أثار تدخل النائب عن ائتلاف الكرامة من جهة صفاقس محمد العفاس، داخل البرلمان
التونسي، قضية
التكفير ودور الدين (أو الأحكام الشرعية تحديدا) في بناء المشترك المواطني أو في نسفه. وفي ظل غياب المحكمة الدستورية وانعدام أي مشروع وطني جامع، وبحكم سيطرة "الحداثيين" بمختلف عائلاتهم الأيديولوجية على المشهد الإعلامي التونسي، فإن التفاعل مع النائب البرلماني كاد ينحصر في قضية مفردة هي خطر التكفير على السلم الاجتماعي. فأغلب الردود تجنبت توسيع منظوراتها لتشمل الخطاب الاستئصالي، وكل الخطابات الدوغمائية المؤدلجة التي لا تقل عنفا ماديا ورمزيا عن عنف الخطاب التكفيري. كما غاب عن السجال الإعلامي العمومي والخاص، التطرق إلى الدور اللاوظيفي للقوى المحسوبة على البورقيبية؛ في ضرب الانتقال الديمقراطي وترذيل المشهد السياسي وتغذية نوازع العنف بين الأهالي.
وسنحاول في هذا المقال أن نركز على القضايا اللامفكر فيها في تلك السجالات الإعلامية انطلاقا من السؤال التالي: هل يختلف التكفير الديني في بنيته الدوغمائية وخطره على النسيج المجتمعي؛ عن التكفير الحداثي أو المعلمن، ذلك "التكفير" الذي يجد صورته النموذجية في الخطاب الاسئصالي الرافض لوجود
الإسلاميين في الحقل السياسي، بل في الفضاء المجتمعي كله، والداعي إلى "الحل النهائي" ضد شركائه في الوطن والمصير، والذي تمثلة التجمعية نسبا والبورقيبية ادعاء؛ عبير موسى؟
جاء في مداخلة محمد العفاس التي أثارت لغطا كبيرا وتوظيفات حزبية وأيديولوجية واسعة ما يلي: "أريد أن أقول للشعب التونسي؛ إننا لا نخجل من التكفير كحكم شرعي"، ثم أعقب ذلك بقراءة سورة"الكافرون"ّ. ونحن لن نطرح في هذا الموضع مسألة "الأحكام الشرعية" وعلاقتها بالتراث الفقهي المنظم للاجتماع في المجتمعات ما قبل المواطنية، ودورها اللاوظيفي في بناء الأسس الفلسفية للاجتماع الحديث، كما لن نطرح قضية العلاقة التنابذية بين "الحداثيين" وكل ما يتصل بالإسلام من عقائد وتشريعات وقيم ورموز وتاريخ، ولكننا سننطلق من الفصل السادس من الدستور الذي كان مرجعا لكل الردود المناهضة لتدخل محمد العفاس.
في الفصل السادس من الدستور التونسي، يقول المشرع التونسي: "الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، حامية للمقدسات، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي. يُجرَّم التكفير والتحريض على العنف". ورغم أن صاحب المقال ليس من المختصين في القانون الدستوري، فإن من حقه باعتباره مواطنا تونسيا يحكمه ذلك الدستور أن يطرح التساؤلات التالية:
- إذا كان من واجب الدولة فعلا أن تكفل حرية المعتقد والضمير.. إلخ، فإن ما انبثق من هذه المقدمة من وظائف للدولة يبقى محل إشكال وتنازع، خاصة إذا ما ولينا وجوهنا شطر تجارب علمانية مختلفة عن النموذج اللائكي الفرنسي، الذي تحولت فيه
العلمانية إلى دين ينافس الأديان التقليدية وظائفها. فبأي حق تنصّب الدولة نفسها راعية للدين؟ وكيف يمكن أن نضمن حيادية الدولة أو دور المجتمع المدني في هذه المسألة؟ وعن أي دين يتحدث الدستور؟ هل المقصود هو الدين الإسلامي؟ (إن كان ما يعنيه المشرع هو رعاية كل الأديان، فلماذا لم يستعمل الدستور تعبير" راعية للأديان"؟). وإذا ما سلّمنا جدلا بأن المعني بالدين هو الدين الإسلامي، فما هو المذهب الذي على الدولة رعايته؟ وما هي القراءة التي عليها تبنيها من داخل المذهب وبأي حق؟ وهل الدولة راعية لـ"دين السلطة" أم لتدين الشعب؟ أم لكل التمثلات الدينية مهما اختلفت أو خرجت عن التراث الجمعي السني (المالكي الأشعري)؟
- ما معنى حياد المساجد الوارد كمبدأ دستوري، وهي في الواقع غير محايدة لأنها مطالبة بنشر مفهوم الدولة للدين؟ أي هي مطالبة بنشر مفهوم معين للدين تقف وراءه تشكيلات حزبية وتيارات فكرية، تعتبر أنفسها الأقدر على إعطاء المعنى الصحيح للدين، حتى إن عارض التراث الفقهي أو التدين العفوي للناس. وبأي حق تحتكر الدولة المساجد وكيف يمكن ضمان ذلك الحياد وفعاليته في إنتاج المعنى الديني المقبول اجتماعيا على أوسع نطاق، أي خارج احتياجات النخب المعلمنة وبعيدا عن نظرتها "الاستشراقية" والتغريبية لأشكال التدين؟
- لقد جرّم الدستور التونسي (عن حق) التكفير والتحريض على العنف، ولكنّ الملاحظ في تعاطي النخب "الحداثية" مع هاتين المسألتين هو تضخيم تلك النخب لقضية التكفير وتهميشها لقضية التحريض على العنف. فأغلب النخب "الحداثية" تعتبر التكفير خطرا على السلم الأهلي وعلى الحريات الفردية والعامة وعلى الانتقال الديمقراطي ذاته، ولكنها لا ترى في خطابات التحريض على العنف الموجه ضد "الإسلاميين" خطرا مماثلا، بل يبلغ الحال ببعض النخب أن تدافع عن الخطابات الاستئصالية (التي أسميتها في مقال سابق بـ"التكفير المعلمن")؛ باعتبارها ضربا من حرية التعبير المكفولة في الدستور. فالنخب "الحداثية" غير معنية بطرح الإشكالات واجتراح الحلول؛ بقدر ما هي مشغولة بالدفاع عن كل ما يضادد الإسلاميين، ولو جاء من مواقع تلفظ فاشية كتلك التي نجدها عند رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسى.
