(1)
تأخرت ساعات في كتابة هذا المقال، ليس لنقص في القضايا، بل لكثرتها وتشابكها وتناطحها العبثي، حتى أنني أتخيلها هذه الأيام مثل كباش من فخار تتناطح بجنون حتى تتحول إلى شذرات وشقافات، يستخدمها البشر المتابعون في معارك هيستيرية أخرى للتراشق الجمعي.
هكذا أجد مئات الشذرات عن سيناء الجريحة المطاردة: شقافة تدل على التفريط في إطار "صفقة خبيثة" يتم تطبيع الحديث عنها بغرض زحزحة فلسطين غرباً، وشقافة تتحدث عن تأجي الصفقة واعتراض مصر عليها لخطورتها (حاليا) على استمرار النظام الخادم للمشروع الصهيو/ترامبي، وشقافات أخرى تتجاسر بالحديث عن حرية سيناء والاحتفال بعيد تحرير كامل ترابها، أو بالحديث عن وطنية نظام طلب من واشنطن تجميد المطلوب من مصر في "صفقة القرن"، وخاصة بند تخصيص أرض في سيناء لإقامة "شطر من دولة فلسطينية مؤقتة".
(2)
الحديث عن الشذرات ليس تحقيرا للواقع، وليس إهانة للقضايا، فالاجتزاء والتشظي من أهم ملامح المرحلة، ليس في مصر وحدها بل في العالم كله، لـه مظهر من مظاهر وتجليات "ما بعد الحداثة"، وبالتالي فإنني لا أعيب حالة التشظي نفسها، بل أخشى من طريقة التعامل معها، فهناك من يضع الجزئيات إلى جوار بعضها كيفما تيسر بدون دراسة للعلاقة بين الجزئيات، فتظهر "البازل" بمظهر سيريالي يثير الضحك حينا، ويثير الفزع والغموض ويغري بالتخمينات المنفرطة والتأويل الذاتي اللانهائي في بقية الوقت، بينما هناك من يستخدم الاجتزاء كنوع من "التفكيك" للمساعدة على الفهم والتشريح، أو لالتهام الرغيف لقمة لقمة وتيسير ابتلاع وهضم القضايا والاستفادة منها.
ثبت منذ الأزل أن الرؤية من داخل القصر "رؤية مفلترة"، لا علاقة لها بالصورة الواقعية لحياة الناس،
ولست متأكداً في أي فريق نكون الآن؟ وبأي أسلوب نتعامل مع قضايانا؟ فنحن نسخر كثيراً، ونملأ الوقت بالقفشات واستعراض شكل الشذرات المضحكة أو الجاذبة للنظر والتعليق، بينما الثور الأعنف يواصل النطح التخريبي في متحف حضارتنا وفي منازلنا وفي كل أركان حياتنا، وبينما يحصل (بالتدليس كالعادة) على 24 مليون قيراطاً، يتحدث بعضنا عن الانتصار الكبير الذي حققناه لانتزاعنا 4 ملايين قيراط، وهذا السلوك يعيدني إلى ملمح الاجتزاء، بحيث نرى الهدف الذي سجلناه في مرمى الأوغاد، ونتحدث عن جماله والمهارات الفردية التي ساعدت على إحرازه، بينما نغفل الأهداف الستة التي دخلت في مرمانا، والذي تحسم بطبيعة الحال النتيجة النهائية للمباراة.
