هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لولا أن كلمة "يترنح" بات لها مدلول سيئ في النقاش السياسي حول مصر بسبب المقولة "المخدرة" التي كانت تؤكد أن "الانقلاب يترنح" منذ يوليو 2013، لكان الأصل أن يصبح عنوان المقال "الثورة المضادة تترنح"، لأن ما يحصل الآن في المنطقة يدل بدون شك، وبدون أي محاولات لبيع الوهم بأن تيارات ودول "الثورة المضادة" التي حاربت حق الشعوب العربية بالتغيير، تترنح الآن في أكثر من ساحة، وعلى أكثر من صعيد.
ربيع "الثورات المضادة"!
بدأت الثورة المضادة بتحقيق "انتصارات" واضحة في عام 2013، ابتداء من الانقلاب على الرئيس المصري المنتخب الراحل محمد مرسي، ثم حققت انتصارات مهمة في كافة الدول العربية التي شهدت انتفاضات شعبية، حولت فيها "الربيع العربي" إلى "ربيع" للأنظمة التقليدية في المنطقة بدلا من أن يكون ربيعا للشعوب. بعد انقلاب السيسي بأسابيع، أسقطت حكومة الترويكا المنتخبة في تونس، وبعدها بشهور تسيد الساحة السياسية فيها حزب وليد من بقايا التجمع الدستوري الذي كان يقوده بن علي، حيث انتصر حزب "نداء تونس" في الانتخابات البرلمانية والرئاسية في العام 2014 مؤذنا بتراجع القوى التي شاركت في النضال ضد نظام بن علي.
وفي اليمن أسقطت الشرعية التي أفرزتها ثورة عام 2011، وأعيد دور بقايا نظام على عبد الله صالح بالتحالف مع الحوثيين، وفي سوريا خسرت المعارضة مواقعها واحدا تلو الآخر، فيما سيطر اللواء المنشق خليفة حفتر على مساحة واسعة من جغرافيا وسياسة ليبيا مدعوما من نفس الدول التي ناصبت "الربيع العربي" العداء منذ بدايته.
تمكنت منظومة "الثورة المضادة"، إذن، من تحقيق كافة أهدافها تقريبا خلال السنتين اللتين أعقبتا انقلاب السيسي في مصر، وأصبحت "رؤيتها" تسيطر على كافة دول المنطقة التي شهدت ثورات شعبية، مستفيدة من نجاح الانقلاب في مصر، وتقهقر الثورة في سوريا، حتى ظنت هذه المنظومة أن بإمكانها تحقيق أي هدف تريده في المنطقة.
ولعل هذا يساعدنا في فهم الاتهامات لهذه المنظومة بالمشاركة في دعم محاولة الانقلاب العسكري على الرئيس أردوغان الذي لا يمثل صديقا جيدا لها، إذ إن انتصاراتها في معظم دول المنطقة جعلها على ما يبدو تعتقد أنها قادرة على تحقيق أهدافها حتى في دولة مستقرة وغير عربية مثل تركيا.
خريف "الثورات المضادة"
لم يبدأ خريف منظومة الثورات المضادة قريبا، بل هو مسار متدرج منذ سنوات، فقد فشلت هذه المنظومة باستكمال أهدافها التي كانت قد حققت "انتصارات" أولية فيها في أكثر من ساحة. في تونس لم تستطع الثورات المضادة فرض رؤيتها الاستئصالية الإقصائية على الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، الذي فضل مسار التحالف مع النهضة لتحقيق الاستقرار في بلاده على مسار الإقصاء الذي كانت ترغب به تلك المنظومة، ما جعلها تبحث عن حلفاء جدد يضعفون السبسي من داخل حزبه، وينافسونه على جمهوره، ولكنهم فشلوا في ذلك أيضا.
أما في ليبيا، فقد فشلت انقلابات "تلفزيونية" عدة أعلنها حفتر، "حليف" الثورات المضادة، كما فشلت حملته العسكرية الأخيرة التي حاول فيها الاستيلاء على العاصمة طرابلس فشلا ذريعا وحققت حكومة التوافق انتصارات عسكرية وسياسية مهمة بعد بدء الحملة.
