جميل أن تجد بنغازي طريقا للبهجة، ومفرح أن تتجاوز المدينة سنوات الحرب وآثارها ويشعر أهلها بالانتعاش والتعافي.. يعلم الله أنني لا أجد غضاضة في بحث "البنغازيين" عن الفرح والراحة بعد الحزن والعناء، بل هو من دواعي سروري وسرور الليبيين بلا شك.
بهذه المقاربة ولهذا الحرص أجد لزاما عليَّ أن أنصح وقد لمست أن الطريق إلى البهجة خاطئ وأجل السرور قصير.
بين الشربيني وآخرين
لستُ متحفظا على الاهتمام بالمائدة والتطوير في سُفرة الطعام وتنسيق احتفالية يحضرها طباخون ماهرون، لكن هذه الأنشطة لا مكان لها في سلم الأولويات والحاجات الأساسية التي تفتقر إليها المدينة بعد معاناة مستمرة منذ خمس سنوات لم يتم إلى اليوم معالجة الكثير من آثارها المباشرة والظاهرة والتي لا تزال تنغص عيش شريحة كبيرة من سكان المدينة.
لينظر كل من احتج على تحفظ العقلاء للاهتمام الزائد بالطباخ المصري "الشربيني" والجهد الذي سُخر لاستقباله والاحتفاء به في ظل قائمة الأولويات التي يدرك ماهيتها العامي قبل الواعي والنشط، وليحكم بتجرد على ما نذهب إليه في هذه السانحة.
الواقع الصعب الذي تواجهه بنغازي يتطلب اهتماما خاصا بالمعماريين المبدعين، وتقديرا كبيرا للمهندسين الأفذاذ، وفرحا جما بالعلماء والمفكرين
وأقول: ألم يكن الأولى في هذه الظروف الصعبة توجيه هذه الروح العالية والاستعداد النفسي والذهني والمادي لبرامج تمس بشكل مباشر معاناة المدينة وتخدم شريحة من سكانها في مجال الإعمار والخدمات، ومجال الرعاية الاجتماعية ومجابهة آثار الحرب نفسيا، وتقديم الدعم لأسر الضحايا وللجرحى الذين يعانون معاناة مريرة.
أتصور أن الواقع الصعب الذي تواجهه بنغازي يتطلب اهتماما خاصا بالمعماريين المبدعين، وتقديرا كبيرا للمهندسين الأفذاذ، وفرحا جما بالعلماء والمفكرين في مجال الاجتماع والتربية والتوجيه المعنوي، وتكريما متميزا للأطباء خاصة في مجال الدعم النفسي، وإجلالا لنشطاء العمل الخيري والإغاثي وبرامج إعادة التأهيل.
خلل ترتيب الأولويات، والخلط بين الضروري والتكميلي، والتركيز على القشور في المراحل الصعبة يؤشر إلى ارتباك في التفكير وضياع بوصلة التخطيط الصحيح لتجاوز آثار الحرب التي ما يزال شبحها يلاحق المدينة وسكانها.
مثال حالة عدم التوازن
نزل ابن البلد الفائز بالترتيب الأول في مسابقة الملك عبدالعزيز لحفظ القران الكريم، عبدالسلام الزوي، بمطار بنينا، فلم يلق ترحيبا كالذي حظي به الشربيني، وبين الحدثين أياما معدودات، وهذا أمر يدعو إلى الأسى، ويثير التساؤلات التي أشرت إلى بعضها في هذا المقال.
إنجاز كبير حققه هذا المتباري في أكبر مسابقة للقرآن الكريم على مستوى العالم الإسلامي، وأمام المئات من المشاركين من دول بعضها تسخر مؤسسات وميزانيات ضخمة لدعم القرآن وعلومه، أفلا يستحق اهتماما وتركيزا كالذي أتحفنا به الطباخ المصري؟!
إعادة توجيه البوصلة
لو بحثت ودققت في أحياء وأزقة المدينة، ومدارسها وجامعاتها، ومختلف مؤسساتها لوجدت مبدعين وموهوبين في مجالات عدة ممن يستحقون الرفع على الأكتاف والدفع بهم إلى المنصات وتسليط الأضواء عليهم والكاميرات، ولكانت هذه الحفاوة عاملا من عوامل التطوير والنهوض الذي ننشده للمدينة.
وعندما نستفرغ الوسع في رعاية الإبداع والمبدعين في المجالات الأكثر إلحاحا بالنسبة لواقع المدينة وظروف سكانها، ويتحقق المرجو من مستوى العيش الكريم والتميز في مجالات العلوم والمعرفة الضرورية للدفع ببنغازي قفزات إلى الأمام، وبعد أن يأخذ العلماء والمفكرون والمبدعون في كافة التخصصات مكانتهم لن نعترض على الأنشطة التكميلية والتحسينية ما دامت لا تتعارض وقيم المجتمع وأعرافه.
ومن المهم أن أنوه أن موقفي هذا ينسحب على ضياع البوصلة في كل ما هو شبيه بزيارة الشربيني في كافة ربوع ليبيا والأمثلة كثيرة، وواقعة بنغازي مثال حي، كما أن للشجن أثره في توجيه دفة الاهتمام، و"الله غالب".