هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
(1)
لا أحب النبوءات الغيبية ولا أعترف إلا بالقراءة من ورقة الواقع، لكن هل نجيد القراءة؟، وإذا قرأنا هل نجيد الفهم؟، وإذا فهمنا هل نجيد العمل بما فهمنا والاستفادة مما نعمل به؟
الحالة في بيزنطة متشابكة ومعقدة لدرجة العبث، فالواقع المرئي الذي نعيشه ونشكو منه يفصح عن الغد الهزلي، لكننا نذهب إلى مأساة الاقتتال الذاتي شاهرين انقسامنا حول الملائكة هل هم ذكور أم إناث؟ أصبحنا كائنات أولية تعيش على الانقسام مثل الأميبا، لذلك تعثرت عن الكتابة، فأنا أعاني من "قفلة كتابة" غبية، أتساءل أحيانا عن الجدوى من الكلمات، وأتساءل كثيرا عن القاريء أين ذهب؟، وأتساءل أكثر عن الكتاب لماذا هجروا اللغة إلى الكلام؟، ولماذا هجروا المعنى العميق إلى التعبير الذائع؟، ولماذا يرددون كلام الناس بدلا من أن يفتحوا أمامهم دروبا جديدة ومساحات غير ما يدوسونها بأرجلهم وألسنتهم؟
(2)
كنا نشكو من أزمة الدوران في الفراغ التي دخلتها حضارتنا الراكدة منذ قرون، فإذا بعقل النخبة العربية يخضع للعدمية ويجاري الجمهور في لعبة استهلاك الزمن، والتزلج على سطح العالم، والدوران في الكلام، لا أرغب في أن يكون كلامي فارغاً، ولا أحب أن أبتذل الكلمة كوسيلة للتعيش أو ترضية خادعة لمحابيس السجن العربي الكبير، لكن المشكلة أن التمرد صار مهلكة، والحراك صار مصيدة، والبحث عن الجديد صار مقامرة غير مضمونة النتائج في بلاد البلادة، صارت الثورة مدعاة خوف من الآتي، ونذير زوال لما تبقى للأيتام من طعام وإيواء في خيام الدولة، لذلك صار الخنوع أضمن، وصار التمسك بما نحن عليه من ذل وهوان أأمن، وصار الرضا بالحسنة و"كرتونة المؤسسة" أسلم من أحلام تفتح علينا بوابات اللعنة، أو كرامة تأخذنا إلى سجن العقرب.
لم أعد أصدق شيئاً أو أحداً فى مصر (ولا برة مصر)، النسبية ابتلعت الحقيقة حتى تحول كل شىء إلى مسخرة،
لم أعد أصدق شيئاً أو أحداً فى مصر (ولا برة مصر)، النسبية ابتلعت الحقيقة حتى تحول كل شىء إلى مسخرة، لكن "أم المساخر" أن هذه الأيام السوداء التى نعيشها ستصبح فى المستقبل القريب (الأكثر سواداً طبعاً) من أيام الماضى الجميلة.
هذه المقولة الموجعة ليست لى، لكنها لصاحب "سالومي" و"صورة دوريان جراى".. أوسكار وايلد الذى تداخلت فى حياته وإبداعاته المأساة مع الملهاة، والجدية مع السخرية، والرصانة مع المجون.. هذه المقولة صارت دستوراً مصرياً يتجلى فى صياغات وسياسات ونكات مختلفة، ولعلكم تذكرون محمد صبحى فى مسرحية "ماما أمريكا" وهو يقلد الأخ الكبير، مطالباً بشد الحزام على البطون، فى هذه الأيام السوداء، "لأن اللى جاى أسود وأسود" ـ حسب تعبيره.
فإذا كان "هذا عيشنا" رغماً عن ونيس "المومياء"، فلماذا نحلم إذن بالغد، ولماذا نهرول نحو الأسوأ؟!
