قضايا وآراء

الثـورة على جناح النساء

فاطمة رؤوف
1300x600
1300x600
لعبت ظروف الحرب والأزمات الاقتصادية والسياسية دورا محوريا؛ في قذف المرأة في ساحة الثورات. وعندما أعلنت وثيقة حقوق الإنسان في الثورة الفرنسية، طالبت النسويَة "أولامبده غوج" بإضافة مواد تحمي حقوق المرأة، فقامت الثورة بإعدامها. وفي مصر وبعد الثورة، لم يراع النظام "العسكري" حقوق حماية المرأة التي كفلتها كافة الدساتير والقوانين، وعمد أيضا إلى انتهاكها، ليسجل صفحات سوداء في تاريخ العسكرية ضد حرائر مصر، بعد استنزافهن لمصالحه الخاصة.

حلم العشـاق

تمركزت ثورة يناير الخالدة في ميادين مصر المختلفة لمدة 18 يوما، للمطالبة برحيل النظام والتخلي عن السلطة؛ التي كان على رأسها "حسني مبارك" لنحو ثلاثين عاما. وعلى الرغم من الوعي بهذه الفكرة وجدانيا من جموع الشعب المصري، إلا أن عدم تبعية الثورة لتنظيم وقيادة لم تنتهج هذه الفكرة بخطوات سياسية عملية؛ بأن إزاحة رأس النظام لا تكفي، فلم يحم نقاء وطهارة الثورة الالتفاف حولها.

تحولت حركة الاحتجاج (حلم العشاق) إلى ثورة بحرفية وتفان ووضوح لم تشهده الثورات عبر التاريخ (إلا في تونس)، بفضل توحد فئات الشعب وإقدام الشباب، لكن كان جهاز الدولة ومؤسساته (النظام) بأكمله ضدها، ووقف الجيش يترقب عن كثب منتظرا نتائج المشهد، بل كان يحاول الدفع بالمشهد في كافة الاتجاهات.

يا الميدان

شعرت المرأة المصرية للمرة الأولى بأن لها الحق في التعبير عن متطلباتها بشكل شخصي وقوي، وأنها للمرة الأولى تشعر بالقوة في كينوتها كامرأة، دون الحاجة لقيادة الرجل وإرشاداته.. شاركت في الاعتصام داخل ميدان التحرير، وقامت بالتعبير عن رأيها بكل حرية دون خوف من أنها مجرد امرأة، حيث خرجت من ذلك الإطار الذي أجبرها النظام المصري على البقاء فيه، وتخلصت من النظرة الدونية لدورها لعقود من الزمن.. بدأت مرحلة جديدة من المشاركة السياسية الحقيقية، وكانت هذه المرحلة التاريخية عبر الميدان، ولكن الميدان كان وسطا مختلفا، يحوي كل فئات وطبقات المجتمع؛ من طبقات ثرية وطبقات شعبية، من يسارين وليبراليين، علمانيين ومجموعات الأحزاب الدينية المختلفة.. اصطف الجميع وانصهروا في بوتقة الحرية، والمطالبة بالعدالة الاجتماعية.

لأول مرة تشعر فيها المرأة بأنها مشارك أساسي في حدث عظيم ملحمي، وأنها تحقق مكانتها المفقودة في الوعي الجمعي، عبر التعبير عن رأيها والتخلص من النظام المستمر في قهر وظلم المرأة على مختلف الأصعدة. لقد كانت هذه مكتسبات "ثقافة الميدان" الذي ناهضت مفاهيم كثيرة خاطئة، وجددت التعارف على أفكار تقليدية نظرية ووضعها محل التطبيق.

