هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يفعل الزمن أحيانا ما لا يستطيع فعله أمهر الجراحين والقياديين، سواء في حياة الأفراد أو الدول والجماعات، ومن فعل الزمان ومروره كم تغيرت أحداث تاريخية، ولذلك فليس حكيما، أو حتى يعرف طريقا للحكمة الذي يستهتر بمرور الزمان وآثاره؛ بداية من ملامح الوجوه حتى الأوطان.
يقتحم المعنى السابق ذهن كل مصري ثائر مخلص، وهو يرى ميدان الثورة (ميدان التحرير) مفتوحا على مصرعيه يوم السبت 20 من نيسان/ أبريل الماضي (اليوم الأول من أيام الاستفتاء على التعديلات الدستورية الباطلة)، واللافتات بتأييدها تكاد تغطي أركانه بدلا من هتافات الثوار المُحيية للآمال.. وكم ظل قائد الانقلاب وأعوانه يغلقون الميدان عقب الانقلاب ومذبحة ميداني رابعة والنهضة، حتى اغتيلت الشهيدة "شيماء الصباغ" في قلب الميدان في 24 من كانون الثاني/ يناير 2015م، لمجرد مشاركتها في وقفة نظمها التحالف الشعبي الديمقراطي لإهداء الورود لشهداء الثورة.
أي أن الميدان الذي طالما تمنى الملايين أن تطأ ثراه عقب الانقلاب، وكان قائد الانقلاب يأمر بقتل الذين تسول لهم أنفسهم الاقتراب منه، ميدان التحرير صار قبلة لشباب وشيوخ يرتعون ويرقصون على الدماء الطاهرة التي سالت فيه، ويوم الخميس 28 من شباط/ فبراير الماضي، يوم ذكَّر الشاب النابه أحمد محيي عبد المعبود الجميع بماضي الميدان، لم يجد أحدا من الثوار بجواره، رغم مناداته لهم بفيديو بثه مباشرة على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، ومناشدته لهم بألّا يتركوه بحسه الثوري ليلقى مصير "خالد سعيد" أيقونة ثورة 25 يناير.
أما ما حدث يوم 16 من نيسان/ أبريل الجاري، فأنكى وأضل سبيلا، إذ إن رئيس جامعة القاهرة الدكتور محمد عثمان الخشت أقام حفلا غنائيا لمغنٍ على أرض الجامعة، وانشغل كثيرون، بمن فيهم الثوار بقرارات رئيس الجامعة، بخاصة إنجاح المُتعثرين في العام الدراسي الأخير بمنحهم 5 في المئة فوق درجات الرأفة. وإن كان للمعترضين حق لأن القرار يُخرج لسوق العمل المزيد من الذين لا يحسنون فهما إو دراية بتخصصهم، فإن الأنكى والأشد غاب عن ذهن الكثيرين.
نظم الدكتور الخشت الحفل الغنائي، وأصدر القرارات على مقربة شديدة من ميدان النهضة، ثاني الميادين المصرية اعتراضا على الانقلاب العسكري بعد رابعة العدوية. وبالفعل حضر وجلس آلاف الشباب من الجنسين في الحفل، وتشاجروا على الأماكن القريبة من مسرحه، وتسامروا وصفقوا وصاحوا وتبادلوا النكات قريبا جدا من دماء المئات التي سالت غير بعيد منهم.
يبدو أن الزمان يسحب أستاره على وعي مئات الآلاف من الشباب المصريين، بخاصة الجيل الجديد من خيرتهم من طلبة جامعة القاهرة وغيرها، ويبدو أن المخطط الانقلابي يمضي، ولو بصورة ظاهرية من نجاح لآخر، فميدان التحرير مفتوح ولا تخطط الجموع الثائرة للاعتصام فيه، والذي يأتيه ثائرا يجيء وحيدا حتى يتم القبض عليه، فيما الآلاف يحتشدون قرب ميدان النهضة، دون مجرد تذكر لمأساة مئات الآلاف من المصريين مثلهم قضوا نحبهم وأصيبوا فيه، أو طُوردوا واعتقلوا بداية من تواجدهم فيه.
