(1)
أحب أن أكون هادئاً في فرحي صاخباً في حزني.
لا أتذكر بدقة قائل هذه العبارة المحفورة التي فشلت في نسيانها برغم نسيان قائلها، وأرجح (حسب ذاكرتي المشوشة هذه الأيام) أن القائل هو "تيتريف"، بطل "البرجوازي الصغير" لمكسيم جوركي. لكنني على كل حال لست مثل تيتريف، فأنا أحب أن أكون هادئا في الحالين. وما الغضب إلا ضرورة سخيفة وغير مرحب بها، فرضتها ضرورة أسخف وغير مرحب بها أكثر، هي ضرورة صعودك إلى السلطة أيها الرئيس، خلافاً للعهد المعلن وانتقاما من الأمل الذي ابتلعته الأكاذيب والاحتيالات للمسدس في مواجهة هتاف الثورة.
(2)
أنا اليوم حزين، وهذا مجرد خبر عادي، فالحزن صار رغيف الخبز لمعظم
المصريين، ليس المعارضين فقط، ولكن من يرقصون في حفلاتك السياسية والانتخابية والإعلامية.. أيضا ابتهاجا أو استئجاراً أو نكاية، وأظن أن حزني لا يزيد عن حزن إعلامية "النهار" المكلومة في مقتل نجلها الوحيد بطلقة مسدس عبثية.
هل علمت بالحادث يا سيادة الرئيس المرهف؟
هل بكيت وأدمعت عيناك كما فعلت أمام الكاميرات وأنت تسمع ماساة الفتاة اليزيدية؟
هل تتابع أخبار وطرق موت وانتحار المصريين؟
لا تتخيل أنني أريد أن أضع على كاهلك مسؤولية موت الناس، يكفي أن أسألك عن حياتهم.. كيف عاشوا؟ وماذا حدث ليذهب الناس إلى حتفهم في عهدك بهذه الأساليب العبيثية؟
(3)
تعالى أولا نعيد رواية الحادث باختصار:
صبي من عائلة برجوازية يخرج في إجازته المدرسية ليسهر مع زملاء وأصدقاء الدراسة والنادي، يلعبون "بلاي ستيشن" في بيت أحدهم.. الأهل منصرفون على أعمالهم واهتماماتهم، ويبدو أن الأولاد لم يعودوا من بين هذه الأعمال والاهتمامات، فقد أصبحوا مثل الحيوانات الأليفة والسيارات الفارهة، محاطون بالرعاية والاهتمام ككائنات للاقتناء، لكن مجالها التربوي والذهني متروك للصدفة. يجد الصبي ابن صاحب المنزل الوثير مسدسا في خزانة والده، يسحبه ويشهره في وجه الأصدقاء للمزاح المختلط بالحصول على نشوة الفوبيا والرعب في العيون.
لعلك تعرف جيدا يا سيادة الرئيس نشوة أن تخيف الآخرين وترعبهم. إنها نشوة مسيطرة وتفتح أبواب النفس للشياطين وللتمادي، حيث تشعر أنك سلطة خوف قادرة على قهر الآخر، لذلك تصارع الأولاد للحصول على المسدس، كل واحد منهم يريد أن يكون السلطة التي تخيف غيره.. يريد إخضاع الآخرين، يريد أن يعرف ما بعد الخوف فيبدأ في المطاردة، وككل بداية في طريق خاطئ تقود المسارات إلى نهاية مأساوية، يضغط الصبي على زناد المسدس لسبب لا يفهمه، فيقتل صديقه:
جدع يا باشا.. جت في عينه بالظبط، بالتحديد فوق حاجبه الأيسر.
... ويبدأ الصخب، ويبدا الكذب، وتستمر المأساة.