(3)
لقد قضينا أسابيع نتحدث بحماس عن معركة استفتاء على دستور، بينما هذا الدستور (مثل تابلت وزارة التعليم) يحتاج إلى بيئة وشروط تيسر استخدامه، لهذا يحضر "التابلت" ولا يعمل لأن البيئة غير صالحة والشروط غير متوفرة، وبالتالي يكون التشخيص الصحيح هو "السيستم واقع".. نعم السيستم واقع سواء حضر الدستور أو غاب، سواء كان الدستور قديما أو معدلاً، والدليل أن صبيحة إعلان سريان الدستور المعدل يواصل النظام "الهانج" ويثبت المشهد على نفس الصورة، ويتم اللجوء إلى "حالة الطوارئ"، باعتبارها النظام المعمول به كقاعدة وليس كاستثناء، ويتم تمديد الطوارئ بالتجاهل التام لمنطق وروح الدستورين (القديم والمعدل معا) والتحايل على النصوص والمواد التي نتعامل معها كشقافات منفصلة نستخدمها دائما خارج سياقها، لأننا ببساطة نهتم بالجزئيات ولا نهتم بالسياقات.
(4)
أذكر أنني في نهايات عصر مبارك، قد كتبت عدة مقالات لفضح تزوير الانتخابات البرلمانية التي كانت سببا بعد ذلك في إطاحة نظام "المخلوع المستنسخ"، وطالبت بمحاكمة المسؤولين عن تزوير إرادة مصر، وبعد ساعات مضى قطار النظام واثق الخطى مستندا إلى بديهية التزوير كتقليد سياسي مصري يدعو للفخر، وظهر مبارك على الشاشات متحدثاً عن نزاهة الانتخابات، ويومها كتبت مقالأ بعنوان "نزيهة نزيهة.. اشربوها" نشرته صحيفة "المصري اليوم" في كانون أول (ديسمبر) 2010 قبل أسابيع من
ثورة يناير، وأعتقد أن ما جاء في المقال القديم يصلح كإشارة إلى خطيئة الطواف حول قلعة الفساد من دون اقتحامها، ويكشف عن نواقص وثغرات علاقتنا المريضة بالسلطة من جهة وبمشاريع النهوض من جهة أولى، وحتى لا أكرر ما قلته بكلمات جديدة، أعيد المقال بكلماته القديمة، وزمنه القديم، فنحن لم نغادر ذلك الزمن، ولا تلك المطالب، ولم نستحق بعد الوصول إلى نقطة التغيير التي نحكي عنها ولا نسعى لها بتخطيط جاد متعمد وعمل دؤوب واعي.
(نزيهة نزيهة.. اشربوها)
لم يفاجئني الرئيس مبارك بحديثه عن نزاهة الانتخابات، هكذا يرى النظام نفسه من الداخل، "زي الفل" ومنزهاً عن الأخطاء، وكل ما يحدث في الشارع من مصائب مجرد غوغائية تفتعلها "قلة منحرفة"، أو شرذمة مدسوسة لإثارة القلاقل، ولهذا راجت في الأدب والحواديث قصص السلطان الذي يرتدي ثياب الرعية ـ لسبب ما ـ ثم يتجول في الشوارع والأسواق، فيرى ما لم يكن يخطر له على بال، وحينها تندلع الدراما، وتتغير المصائر، وهكذا ثبت منذ الأزل أن الرؤية من داخل القصر "رؤية مفلترة"، لا علاقة لها بالصورة الواقعية لحياة الناس، ولهذا تبدو كل الأزمات سهلة أمام الحكومات، خاصة أن الحكومات كما قال عنها الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغن، لا تحل المشاكل، بل تكتفي بتبريرها، وإعادة ترتيبها.
