دعاني صديقي الفنان التشكيلي السوري أبو الخير لزيارته في مكان إقامته في قريته الألمانيّة، على تخوم هولندا، وكنت أماطل، ثم كان أن تعطلت شبكة الإنترنت عندي، وقد صارت حاجة أساسية كالكلأ والماء والنار، فاتصلت به وأبلغته بنضج نيتي في ظلال الشوق، وتلوت قوله تعالى على لسان سحرة فرعون:
فحملت عدتي وعتادي، وهي جلابيّة وحاسوب محمول، وظعنت إليه بالقطار السريع. استقبلني في المحطة وأقلني بسيارته، وكان قد أوقد لي على الطين ناراً، وشوى لي حوتاً من صيد يده في بحيرة القرية، ودعاني لنزهة صيد في اليوم التالي على بنات الريح المعدنية، فوافقت. وكان يطلعني على صور لوحاته بواسطة الواتساب، وكنت أنوي اغتنام لوحة من لوحاته، عنوانها: "السوري يسند السماء"، وفيها صورة شامي يرتدي قنبازاً وبجانبه هرّة ودودة، ويرفع السماء كما يرفع الرومان القياصرة أرديتهم على أذرعتهم. كان أول ما انتبهت إليه عند وصولي، هو البيت الذي يقيم فيه، فهو في أقصى القرية، وعلى الباب صورة معدنية كبيرة لصاحبه اليهودي الكاتب، صورة مستطيلة بسعة سجادة صلاة، وكان البيت يُهيأ للتحويل إلى متحف، فدُهن على عجل من أجله، بعد أن علمتْ مصلحة الشؤون الاجتماعية أنّه فنان، فأكرمته بالبيت الأثري القديم متجاوزة القوانين. وعائلته غائبة، وكانت قد بصمت في السفارة الألمانية في تركيا، وسيلتم الشمل قريباً، وكان ذلك سبباً في تسهيل السكنى، لولا مرض أحد الأولاد وعددهم ستة، فتأخر لم الشمل المشتت.
قلت: البيت جميل وغريب المعمار، ويثير الكآبة، ويبعث على الوحشة، فضحك. وكان النازحون من شتى بقاع الأرض، من سوريا التي تدكُّ بالبراميل، ومن أفريقيا التي تدكُّ بالفقر قد هجموا على ألمانيا كالتتار، فعزّت البيوت، وغلت أجرتها وارتفع ثمنها، وعلا شأن حزب البديل الألماني الذي ضاق بنا وهو يرى وطنه مهدداً باحتلال ناعم.
أخذني في جولة في "المتحف"، وهو من ثلاثة طوابق؛ قبو، وكان إسطبلاً للخيول لا تزال فيه رائحة الروث وعرق الخيول، ثم صار مستودعاً وفيه أثاث قديم ودراجة وعربة ومدفأة وأمتعة أخرى تنام تحت لحاف التاريخ، وغرفتين وحمّام.. والطابق العلوي، وله سقف مطوي كطي الكتاب الواقف على ساقي مصراعيه، فيه مكتبة قديمة، وكتب عبرانيّة، ذكرتني بكتاب "شمس المعارف الكبرى" الذي قيل فيه: إن من يقرأ الكتاب سيفقد عقله لا محالة، وحاولت قراءته مرة فخشيت أن أفقد عقلي.. وسقيفة في الطابق الثاني؛ فيها غرفة يصعد إليه سلم أفعواني صغير ضيق حلزوني. البيت ليس له جيران. سمعت لغطاً وزمزمة، أول وصولي، وسألت أبو الخير عنها فضحك، وقال: هذا ما يتهيأ لك.
سهرنا الليل، ونحن نسخر من الفن الألماني، ونقارن الريف السوري بالريف الألماني، ونمدح جمال الألمانيات، وحسنهن المصقول كالحسام المهنّد، ونلطم الخدود، ونشقُّ الثياب، وكأننا خسرنا معركة ذي قار. البلد مليئة بالحوريات ولا يرسم فنّانوها سوى الخطوط والمربعات والمثلثات! لم يكن للبيت سوى نافذة واحدة، أغلقها أبو الخير من البرد، وضع ورقة بيضاء على الطاولة وقال: انظر إلى هذه الورقة.. غداً سأكتب لك فيها قصيدة بلغة الألوان.
