منذ كانون الأول/ ديسمبر
2019 حتى اليوم، يشهد العالم لحظات فارقة في تاريخ البشرية، أكثر من مئة دولة
منشغلة بمداواة آلاف المصابين بوباء
كورونا، وتتخذ ما تستطيع من الإجراءات
الوقائية، وتسعى في الوقت نفسه لوقف نزيف التدهور الاقتصادي نتيجة الحجر الصحي،
ووقف شبه تام لحركة الطيران، والسياحة، والأعمال الداخلية. وبما أنَّنا نعيش في
عالم القرية الصغيرة، فقد سَهُلت متابعة أحداث جائحة كورونا بصورها المختلفة،
وتطوراتها المتزايدة.
مواقع التواصل الاجتماعي التي ساهمت في انتشار
ثورات الربيع العربي مطلع 2011، هي ذاتها التي تنقل الثورة الجديدة التي يعيشها
العالم في مطلع 2020، ثورة ضد الأسماء الزائفة، والقيادة الهشة، والأنظمة التي لم
تعد صالحة للحكم. فالدول كالأفراد لا تُعرف إلا في المواقف الصعبة، وبما أنَّ وباء
كورونا أثبت للجميع أنَّ العولمة المادية، والديمقراطية غير
الأخلاقية، لا تُجدي
نفعا لصون الإنسان والدفاع عن حقوقه، فقد أصبحت الحاجة ملحة للبحث عن نظام عالمي،
يخرج من رحم المعاناة، ويعزز من صحة الإنسان، وإنسانيته المهدورة.
في بداية أزمة كورونا، صُدم العالم بالصورة
التي أظهرت الناس في بعض الدول الغربية وهم يندفعون خوفا، ويتدافعون حرصا على شراء
أكبر قدر من المستلزمات الغذائية، ومواد التنظيف. وقد تساءل الكثيرون: معقول هذا
هو العالم المتحضر بالثقافة والفنون والتكنولوجيا؟ أين الإنسانية التي تدفع
أصحابها بالتضامن والتعاضد ومساعدة الآخر؟ ومع توالي الصور فقد صُدم الناس أكثر عندما
رأت سيدتين في حالة عراك بالأيدي والسباب، بسبب ورق الحمامات (التواليت) في مشهد
سينمائي، قد يكون شاهده بعضنا في أفلام سابقة، إلا أنه مؤذ للمشاعر، وجارح
للإنسانية.
وبينما الناس مندهشون بتلك الصورة ومترقبون
لما هو قادم، فإذا بإيطاليا الغارقة في أعداد إصابات كورونا تظهر بصورة الجريح
الكاشف لهشاشة حلفائه، وخداع أصدقائه، ويتساءل الناس من جديد: أين أمريكا من
مساعدة إيطاليا (عضو حلف الناتو)؟ أين الاتحاد الأوروبي مما يحدث في إيطاليا؟
لماذا لا تتكاتف الدول في مواجهة فيروس صغير؟ لماذا العالم وخصوصا الدول الكبرى مثل
أمريكا تنطق بلسان الحال: اللهم نفسي نفسي؟ ألا يدل ذلك على فقدان العالم لمنظومة
أخلاقية لا توجد إلا في الشعارات الرنانة؟ لماذا لا يوجد تعاون حقيقي في تبادل
المعلومات، والخبرات الطبية لخلاص الإنسانية من هذه الجائحة؟
ثم تنتقل العدسة نحو سلوك الدول في صورة
قراصنة البحر، التي لا تتوانى من الانقضاض على حقوق الآخرين بدافع الأنانية،
والمصلحة الذاتية. فقد تعرضت إيطاليا لعملية سرقة من جارتها التشيك بحسب وسائل
إعلام إيطالية، والتي أعلنت استيلاء سلطات براغ على الآلاف من الكمامات الطبية
كانت مرسلة من الصين إلى إيطاليا، في حين أكدت التشيك أنها صادرت الأقنعة في إطار
عملية ضد مهربين.
وقد أعلن موقع شبيغل أون لاين عن اختفاء ستة
ملايين كمامة طبية للحماية من عدوى كورونا في أحد مطارات كينيا، كانت في طريقها
إلى ألمانيا. وفي مشهد آخر، أعلن وزير التجارة في تونس في تصريحات إعلامية محلية
عن عملية سرقة في عرض البحر تعرضت لها باخرة شحن محملة بمادة الكحول الطبي كانت
متوجهة إلى تونس من الصين، وتم تحويل وجهتها إلى إيطاليا.
هذه الأنانية التي تعكسها الدول في سلوكها،
والاضطراب النفسي الذي رأيناه في سلوك الأفراد في بعض الدول، هو نتاج نظام سياسي
وثقافي تجذر في نفوس الناس وطريقة عيشهم، نظام طغى فيه الجانب المادي على الجانب
الروحي، وفي ظل كورونا يبحث الناس عن الأمان النفسي، والطمأنينة الروحية، وهذا لا
يتحقق إلا من خلال منظومة عالمية صادقة مع الذات الإنسانية، ومتصالحة مع فطرتها
البشرية، ومنسجمة مع متطلباتها الروحية والمادية معا.
وقد أكد المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، في
حواره مع موقع "تروث آوت" الأمريكي بقوله: إنَّ الوباء كان متوقعا قبل
ظهور جائحة كورونا بوقت طويل، لكن الإجراءات الاستباقية لهذه الأزمة منعتها
الضرورات القاسية لنظام اقتصادي لا يهمه وقوع كارثة مستقبلية؛ لأنَّ ذلك غير مربح
اقتصاديا. وبيّن تشومسكي أنَّ العلماء حذروا من الجائحة منذ وباء سارس 2003، وكان
الوقت متاحا لأخذ الاحتياطات اللازمة. وأخيرا يُجمل تشومسكي قوله بأنَّ نقص أجهزة
التنفس الاصطناعي يكشف قسوة
الرأسمالية، وفشل أمريكا.
لقد أثبت وباء كورونا أنَّ العالم اليوم بدون
قيادة حقيقية، والقيادة التي نقصد ليست بما تملك من قوة عسكرية أو أدوات مادية
فقط، بل بما تمتلكه من القدرة على ملء الفراغ الروحي، وسبر الجانب الفكري، وتعزيز
القيم الأخلاقية. لذلك على أصحاب هذه المبادئ أن يُبادروا في بناء تحالف عالمي
يقوم على التعاون بين المؤسسات البرلمانية، والفكرية والثقافية، والطبية لخلق عالم
متوازن في جوانبه المختلفة، والتخلص من الفوضى التي صنعتها المادة المقيتة.