من الذي يحل المشاكل إذن؟
(*)
ظل الرهان منذ نهاية السبعينيات معلقا في رقبة المعارضة بفصائلها وتياراتها المختلفة، حتى بعد أن ثبت لنا تماما أنها لا تختلف عن الحكومات في شيء، بل إنها أدمنت الاتجار بالأزمات، وصارت تروج لها، وترتزق منها، وكل ما تطمح إليه أن تتحين هذه المناسبة أو تلك لترتب صفقة تقارب مع النظام، وتطمئن على نصيبها المسموح من السلطة، فقد تراجع الحديث عن الثورة، والشعب، وتقدم الرهان على الديمقراطية النيابية فى صورتها الغربية، وهي ديمقراطية تعرضت لشروخ وشكوك عنيفة منذ بداية هذا القرن، بعد فوز بوش الإبن على الديمقراطي آل جور فى انتخابات فاضحة، اعتبرها الأمريكيون أنفسهم عارا بعد التلاعب في فرز صناديق ولاية فلوريدا التي كان يحكمها شقيق المرشح الجمهوري، وبعد أن تورطت قناة فوكس في إعلان نجاح غير مستحق لبوش، وكان المشرف على ملف الانتخابات في فوكس جون إليس، ابن عم بوش الأصغر، حينذاك ردد الأمريكيون أن بوش رئيس اعتباري لنصف أمريكا فقط.
تراجع الحديث عن الثورة، والشعب، وتقدم الرهان على الديمقراطية النيابية فى صورتها الغربية
من يومها وهذه اللعنة تطارد هذا النوع من الديمقراطية في بلدان العالم، وليس ما يحدث في ساحل العاج بين جباجبو وأوتارا استثناء، فقد حدث قبله في زيمبابوي بين موجابي وتسفانجيراي، وفي أفغانستان بين قرضاي وعبدالله، وإيران بين نجاد وموسوي، وفي هايتي بين بريفال ومانيجات، وفي جورجيا بين ساكاشفيلي وجاتشيلادزه، وفي أوكرانيا بين يانكوفيتش وتيموشينكو، وحتى في بلاد واق الواق.
(*)
هل تكفي هذه الحالات لنعرف أن معايير السلطة والثروة هي التي ترجح فوز المرشح وليس برنامجه الانتخابي، أو وعي الناخب الأعزل، وإذا كان هذا يحدث في أمريكا نفسها، فما بالك ببلاد بوليسية وسلطوية تعاني من الفقر والأمية السياسية ومختلف الأزمات مثل بلدنا؟! أنا لا أدعو طبعا للتراجع عن الديمقراطية أيا كان أسلوبها، لكنني أطرح المشكلة لنتعرف معا على الثغرات والعيوب، ولنبحث عن "تهجين" يلائم ظروفنا، بعيدا عن التمادي في لعبة ستفضي بنا حتما إلى تمركز السلطة في يد طغمة "قادرة"، تستمتع بالتملك والاحتكار، حتى إنها لن تفرط في السلطة تحت أي اعتبار، وهذا سيضع المجتمع كله بالضرورة أمام احتمال وحيد هو "الانفجار"، لأن البدائل والآليات والتيارات المطروحة في مقابل النظام لم تعد تصلح حتى للتنفيس، فالمعارضة تجتر نفس الأساليب التي فقدت صلاحيتها، ولم تعد تنطلي على شعب فقد صبره، تحت ضغط الأزمات المتلاحقة، والقضايا المطروحة على الساحة زائفة وبعيدة عن وجع الناس.
لقد مللنا النظام ومؤسساته، ويئسنا من الأحزاب ورهانها على السلطة، ولم يعد لدينا إلا ابتكار حلول أهلية تعفينا من الرهان على "وعاء الحصى" الذي يلهينا به أهل
السياسة، فلابد أن نفكر في صناديق للمتعثرين، وجمعيات لتشغيل العاطلين، وتنظيمات لتنظيف شوارعنا، وحماية بناتنا من التحرش، وكلما تقدمنا خطوة على طريق العمل الأهلي، لابد أن نقطع بمقدارها التعامل مع مؤسسات النظام، لأن فكرة العصيان المدنى لن تتحقق في
رأيي إلا إذا امتلكنا آليات لتسيير حياتنا، فلنبدأ، ونر.
(*)
انتهى المقال المنشور قبل الثورة، وكأن ثورة لم تندلع، وكأن مبارك تجبر وتوحش وصار ألعن وأطغى.
[email protected]