وفي الأثناء، ظهر الحراك الشعبي الجديد في كل من الجزائر والسودان ليثبت أن الثورات الشعبية لم تنهزم كليا، وأن الصراع بين الشعوب الطامحة للحرية والكرامة ومنظومة الحكم القديمة المدعومة من "الثورة المضادة" لم ينته بعد. صحيح أن هذه المنظومة لا تزال تحاول تجيير نتائج الحراك في السودان والجزائر لصالحها، ولكن النخب "الشعبية" لا تزال تقاوم أيضا لتحقيق أهدافها المشروعة.
ثمة ضربة مؤلمة أخرى سياسيا وعسكرية لمنظومة الثورة المضادة، تتمثل بالموقف الأمريكي المتمنع عن تقديم دعم حقيقي لها بمواجهة إيران و"وكلائها" في المنطقة، ما أدى إلى انشغال دول هده المنظومة بحل أزماتها مع إيران في ظل امتناع ترامب عن تقديم دعم حقيقي عسكريا وسياسيا لها.
لا يعني هذا التغاضي عن سياسات إيران التوسعية في المنطقة، ولكن الحديث في إطار "التحليل السياسي" يقود لاعتبار ما يجري هو انتكاسة لهذه المنظومة، وهو في نفس الوقت ليس انتصارا لإيران التي تعاني من عزلة دولية وحصار مدمر لاقتصادها ورفاه شعبها.
في تونس أيضا، تمثل نتائج الانتخابات الرئاسية ضربة أخرى لمنظومة الثورة المضادة، وذلك بصعود مرشحين غير مفضلين لها للدورة الثانية، وخصوصا أن المرشح الأقوى حتى الآن هو قيس سعيد الذي يعتبر مستقلا تماما في توجهاته وطروحاته السياسية عن التأثيرات الإقليمية والدولية.
هذه الأحداث جميعها تثبت أن انتصار الثورات المضادة ليس قدرا، وأن هزيمتها ممكنة، وأن الثورات الشعبية لم تنته بعد، وأن المعركة لم تحسم بعد لصالح القوى التقليدية التي تحكم منذ تأسيس الدولة الوطنية الحديثة في المنطقة العربية.
مصر.. هل تكون الضربة القاضية؟
إذا كانت بداية صعود منظومة "الثورة المضادة" هي نجاح الانقلاب في مصر وإنهاء التحول الديمقراطي فيها، فإن "الضربة القاضية" لهذه المنظومة "المترنحة" لن تكون إلا باستعادة الثورة في مصر، واستئناف مسار التحول الديمقراطي التدريجي فيها. ولذلك فإن الأنظار كلها تتجه الآن إلى مصر، وإلى العودة المتدرجة للحراك الشعبي ضد نظام يمارس الإفقار والقمع ضد الشعب المصري منذ 3 يوليو 2013.
فهل تنجح هذه العودة بتوجيه ضربة قاضية للثورة المضادة؟ لا يمكن لأي محلل أو باحث أو سياسي أن يحدد إجابة واضحة على هذا التساؤل، ولكن الحراك الذي بدأ يوم 20 أيلول/ سبتمبر الجاري حقق هدفا رئيسيا وهو كسر حالة الخوف التي صنعها قمع النظام خلال ست سنوات، إضافة إلى أنه أعاد للشارع حيويته من جديد.
لم يحقق الحراك انتصارا واضحا في الجمعة الثانية من المظاهرات بسبب الحشد الأمني المشدد الذي حول مصر إلى ثكنة عسكرية، ولكن هذا الحشد لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، ومن الواضح أن مصر ستشهد الآن مرحلة من "عض الأصابع" بين الشعب وبين النظام وقبضته الأمنية، وما يقوله التاريخ أن الشعوب إذا أدركت قوتها وحقوقها، فإن القبضة الأمنية لا يمكن أن تنتصر للأبد!