سمعت هيمنة وزمزمة تدور من حولي مثل عاصفة صغيرة تقلُّ وتكثر وتموج وتنحسر، سألت عنها مرة ثانية، فتمنّى لي أحلاماً سعيدة، وكانت أم كلثوم تغني: مكّة وفيها جبال النور. استيقظت في صباح اليوم التالي، وكانت الشمس قد اخترقت وحشة البيت من نافذتها الوحيدة، وقبل تحيّة الصباح، قال لي: ألا تريد حكاية من ألف ليلة وليلة؟ انظر إلى الورقة.
كانت قد طارت بعيداً إلى ركن الغرفة، فاستغربت. نهض وأحضرها من ركن الغرفة، ما الذي أطاح بها؟ بدأت أتوجس خيفة، فالباب والنوافذ مغلقة. سألت مرة أخرى عن الورقة، فقال: على الفطور سأخبرك بقصتها.
أعددنا الفطور، وفطرنا في حديقة المنزل على أنغام كارم محمود: "على ورق الورد"، ثم تلته ليلى مراد تغني: "سنتين وأنا حايل فيك"، أخبرته أنني سمعت وقع خطوات بشرية فوق السقيفة، فقال: هذا حيوان الظربان، أو الراكون، تعرف أن وزنه حوالي عشرين كيلو، دبٌ صغير، وهو يقفز إلى السقف من الشجرة القريبة. سألته عن الدمدمة العجيبة التي سمعتها في الليل، كأنها حلقة ذكر صوفية، وشكوت له أحلاماً كثيرة مختلطة، غزت وسادتي، فقال ضاحكاً: بصراحة بيتي مسكون بالجنّ.
لقد نمت في بيت به عفاريت إذاً؟
قال: نعم..
قال: لكنها جنٌّ مسالمة، وليس منها سوى هذه الزمزمة الصوتية، وأقصى ما تقوى على فعله هو حمل تلك الورقة، وأحياناً أجدها تعبث بشحاطتي الخفيفة فلاب فلوب.
قلت: اتخذ كلبا يؤنسك، أو هرّة.
قال: ثمن الكلب الألماني أغلى من مهر عروس سورية تقبرني.
قلت: اتخذ ديكا يؤذن، ويزغرد عند رؤية بالملائكة.
قال: أخشى من الاتهام بالإرهاب، وهو يحتاج إلى موافقة حكومية، والديك يحتاج على الأقل أربع من حور دجاجات العين. لا تنسَ أنّ البيت معدّ أن يكون متحفا.
ذكر لي أنه اتصل بصديق سوري يعمل في قناة "DW" ويعُّد برامج تحقيقات، وروى له حكاية بيته المتحف، فأرسل له روابط برامج كثيرة حققها مع ألمان نزحوا من بيوت بسبب الجنٍّ والعفاريت، وأخبره بأن إدارة التلفزيون رأت التقشف في هذه البرامج حتى لا تثير هلع الشعب. البريطانيون يعانون من الأشباح أكثر من الألمان. كولن ويلسن كان يربط الأشباح بالرطوبة.. والبيوت البريطانية المهجورة بالآلاف.. وقد خلق الجن من مارج من نار.. لعل العفاريت في بلادنا أقل بسبب الجفاف، ولعل الله أكرم من أن يبتلينا بعفاريت الأنس وعفاريت الجان.
قلت: في أفريقيا أرى تحقيقات فيديوهات لعفاريت مع أنها بلاد جافة.
قال: هي محاولة للتفسير.
قلت وقد جفَّ ريقي: ألا تخاف؟
قال: خوف عادي، قهرت الخوف بالمعوذّات والذكر الحكيم، لا أخاف إلا عند الصعود لنشر الغسيل في الطبقة العلوية، ثم رأيت أن نشرها في الحديقة تحت الشمس أفضل، فعقدت مع الجان معاهدة حسن جوار، لها الطابق العلوي ولي الطابقين الأوسط والسفلي. كان الدوي يزداد بنشري الغسيل، وهي تحوم حولي حتى إنني كنت أخشى أن تتخطفني أو تهوي في واد سحيق. لقد عشت شهراً معها وحدي، ولم أجد أذى منها سوى هذا اللغط والعبث بتلك الورقة. قال خاتماً التجربة بضحكة ساخرة: لن تخيفني الجان وقد عشت نصف قرن مع عفاريت الأسد.
قلت بصراحة: أنا لا أخاف من العفاريت لكني أخاف من الظرابين.