التوصيف مخيف، والسؤال مستفز، وربما "قليل الذوق"، لكننى مصر عليه، لأننى بدأت حياتى مسحوراً بكلمة "التقدم"، ومجنداً فى جيش المستقبل، وحالماً بما لم يأت.
كان كل موجود يهون أمام الأمل فى المنشود، فى الجديد والمقبل والآتى.. إلى آخر هذه الكوكبة من المفردات الساحرة، التى غنيناها مع ناظم حكمت "أجمل الـ(...) تلك التى لم نعرفها بعد".. هذه الـ"بعد" صارت كابوسية، تصوروا أننى أصبحت أخاف من رنة التليفون أو جرس الباب فى الليل، ولا أحب أن يقول لى أحد "عايزك في موضوع" ولا يفصح عنه فوراً، كما أصبحت أكره المفاجآت مهما كانت.. أفق الانتظار متخم بالجوارح القاتلة، وسماوات التوقع لا تحمل خيراً، لذا انتصر الماضى، وأصبح "الثبات" هو كل المراد من رب العباد، أما ما نراه من تغيرات ومظاهر تجديد، فهى ليست أكثر من "تقلب فى الفراش" وتعبير غريزى عن الملل، موضات وصرعات ونزوات، مثل "هرشة" لحوحة لا نفهم لها سبباً، وإن كان لابد أن "نهرشها" لنستريح.
ها أنا أرى الرويبضة يسعى لحكم العامة، وها أنا أتنحى عن مرض "المقاوحة"، والنضال الذى أورثنى الهمّ، وأشعر بفضل الرئيس مبارك علي وعلى أمثالي، فقد أصبحت أعيش في "بلهنية"،
تخيلوا أننى كنت أنتقد سمير رجب وأكتب فيه الهجائيات، ثم أصبحت أراه هذه الأيام خير سلف بالنسبة للخلف، وهكذا إبراهيم سعدة، وحسن الإمام، وتوفيق عبدالحى، والريان، وسياسات وأحداث رأيناها عاراً وعواراً، وفجأة صرنا نترحم عليها، لقد انحدرنا حتى طمع فينا "الرويبضة" فى هذه "السنين الخداعات"، التى حذرنا منها الرسول الكريم قائلاً: "سيخون فيها الأمين ويؤتمن فيها الخائن، ويكذب فيها الصادق، ويصدق فيها الكاذب، وينطق فيها الرويبضة.. قالوا وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتكلم فى أمر العامة".
المهزلة أن هؤلاء كثروا وتكاثروا، حتى خلقوا أجيالاً من "اللكعين" المنصرفين عن همِّ البلاد والعباد إلى التغنى بـ"جمال مصر"، و"اللكع" ليس اختراعاً جديداً، لكنه ورد منذ القدم فى حديث شريف يقول: "لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع".
وها أنا أرى الرويبضة يسعى لحكم العامة، وها أنا أتنحى عن مرض "المقاوحة"، والنضال الذى أورثنى الهمّ، وأشعر بفضل الرئيس مبارك علي وعلى أمثالي، فقد أصبحت أعيش في "بلهنية"، غير عابئ بتحرير الأرض، أو عرق الزرع والحصد، فالمعونة موجودة، وراعى السلام "شايف شغله"، والحياة ألذ، كليبز، وجيمز، ومنتجعاتز، ومولاتز، و..!
لكن هذا لن يدوم فمصر مرشحة للأسوأ القادم، لذا أتمنى من الله أن يديم على نعمة الخنوع، وسعادة «اللكاعة» التى أعيشها، فلو كان عبدالناصر حياً مثلاً، كان زمانى أحارب الصهاينة فى غزة أو جنوب لبنان، أو لابس «أفرول عامل» فىّ حاجة زى السد العالى، لكننى فى عصر الرئيس مبارك، مقضيها «بلهنية فى بلهنية»، وبناء عليه أدعو له: «الله يخليك لينا يا ريس.. فعهدك علمنا أن السلف خير من الخلف».. ويا أيها «اللكعين» تمتعوا بالسيئ فإن الأسوأ مقبل.
[email protected]