تحركت الآليات العسكرية والطائرات في الساعة الثامنة والنصف من ليل الخامس عشر من تموز/ يوليو، باتجاه العاصمة أنقرة والمدينة الأكبر في
تركيا، اسطنبول، لتحتل مؤسسات الدولة السيادية، كالبرلمان ورئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء وكذا المباني الحيوية، كمبنى التلفزيون الرسمي وبعض القنوات الخاصة، وتتمركز في مداخل المدن وجسوره المهمة، وعلى رأسها جسر البسفور، أو جسر "شهداء 15 تموز" الآن، في إعلان صريح لانقلاب عسكري لم تفهم لحظيا أسبابه.
ولما كانت الانقلابات في تكوينها هي انقلاب على الإرادة الشعبية، فقد استهدف الانقلابيون أول ما استهدفوا البرلمان التركي أو مجلس الأمة كما يطلق عليه الأتراك. استهدفوه بالطائرات في قصف أقل ما يوصف به أنه وحشي، وينم عن غل دفين في صدور عسكر الدكتاتورية. هذه الضربة كان لها مردود لا يقل في عظمته عن عظمة تاريخ هذا الشعب الذي تقلب بين انقلابات أربعة، وذاق طعم الذل تحت حكم العسكر، وعرف قيمة صوته وما يعنيه في اختيار من يحكمونه؛ وحرصهم على إرضائه والنهوض بحياته، وإفناء أعمارهم من أجل هذا الوطن، متبارين في ذلك لنيل رضا الشعب، على عكس العسكر الذين يحكمون الشعوب تحت فوهة البندقية، فيعيثون في الأرض الفساد بلا رقيب أو حسيب.
أول رد فعل كان من النواب أنفسهم؛ الذين حملوا أرواحهم على أكفهم حفاظا لا على مناصبهم، بل دفاعا عن آلاف الناخبين الذين وضعوا ثقتهم فيهم.
ففي هذه الليلة المصيرية، وضع النواب حياتهم على المحك للدفاع عن سيادة الأمة، وتساوى في ذلك الفداء نواب الحزب الحاكم والمعارضة، متخذين موقفا حازما ضد الانقلابيين. وعلى الرغم من سقوط شهداء ومصابين على أعتاب البرلمان، فإن ذلك لم يثنهم، بل إن قرار توجه النواب إلى البرلمان في تلك الليلة، شجع كل من يؤمن بالديمقراطية وسيادة بلاده لتتحرك للدفاع عن البرلمان وسيادة الشعب، فملأ الشعب ساحة البرلمان والشوارع المؤدية له دفاعا عن رمز سيادته وثمرة إرادته.
لم يختلف المشهد شعبيا كثيرا في
مصر؛ بعد إعلان قائد الانقلاب تعطيل الدستور وحل المجالس النيابية والقبض على رئيس الجمهورية؛ فقد خرج الشعب بالملايين رافضا هذه الخطوة الإجرامية للوثوب على إرادته، وظل هذا الشعب صامدا أمام الآلة العسكرية الانقلابية المجرمة، رغم إعمال القتل فيه لسنوات بعد بيان الانقلاب، وهو ما يؤكد وعي الشعب المصري، حتى ذلك الذي خُدع بحديث قائد الانقلاب؛ لحاجة في نفسه لم يمكّنه انقلابيو مصر منها.
لكن اللافت هو الفرق بين نواب تركيا وبعض نواب مصر، الذين قفزوا من سفينة
الديمقراطية الوليدة ليمكّنوا للانقلاب، في مشهد يعجب له المراقبون، رغم مرور ست سنوات على الحدث، فإن كان النواب المنقلبون يرغبون في خطة غلفتها الأنانية دون النظر للمصلحة العليا للبلاد، أن يسقطوا النظام الحاكم على أمل أن يسلمهم العسكر حكم مصر، فإن المتتبع لحال هؤلاء الآن يجدهم إما في السجون أو مهمشين أو أجبرو على اعتزال السياسة، ومن بقي منهم في المشهد يجبر على التصفيق لما لا يرضى عنه مرغما، وإلا سيلقى مصير من لم يسبح مع تيار الانقلاب.
الناظر لحال المعارضة المصرية بعد الانقلاب، التي ساهمت من خلال تحشيد أنصارها لدعم هذا الانقلاب الغاشم لرسم الصورة التي أرادها الانقلابيون للتغطية على فعلتهم الإجرامية، التي لا يقرها قانون أو شرع، يجد أنهم خسروا كل شيء؛ خسروا حلمهم في حكم البلاد، وخسروا شعبيتهم، وخسروا أنفسهم، وسيذكرهم التاريخ بما يستحقون، كمحللين لاغتصاب العسكر للسلطة. على النقيض، استطاعت المعارضة في تركيا، التي وقفت في وجه الانقلاب وانتصرت للديمقراطية، أن تحقق نجاحات خلال السنوات التي تلت الانقلاب، بعد أن قدمت من خلال الآليات الديمقراطية نجاحات يمكن أن تؤسس عليها ما بعدها؛ في تداول سلمي للسلطة لا يرفضه إلا العسكر.