قال: جدي وأبي كانا شجاعين لا يهابان الموت، لو مددت لهما الفرش في مقبرة لناما قريري العين كأنهما في حديقة، أما سبب جرأتي فلعله شهر قضيته في الاعتقال، مشبوحاً من معصمي، أسمع أنين النساء والأطفال واستغاثاتهم، معلّق مع عشرات آخرين، لا يدعني ألمي أنظر إلى وجوههم، تستطيع أن تقول: عندي مناعة من الجان، أنا أخاف من حزب البديل الألماني أكثر من خوفي من العفاريت.
أنهينا الفطور، واختلقت ذريعة للعودة، وطلبت لوحة "السوري ساند السماء"، فأعطاني لوحة أخرى، فقبلت، وحملت حقيبتي، ووضعت ذيل جلابيتي في فمي، وادّعيت أنّ زوجتي طلبتني من أجل توقيع ورقة.. انقطاع الإنترنت أرحم من العيش وسط العفاريت، عفواً مع الظربان.. ووليت الدبر. حاول أن يستبقيني ليلة أخرى، ويريني بعضاً من أطراف الحوار بالرموز والإشارات بينه وبين العفاريت. قلت: يا داخل في ألف ليلة وقشرتها ما ينوبك إلا عفاريتها.
ودعت صاحبي، وبقيت أسبوعا إلى أن برئت من الوساوس والأحلام السوداء، وانتظرت شهرا حتى جرؤت على الحديث هاتفيا معه خوفا من تسرب الجان عبر الأثير، وأهديت اللوحة إلى صديق ألماني خوفا من لعنتها. اتصلت به، وكانت أسرته قد لحقت به والتمَّ الشمل. ذكر لي أنَّ زوجته لاحظت أنّ البيت مسكون عند وصولها، وهي شجاعة، قلبها "جفت" بسبطانتين، وقد استطاعت أن تحرر البيت وتدحر الجان في أسبوع. كانت تتلو ورداً فيه سورة البقرة وأدعية مخصوصة بالجان، لكن الأولاد الذين كانوا ينامون في الطابق العلوي قريباً من الجان، ظلوا يشكون من الوحشة، قلت: الوحشة؟ قال: تعرضوا لقصف بالبراميل دمّر المدينة عن بكرة أبيها، أخذوا مثلي لقاحاً ضد الخوف، وهم يريدون جيراناً يكلمونهم ويتعلمون منهم اللغة الألمانية.
فاتخذ أبو الخير قرار النزوح الثالث.
ركب دراجته، وهو يقول: أي ذنب اقترفه السوري حتى يسلّط عليه ربّه شياطين الأنس والجان؟ رفع شكوى إلى مصلحة الشؤون الاجتماعية، فقطعت موعداً لكشف الدار، وفي يوم الميعاد أحرق أبو الخير قطعة إسفنجة، ونثرها في زوايا البيت، ولها رائحة قوية، وكان زعم في الشكوى أن رائحة حريق تعلو من المدخنة التي كدّست فيها أخشاب قديمة وتقوست عظامها من الجفوة، وهي خطرة على صحة الأطفال، فلن تقتنع اللجنة بالجنِّ والعفاريت، فحضرت لجنة مكونة من موظف وموظفة، شكَّ الموظف في خدعة وهو يشمُّ زوايا الدار مثل كلب بوليسي، وتواطأت الجان فسكتت وقت الزيارة، ربما تخشى من بأس الحكومة. فقال له أبو الخير جالساً وهو يهزّ قدمه اليسرى: احضر في الوقت الذي تريد وستشمّ الرائحة، فانكسر الموظف، ورفع توصية لإدارته بالبحث عن دار جديدة خوفاً على صحة الأطفال من سموم الرائحة.
سألته: والبيت الجديد؟
قال: شقة أصغر من البيت القديم، ولا أخفيك أني اشتقت إلى البيت القديم، كما كان الشاعر الجاهلي يشتاق إلى الديار، وأشعر بالذنب لأني جعلت مصلحة الشؤون الاجتماعية تغلق البيت بالشمع الأحمر، فكأنما ألقت الجنيّة في قمقم. أظنُّ أنه كان مسكوناً بجنيّة وأخواتها أو صاحباتها، وأحسب أنها كانت تغازلني بالورقة وتتودد إليّ بهمسات آخر الليل، وتصلح لي نعلي، وتمدُّ لي حبال الوصل، لكني لم أفهم الإشارات. وقد وقر في خلدي أنها كانت أسيرة، وتستجير بي، وربما أخرستها زوجتي بالآيات القرآنية، وما زلت أحرص على المرور بجانب ديار الجنيّة، وأقف على الأطلال مثل شاعر جاهلي، وأبكي ديار الحبيب.