فهي لا تزاحم القطاع الخاص بل تفتح المجال أمامه وترشده وتراقب سلوكه بما يحقق المصلحة الشخصية والمصلحة العامة معا، وليس بصورة وردية كما أسست
الرأسمالية فكرة اليد الخفية باعتبار المصلحة العامة تحقق المصلحة الخاصة تلقائيا، فقوى السوق تصحح نفسها بنفسها، وهذا الأمر ثبت خطؤه، والأزمة الحالية وما قبلها كشفت أن هذه اليد يد مشلولة ولولا تدخل الدول لإنقاذ ما يمكن إنقاذه لضاع اقتصادها وأصبح نسيا منسيا.
وتبدو العودة لدور الحكومة مهمة لا سيما في ظل النيوبرالية وجشعها التي حجمت دور الدولة لصالح تجار الصحة والتعليم، وجعلت تلك الخدمات غير القابلة للمساومة تخضع لقوى السوق، وهو ما كشف عورة النظام الصحي وعجزه في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها. ومن ثم فالفرصة متاحة لتدخل الدولة لإخراج هذا القطاع من منظومة قوى السوق، ليغلب الجانب الاجتماعي وتكون صحة الإنسان مقدمة على المال، والتشجيع على الاستثمار في هذه القطاعات، سواء من الدولة أو القطاع الخاص بصورة تعزز الأبعاد الاجتماعية، لا التجارة النفعية، لا سيما وأنه بات من المهم التخطيط للتعامل مع هذا الفيروس مستقبلا. فمن المرجح اكتشاف علاج لفيروس كورونا، ومن ثم انخفاض معدل الوفيات، ولكنه لن يختفي بعد اليوم من حياة البشر.
كما أن من فرص هذه الأزمة التوجه بقوة نحو البحث العلمي والتكنولوجيا، وآن للعالم أن يخفض ميزانيات التسليح وقتل الناس بعضهم بعضا. والدول العربية في حاجة ماسة إلى تقديم هذا الجانب على شراء الأسلحة التي صدأت في المخازن، أو تم استخدامها في التآمر ضد دول أخرى وقتل الشعوب العربية. كما أن الاقتصاد الرقمي يفرض نفسه بقوة، ومن فاته قطار ذلك فليلحق به وإلا سيجد نفسه منعزلا ولا مكان له.
كما أن من فرص الأزمة إبراز قيمة الأمن الغذائي، فالدول التي كانت تأكل من عمل يدها، لم تجد صعوبة في تلبية حاجتها، بعكس الدول التي تأكل من يد غيرها، فقد ظلت حبيسة لتوفير هذه الدول لمتطلباتها، وهما يبرز دور الدولة في التوجيه نحو زراعة السلع الاستراتيجية كالقمح، وتعزيز الثروة الحيوانية والسمكية، وإيلاء أهمية كبرى لذلك، لا سيما في ظل التوقعات بارتفاع المواد الغذائية حاليا ومستقبلا بفعل تبعات الأزمة، وزيادة معدلات الفقر والبطالة، فضلا عن تعرض الاقتصاديات لزيادة فاتورة الديون للأعباء غير المتوقعة بفعل الأزمة.
وما أعظم المنهج الاقتصادي الإسلامي الذي جعل غاية الاقتصاد في كلمات قليلة في سورة قريش: "أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف". فما أحوج دولنا العربية إلى الاهتمام بالقطاع الزراعي وتنويع هيكل نشاطها الاقتصادي، والخروج من نفق الريعية، لا سيما أن أسعار النفط واهتزازاتها للانخفاض مستمرة والقطاعات الريعية الأخرى أصابها الشلل بفعل الأزمة.
ويبقي بعد ذلك من فرص الأزمة التذكير بأن هذا بلاء من الله، وأن الظلم إملاء، وأن يد البشر عاجزة ويد الله تعالى قادرة، وأن الأزمات في النظام الاقتصادي الإسلامي لا تقتصر على الأسباب المادية فقط، فهي مطلوبة. والحجر الصحي عرفه المسلمون على يد رسول الله صلي الله عليه وسلم قبل أن يعرفه الغرب، كما أن البحث عن علاج سنة نبوية، فما من داء إلا وله علاج إلا الموت. كما أن الأسباب المعنوية لا يمكن إغفالها وأهميتها للخروج من الأزمة. وليس غريبا ما نشهده في الغرب من تقطع السبل البشرية والدعوة للجوء إلى الله، حتى المآذن رفعت نداء (الله أكبر) في عقر داره. فما أحوجنا إلى الاستغفار والصلاة والصيام والصدقات، وإغاثة المحتاج، حتى يرفع الله عنا هذا البلاء، ونشر تلك القيم لغير المسلمين رحمة بالعالمين.
@drdawaba