(4)
في البدء لم يكن الولد الذي ضغط الزناد قاتلاً، ولم يكن القتيل إرهابيا، ولم تكن بينهما خصومة، ولم تكن هناك نية للمطاردة وللقتل قبل ظهور المسدس، المسدس وحده أخرج الشياطين من خلف شاشة البلاي ستيشن على الواقع.. المسدس وحده كشف عن غياب الدور التربوي للأسرة، المسدس وحده كشف عن فشل الثروة والشهرة في حماية الأولاد، المسدس وحده أشعل نيران المأساة في القلوب وفي الذاكرة وفي البيوت الغنية والبيوت الفقيرة على السواء. ولا فارق عندي بين من يموت تحت عجلات المترو أو في شقة فاخرة في حضن نيل الزمالك، أو طائرا بعزم من فوق برج القاهرة، فالسؤال الذي يشغلني في هدوئي هو:
لماذا صار الموت سهلا وحاضرا في حياة المصريين باختلاف طبقاتهم ومشاكلهم؟
(5)
كما قلت سلفا يا سيادة الرئيس، لا أقصد تحميلك مسؤولية الموت، فالموت أجل بيد الله وليس سواه، لكنني أقصد الدوافع، والأساليب، وفي المجتمعات المتحضرة (التي تحني فيها رأسك وتشبك يديك تأدباً وانصياعا) يبحثون مثل هذه الظواهر، صحيح أن لديهم جريمة وقتل وانتحار وأطفال يحملون المسدس ويقتلون زملاءهم في المدارس، لكن الجامعات ومراكز الدراسات تهتم بفهم الدوافع والظروف التي تضغط على المجتمع، وترفع دراساتهم إلى مؤسسات التشريع ودوائر صنع السياسات. وأنت تعرف (هذه توريطة طبعا) أن لدينا مركزا بحثيا عريق لدراسة كل شيء في المجتمع هو المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، ولدينا مركز أبحاث للجريمة في أكاديمية الشرطة، ولدينا عشرات الدراسات الأكاديمية في أقسام التربوي وعلم النفس والاجتماع في الجامعات المصرية، ولدينا أيضا مستشارك السيكوباتي الوسيم الدكتور أحمد عكاشة، فلماذا لم تسألهم عن هذه الظاهرة الانتحارية بأشكالها المتنوعة؟
لماذا لا تهتم بمعرفة أسباب السهولة التي تدفع المصريين هذه الأيام للقفز من القطارات وإلقاء أنفسهم تحت العجلات أو في أعماق النيل، أو ابتلاع السموم أو إطلاق الرصاص على أنفسهم وعلى الآخرين؟
لماذا لا تسألهم عن المسدس؟
(6)
أستعيد المشهد معك بأسلوب أدبي لن يروقك:
حفل موسيقي بهيج، فجأة يقف أحدهم ويشهر مسدساً في الهواء، ويطلق طلقة..
فعل همجي ومنفر ومفسد للمشهد، لكن المثقف الفرنسي الكبير المعروف باسم "ستاندال" يقول إنه "ضرورة" تجذب الانتباه وتكسر سريان الحدث، إذا كنا نرغب في فض الحفل ودعوة الناس إلى إخلاء المكان لخطورة ما، أو لسرقته.
هذا ظهر المسدس في حفل الثورة، ليوقف المشهد ويفض الجمع، وسواء كان القتل بالتعمد والترصد المسبق، أو رغبة في السيطرة والتخويف والمطاردة ثم الإعدام، فإن المأساة في كل الأحوال حلت محل السعادة، كما حل المسدس محل الأمل.
(7)
المشكلة يا سيادة الرئيس ليست في المسدس ما ظل محفوظا في خزانته، المشكلة في وجوده داخل الحفلة، في وجوده مع أطفال يرغبون في الانتصار على بعضهم البعض في "البلاي ستيشن"، ويتنافسون ويتفاخرون ويسعون لإظهار تفوقهم على بعضهم البعض. لكن كل هذه السلوكيات مقبولة ويمكن تصويبها وتحسينها، ما بقيت في حدود اللعبة، لكن وجود المسدس في المشهد لا بد وأن يأتي بالدم، ويجلب الماساة ويوغر الصدور ويقلب الصداقات إلى عداوات.
(8)
السيد الرئيس.. هذه ليست مأساة كريم، نجل الإعلامية التي تدعمك في فضائية تدعمك، فلم يرحمها المسدس، ولم يخل قلبها من موت عبثي لثمرة حياتها الأجمل، فمثلها الملايين، مثلها مثل مصر كلها عندما ظهر المسدس فتحول من أداة تأمين في محفوظة في خزانة إلى أداة قتل وإفساد للمشهد.
(9)
لا تلهو بالمسدس في زحام حياتنا يا سيادة الرئيس، ربما تخجل المآسي وتتوارى.
[email protected]