وقود الحرب

لم تغير ثورة يناير نظام الحكم. وبما أنها لم تكن ثورة منظمة يتبعها تنظيم ثوري يحافظ على مكتسباتها، ويتابع عملية تحقيقها، فقد جرى احتواء قسم كبير من جمهور الثورة، وتعددت مصائر قياداتها الشابة؛ ما بين استقطاب، أو اعتقال، أو نفي، أو شيطنة، أو وصم بالإرهاب. وبدا أن المجتمع نسي أو تجاهل في خضم هذا التشرذم؛ دور المرأة العظيم خلال الثورة، والتي كانت تأمل أن تساعدها الثورة على أن تجد لنفسها مكانا أفضل في المجتمع، بعدما ناضلت وصمدت في الميدان جنبا إلى جنب مع الرجل، ولعبت فيها أدوارا حقيقية تتسم بالشجاعة والإقدام، بما تنوء منه سواعد الرجال.

باتت المرأة في الميادين أسابيع بين فئات الشعب المختلفة؛ حيث الزحام، والتحرش، والتعرض للمهانة، والمتاجرة بها في مقدمة التظاهرات.. وارتفع صوتها بالسباب والشتم لرموز النظام، وحملت الصور والشعارات ضد أباطرة التجارة بالوطنية، والدين على حد سواء، على الرغم من استخدامها وقودا لحرب سياسية شعواء لا هوادة فيها بين الخصوم، مع عدم إدراك الغالبية منهن لهذا "الدور الخبيث"، فتجرعت العثرات والعواقب وحيدة، تحت أقدام طواغيت الساسة.

بعد الثورة، كشفت حالة السيولة التي يمر بها المجتمع؛ عن الوجه القبيح للعنف الموجه والمنظم ضد المرأة، سواء بتفشي التحرش، أو العنف الجسدي أو اللفظي تجاهها؛ في عدد من الأحداث السياسية، وبات ميدان التحرير أشبه بالمستنقع الآسن للتحريض على انتهاك المرأة جسديا ومعنويا. وما أن مرت الأيام الأولى للثورة ثم تنحى "مبارك"؛ حتى انكشف الغطاء عن مبتغى العسكر من الثورة، فقفزوا على السلطة بكل وسيلة، وصنعوا العراقيل بغية عدم اكتمال ثورة الشباب البيضاء (ثورة الياسمين)، مرتكبين سلسلة من الجرائم والانتهاكات بحق الثوار، لا سيما الفتيات.

خط أحـمر

لم يعد يكترث الجيش بمقولة "النساء خط أحمر"، والتي كرسها شباب الثورة منذ الخطوات الأولى في الميدان وحتى تنحي مبارك، وكان هذا هو المبدأ المتفق عليه من كل أطياف الثورة. لقد نشطت النساء في الثورة بكل أريحية وشجاعة، وأبدع الجميع في مظاهر وأدوات التظاهر والاعتصامات. ورحب الجميع، إلا "السلفية السلطوية"، بهذه العقلية الجديدة والأفكار المتطورة والمتناسبة مع العصر، للتعامل مع الثورة بمفهوم "مصر الجديدة" الطموحة الشابة. ومع المرأة، أشاعت الثورة بكل توابعها جوا من "الأفلاطونية" السياسية، التي اشتاقت لها جموع الشعب المصري..

صدّق الجميع الحلم، وتمادوا في الأحلام، ثم استفاق الجميع على كابوس "اللعبة الثورية"، ولاحت في الأفق ملامح المأساة.. ثورة تتآكل بفعل انقسامات أيديولوجية، ولم يعد في المشهد إلا التشاحن والإقصاء (تحت إشراف النظام)، ثم تدهور كبير في مكتسبات الميدان.

الأمر لم يعد ورديا كما كان من قبل، فمع تولي المجلس العسكري زمام الأمور بعد تنحي مبارك، استمرت الانتهاكات ضد المرأة بشكل أكثر قسوة وعنفا.. قام عدد من أفراد الجيش باستخدام طرق متعددة ومهينة لعموم الثوار، وخاصة الفتيات، الغرض منها الترويع من التظاهر، والردع عن الخروج إلى الميدان مرة أخرى. ومن المؤسف، إنكار تجاه العديد من النساء المدافعات عن الحركة النسوية هذه الانتهاكات، بسبب مصالح سياسية تتفق مع مصالح الجيش.