وفي المقابل، لم يعد يبدو في الأفق مجرد رابط يقود الثوريين المصريين لأفق قريبا من حل، إن لم يكن لديهم حل للموقف السيئ المحيط والمُطبق بهم من جميع الجهات. بل إن حراكهم في الشارع المصري انتهى؛ وهو الحراك الذي طالما تفاخر قطاع من الثوار به، ولعل الذاكرة تتعب في تذكر آخرها احتشادا، وتجد صعوبة بعد تاريخ 11 من تشرين الثاني/ نوفمبر 2016م، وهي التظاهرات التي نادى البعض بتسميتها "ثورة الغلابة"؛ في محاولة منهم لتجربة تأثير الجوع على حشد الناس من مظلومي المصريين وبسطائهم، وذلك بعد عشرات الأسماء لمظاهرات لم تحقق شيئا على أرض الواقع.. فقد انتهى أمر المظاهرات دون دخولها ميدان التحرير، ولو مرحليا كما نتمنى، ومن ثم انتهى وهم النصر المقبل، وخرافة غوث السماء للذين لا يريدون غوث أنفسهم من الأساس!
وبعد تجميد الحراك الشعبي والأمنيات، دخل الحراك الثوري في مصر مرحلة السبات والنوم ولفظ الأنفاس، وهو ما نتمنى ألا يطول أمده، فالجميع عاجز إلا عن انتقاد النظام الانقلابي، والجميع لا يستطيع طرح حل، والكيانات التي كان من المفترض أن تقود الحراك من الخارج، بخاصة تركيا، وصلت إلى العدم، من تحالف دعم الشرعية، إلى المجلس الشعبي المصري، إلى "برلمانيون ضد الانقلاب"، وهلم جرا .. يلف الجميع صمت مخزٍ لشرفاء الأصل فيهم قيامهم بأطهر مهمة في التاريخ، وهي زحزحة الحجر الصلب المُطبق على أنفاس شعبهم.
بل صار ثوريون يمهدون لبقاء أنفسهم في الخارج إلى ما لا نهاية، وآخرون يتفرغون لتنحية وإبعاد الذين يُذكرونهم بمرارة مواقفهم، وكأن الناصح صار عدوهم.. لا، إن عدوهم هو الذي انقلب عليهم وسفك دماءهم، وصرنا مع الوقت نتمنى اجتماعا، ونلتمس توحدا للفصائل الثورية، فيما غزت الإحن والعداوات والمحن أكبر فصيل ثوري.
دخل الثوار بالخارج بعد كثير من المصريين في الداخل مرحلة التجمد، أو استسهال اليأس والبقاء في ثلاجته، وهو ما يهدد صميم الثورة باليأس والتشقق والجفاف. ولعل من حسن إدراك ذلك الموقف ما صرح به نائب الجمهورية المصري السابق "محمد البرادعي"، في 10 من شباط/ فبراير الماضي، في تدوينة له على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، من أنه يدعو كل مصري ثائر لنبذ الخلاف بخاصة الإسلامي العلماني من أجل إنجاح الثورة؛ وواصفا استمراره بـ"الخلطة الشيطانية"!
إن المتألم لرؤية حزب النور في شوارع مصر يؤازر ويناصر قائد الانقلاب وأعوانه، وإن الموجوع لرؤية مصريات ومصريين يرقصون أمام اللجان الانتخابية في أول أيام الاستفتاء الأخير، وإن اليائس لرؤيته عدد المصريين القليل المناصر للثورة أمام السفارات المصرية في نفس التوقيت، فيما لا حراك في تركيا التي تضم أكبر تجمع مفترض للثوار، وإن المذهول من موقف إخواننا المسيحيين الرسمي الموافق على مد فترة حكم السيسي.. إن على جميع مَنْ سبقوا من الثوار التنبه إلى ما يُدبر في العلن بعد السر لمصر، وعلى الجميع أن يوقفوا مرحلة تجميدهم بسعيهم للالتحام والاتفاق والتجمع ونبذ الخلافات.
يعرف كاتب هذه الكلمات جيدا أن البشر لا يجتمعون في وقت الدعة والراحة على قلب رجل واحد، فما بالنا في وقت التشتت وبلوغ الصعاب أوج قمتها؟ ولكن الأمل معقود على العقلاء في أن يتجنبوا الشقاق وأسبابه، ويتعالوا فوق الموقف وجراحه والخلافات ليجمعوا الصف ويبحثوا عن أفق ورؤية وحل.. وبعدها فليقض بينهم صندوق الانتخابات، وهو خيار أفضل بمراحل من أن يبقوا في العراء متجمدين، قمة ما يكسبه أحدهم باسم الثورة لعاعة قليلة، وشيء تافه مقابل المكسب الثوري المعنوي الأولي المُحيي للروح منهم قبل بلدهم.