الزج باسم
روسيا في بيان صادر عن ممثلين لدوائر صناعة القرار الأمريكي (وزارة الخارجية، ووزارة الدفاع، ووزارة الداخلية، ومجلس الأمن القومي، والمخابرات) له دلالة واضحة، وهي التعبير عن القلق الأمريكي من التدخل الروسي في
ليبيا، وربما العزم على التشويش عليه وحتى تقويضه.
أسباب القلق الأمريكي من التدخل الروسي في ليبيا
صحيح أن ليبيا ليست من دوائر النفوذ والمصالح المباشرة للولايات المتحدة، فصادرات النفط الليبي إلى الولايات المتحدة تراجعت بشكل كبير خلال العقود الأربعة الماضية، وهي اليوم قريبة من الصفر. ولا تربط ليبيا بأي اتفاقيات مع الولايات المتحدة، وليست مستوردا مهما للبضائع أو السلاح الأمريكي، وتقتصر العلاقة على بعض الشركات الأمريكية العاملة في مجال التنقيب عن النفط واستخراجه، غير أنها لا تشكل إلا نسبة محدودة من عدد الشركات الأجنبية، بعد أن كانت يوما ما هي المسؤول الأول عن إدارة الخام الأسود في ليبيا. لكن هناك ثلاثة عوامل تعظّم من مكانة ليبيا في السياسة الخارجية الأمريكية، هي:
1) تشكل ليبيا إضافة مهمة لأي مشروع استراتيجي منافس للولايات المتحدة، سواء كان مشروعا صينيا أو روسيا.
2) أن مصالح الاتحاد الأوروبي، والعواصم الأوروبية المهمة، ترتبط بشكل كبير بليبيا. ومعلوم الحلف الأوروبي الأمريكي، والدعم والحماية اللذين تلتزم بهما أمريكا لتأمين المصالح الأوروبية.
3) نشاط التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها تنظيم الدولة، في ليبيا، حيث أن مكافحتها هدف حيوي ضمن أهداف السياسة الأمريكية الخارجية.
وبالنظر إلى التدافع الأمريكي الروسي الذي أخذ منحى مختلفا خلال الأعوام القليلة الماضية، تظهر أهمية ومكانة ليبيا، وذلك بتخوف واشطن من أن تصبح الأخيرة (بما تتمتع به من مقدرات اقتصادية وموقع استراتيجي) إحدى أدوات التوسع والفعل الروسي المنافس وربما المعادي للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين.
موسكو تتوسع وواشنطن تنسحب
التقرير الذي نشرته مجلة فورين بوليسي الشهيرة (Foreign Policy) بتاريخ 15 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، وجاء بعنوان: مستقبل النفط العراقي روسيا (The future of the Iraqi's oil is Russian)، يذكر كيف أن الشركات الروسية توسعت في عمليات استخراج ونقل النفط العراقي، وأنها أزاحت بعض الشركات الأمريكية، كشركة إكسون موبيل (Exxon Mobil) وشركة تشفرون (Chevron)، وكيف أن النفوذ الروسي في العراق، المتسلل عبر البوابة الإيرانية، مهد لحصول شركتي غاز بروم (Gazprom) وروزنفت (Ros Neft) الروسيتين على عقود تنقيب واستخراج وغيرهما برغم العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة عليهما وعلى كل من يتعاقد معهما، وفي ذلك إشارة إلى اضمحلال النفوذ الأمريكي في العراق.
ويختم التقرير الاستقصائي بالقول إن النفوذ الروسي على النفط العراقي والسوري ليس فقط صدمة اقتصادية طويلة الأمد للولايات المتحدة، بل وسياسية أيضا، وأن من يسيطر على النفط ستكون له اليد الطولى في الجغرافية السياسية للإقليم.
ووصف تقرير لموقع "سي إن بي سي" (CNBC) التدافع بين الولايات المتحدة والصين وروسيا بالزلزال الجيوسياسي، تعليقا على انسحاب واشنطن من أماكن حيوية في العالم وملء بكين وموسكو الفراغات.
أيضا نجحت روسيا في اللعب داخل الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، وهي دول أمريكية الجنوبية، فقد دخلت موسكو على خط النزاع الداخلي في فنزويلا، ونجحت في تثبيت الرئيس مادورو ضد زعيم المعارضة خوان غويدا المدعوم أمريكيا، وتعاقدات روسيا مع فنزويلا الغنية بالنفط، لتوريد طائرات ومدفعية وغيرها تحسبا لاجتياح كولومبي بدعم من واشنطن، بحجة التصدي للمعارضة الكولومبية المسلحة التي تتخذ من فنزويلا مقرا لها، ويبدو أن المناورة الروسية تؤتي أكلها.
احتمالات المواجهة ومقومات التصعيد
في ظل هذا التدافع الذي ترجح كفته لصالح روسيا يمكن فهم قلق دوائر صناعة القرار الأمريكية من توسع روسي إضافي في ليبيا، والذي ربما يكون من أهم نتائجه طرد الشركات الأمريكية النفطية وإحلال الشركات الروسية، في سيناريو مشابه لما يحدث في العراق.
النفوذ الأمريكي في العراق تراجع ليس لأن واشنطن عاجزة عن مقارعة موسكو اقتصاديا أو عسكريا، لكن ارتباك السياسة الخارجية الأمريكية مؤخرا، ثم النفوذ الإيراني الكبير في العراق، أسهما في نجاح خطة الاختراق الروسية لمنطقة نفوذ أمريكي بامتياز.
وبافتراض أن القلق الأمريكي حقيقي وينطلق من رؤية استراتيجية، وليس موقفا تكتيكيا من ترامب لتفادي ضغوط الديمقراطيين في الكونغرس، وأن قرارا قد اتخذ لفعل ما يلزم لتقويض المخطط الروسي في ليبيا، فإن مشهد المواجهة في ليبيا قد يكون مختلفا.
روسيا يمكن أن تستمر في دعم
حفتر عسكريا لأجل محدود وبقدر محسوب لا يمكن أن يصل إلى حجم تدخلها في سوريا، وذلك في حال دخلت واشطن على خط الحرب. ولا أتصور أن موسكو قادرة على حرب واسعة وطويلة الأمد، ذلك أنها لا تملك موضع قدم كبيرة في البلاد، ولا يتوفر لها حليف إقليمي ينفق المليارات ويقدم عشرات الألوف من المقاتلين، كما فعلت إيران تنفيذا للخطة الروسية في سوريا. فعندما تكون واشنطن جادة في مواجهة التوسع الروسي في ليبيا، فإنها ستمنع الإمارات والسعودية ومصر من تقديم التمويل والدعم اللوجستي لتنفيذ سيناريو مشابه لما وقع في سوريا. ومع دعم مباشر لحكومة الوفاق، وتعاظم الضغوط السياسية وحتى القانونية والجنائية على حفتر من قبل دوائر مهمة في واشنطن، فإن النتيجة المحتملة هي وقف القتال والجلوس على طاولة التفاوض.