نذكر بعضا من تلك الأساليب التي ترتقي لوصفها بالجريمة:

كشـوف العـذرية

قامت الشرطة العسكرية في آذار/ مارس 2011 بفض تظاهرات في ميدان التحرير، وقامت باعتقال 18 فتاة، وتم اقتيادهن جميعا في عربة الترحيلات إلى السجن الحربي، وهناك طُلب منهن الاصطفاف والدخول إلى مكان خاص، حيث تم إجبارهن على الخضوع لكشف العذرية؛ الذي تم تحت علم رئيس المخابرات الحربية آنذاك، عبد الفتاح السيسي (قائد الانقلاب الحالي). وهذا إجراء مهين نفسيا قبل أن يكون جسديا، وتم بهذه الطريقة حتى يتم كسر الفتيات وتخويفهن من الخروج مرة أخرى للميدان.

ولولا انهيار بعض الفتيات، وسردهن لبعض النسوة على استحياء أسرار ما حدث في تلك الأماكن، لما تكشفت هذه الأسرار، ما جعل بعض الحقوقيين يتقدمون بدعوى قضائية باسم شابة تدعي "سميرة إبراهيم"، لمحاسبة المسؤولين عن هذا العمل. وتم تسريب الخبر في الصحافة العالمية، وباحت "سميرة إبراهيم" حينها: "أجبروني على خلع ملابسي أمام عدد من ضباط وعساكر الجيش أثناء إجراء اختبار كشف العذرية، وأجرى الاختبار ضابط وليس طبيبا"، حتى أفقدها عذريتها بيده، بحسب وصفها، فيما اعتبرت منظمة العفو الدولية أن جريمة كشوف العذرية هي صنف من صنوف التعذيب المرفوضة.

سحل "ست البنات"

توجهت قوات من الشرطة العسكرية والجيش، بالإضافة إلى الداخلية، لفض تظاهرات في 16 كانون الأول/ ديسمبر 2011، وتحديدا في ما يُسمى بـ"أحداث مجلس الوزراء". قامت قوات من الجيش بهجوم شرس على ميدان التحرير، في سابقة لم تحدث منذ قيام الثورة، وما كان واضحا للجميع؛ الإمعان في الاعتداء العنيف على كل من تطاله أيدي وأعين قوات الجيش. قامت بعض من هذه القوات بالاعتداء على الكثير من الفتيات المتواجدات في محيط الميدان، وكان من بينهم فتاة سقطت على الأرض من كثرة الضرب، ولم يكتف العسكر بذلك، بل قاموا بركلها وضربها حتى تعرى جسدها أمام الضباط والعساكر؛ ليكتمل "المشهد الدامي" الذي أعد له العسكر طويلا، وهو ما جعل هذا المشهد أنموذجا لفيلم رعب، يلهب وجدان الشعب المصري، الذي يقف عند الحفاظ على شرف وكرامة الابنة "مرتعدا".

تم تسخير مواد إعلامية لمختلف الأطياف؛ التي باتت تتناحر في مآلات هذه القصة المؤلمة، واشتعل المشهد هجوما، وكان أشهرها إعلاميا عبارة ساخرة في برنامج "سلفيي العسكر": "إيه اللي وداها هناك"! حقق هذا المشهد للعسكر فوائد لا حصر لها، من تكريس الانقسام العدواني، واستعلاء كل فريق على الآخر، وادعاء كل من الفرقاء استحقاقه للثورة. وعلى الرغم من خروج العديد منهم أثناء هذه الحادثة؛ للمطالبة برحيل المجلس العسكري، واستكمال مطالب الثورة، استثمر كل فريق مشهد "الفتاة المتعرية"، وأطلق عليها شباب الثورة من مقولات الموروثات الشعبية "ست البنات"، فانتفض الشباب غضبا لتلك الجريمة، وخرجوا في مسيرات تحت عنوان "نساء مصر خط أحمر"؛ للاحتجاج على ما فعله الجيش من انتهاك رمزية "مشاركة المرأة" في الثورة منذ بدايتها.