لا يمكن لأي متابع للشأن التونسي أن ينكر وجود خطر تكفيري حقيقي، ولكنّ حصر المخاطر التي تتهدد الانتقال الديمقراطي في التكفير الديني (ذي المرجعية الوهابية أساسا)، دون سائر الخطابات العنيفة والدوغمائية المنتمية زورا وبهتانا للمرجعية الحداثية، هو سلوك ذهني يعكس انفصاما فكريا وازدواجية في المعايير، هما أبعد ما يكون عن "التنوير" وعن وظيفة المثقف، باعتباره منحازا للحقيقة (معرفيا) ولمن هم أسفل (اجتماعيا).
فخطابات عبير موسى التي تجسّد الوجه الأقبح والأقذر لمعنى "الحداثة"، ما هي في الحقيقة إلا "تكفير معلمن". فهي تكفير لا يختلف عن التكفير الديني في شيء إلا من جهة المرجعية، أما من جهة المفاعيل الكارثية على السلم الأهلي وعلى الانتقال الديمقراطي، فإنه قد يكون أشد فتكا من التكفير الديني. كما أن خطابات عبير موسى وأشياعها من مدعي الحداثة والبورقيبية، ما هي إلا تحريض صريح على العنف. فالعنف الرمزي الذي تحمله تلك الخطابات في "نظام التسمية" (إخوانجية، إرهابيين، ظلاميين، لا وطنيين، غير تونسيين.. إلخ)، هو مدخل ملكي لشرعنة العنف المادي، كما أنه يُمثل (في معارضة صريحة لمبادئ الدستور) غطاء سياسيا لممارسة التمييز بين المواطنين في الوظائف المدنية والأمنية والعسكرية، على أساس معتقداتهم وأفكارهم وخياراتهم الدينية.
إذا كان وراء كلمة كافر تراث كامل من العنف، فإن وراء كلمة "خوانجي" تراث عنيف هو أقرب إلى آلاف التونسيين وأعظم من التراث التكفيري. فكم من تونسي مات (قبل الثورة وبعدها) نتيجة فتوى تكفير ديني، وكم مات منهم وتشرد نتيجة فتوى تكفير معلمن أصدرها "حرّاس النمط المجتمعي التونسي" في عهد المخلوع؟ ولماذا لا تعتبر النخب "الحداثية" خطاب عبير موسى تحريضا على العنف أو تمييزا على أساس المعتقد، أو ضربا للسلم الأهلي أو تكفيرا معلمنا، رغم أنها لا تعتبر "الإخوانجية" تونسيين ولا حتى بشرا يستحقون الحقوق التي تضمنها المواثيق الدولية، وتدعو إلى إحياء المقاربة الاستئصالية دون تورية؟ وما الفرق بين خطاب ذي مآلات تكفيرية وخطاب ذي مآلات استئصالية من حيث الانتماء إلى الأيديولوجيات الدوغمائية المتعارضة بالجوهر والقصد مع الجمهورية الثانية؟
إنها أسئلة نعلم يقينا أنها ستبقى دون أجوبة على الأقل في المستوى المنظور؛ فـ"النخب الوظيفية" لا يعنيها بناء المشترك المواطني، ولا يسرها إعادة التفاوض على ما يؤسس ذلك المشترك، ولذلك فإنها ستبقى (في أغلبها الأعم) مشغولة بالقضايا الثقافوية التي تضرب الانتقال الديمقراطي، وتزيد من ترذيل المشهد السياسي ومن كفر المواطنين بالثورة.