اعتقال واغتصاب

بعد أحداث انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013، كشف الناشط "أحمد سيف"، مدير مركز "هشام مبارك لحقوق الإنسان"، أن مؤسسة "نظـرة" النسائية، رصدت حالات اغتصاب للنساء المعتقلات داخل السجون منذ تموز/ يوليو 2013، ولكن لم تتناول وسائل الإعلام التابعة للحكومة الانتقالية التابعة للجيش هذه القضية. ووثقت حركة "نساء ضد الانقلاب" 50 حالة اغتصاب داخل سجون الانقلاب منذ تموز/ يوليو 2013.

وأكدت "آية علاء"، منسقة الحركة، أن هناك دلائل منهجية لما يحدث من جرائم الاغتصاب، وهو ما تم توثيقه من خلال 12 حالة اغتصاب في سجن واحد، وهو سجن "الأبعدية". ولكن كل محاولات إثبات ذلك قانونيا باءت بالفشل، خوفا من الفضيحة والعار اللذين سيلاحقان تلك الأسر معنويا، والبطش والتنكيل من العسكر ماديا. ووثقت الحركة الانتهاكات التي تمت ضد المرأة بشكل كبير وغير مسبوق، حيث وصل إلى الحركة ما يقرب من 1500 حالة اعتقال و75 حالة قتل من النساء خارج إطار القانون، إضافة إلى آلاف الإصابات.

سيناريو العسكر

هذه الثورات المتفرقة التي تعرفها المنطقة العربية منذ الأعوام التسعة الماضية، تُعبر في الجوهر عن نفس التطلعات المشروعة، رغم اختلاف التاريخ السياسي، والحراك الثوري الذي وردت فيه، وخصوصيات كل بلد، وعلى رأسها مصر "قلب الأمة النابض"، ورغم تواتر فشل أحداث هذه الثورات ونجاحها، مع ما رافقها من مآس وأفراح؛ وهي جميعها تطلعات الشعوب العربية التي تطالب، بصوت جهوري وبقوة فائقة، بالعيش الكريم، والحرية العادلة، والمواطنة والتعايش السلمي.

نخلص إلى أن العسكر لجأوا إلى استخدام للنساء في الثورات العربية، استخداما ممنهجا، ففتحوا لهن المجال في البداية، ليتصدرن دائما مقدمة الثورات الكبرى، وفيما بعد الثورات؛ يتعرضن للتهميش والاعتداء والتنكيل، ويطلب منهن بكل عنف وترهيب وازدراء العودة إلى منازلهن، بعد أن تتحقق للعسكر مكتسباته الكثيرة، من التزعم، إلى المتاجرة برسم صورة ملونة "للثورة المخملية على جناح امرأة"، داخليا وخارجيا، وهذا ما شهدته الثورة في فرنسا وروسيا، والمقاومة ضد الاستعمار في المغرب العربي، ثم ليُلقى بها في نهاية المطاف في ساحات الاستبداد السياسي.

لقد ثارت النساء العربيات على مدار تسع سنوات ضد منهجين، أحدهما يتمثل في الموروثات الثقافية والآخر في الاستبداد السياسي. ووجب عليهن السعي الدائم ضد هذا الظلم، إلا أن كفاح النساء لن يتوقف مهما كانت المعوقات.. التاريخ العربي لا يمكنه أن يعود للوراء، وما صنعته الثورات في الرجال والنساء، لن تعجزه أيادي العسكر مهما استطالت سطوتها.
التعليقات (4)
محمد الاسمر
الإثنين، 10-06-2019 06:53 ص
الى الامام يادكتورة
علي هلال
الخميس، 16-05-2019 05:13 ص
رؤية ورصد وتجحىيل ...وفقك الله
أحمد بدوي
الخميس، 16-05-2019 04:17 ص
مقال رائع أستاذة فاطمة
ام عبدالرحمن
الخميس، 16-05-2019 02:35 ص
بارك الله فيك يا ست الكل