مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقررة أواخر هذا العام، تتزايد المخاوف المشروعة عند أغلب التونسيين من عودة العمليات الإرهابية، كما تتزايد مخاوفهم من إمكانية "توظيف" العامل الإرهابي في تعديل المشهد السياسي، كما وقع في انتخابات 2014. فرغم كثرة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يمكن أن تكون مثار سجال/ منافسة انتخابية بين الأحزاب المتنافسة، ينبئنا استقراء المشهد السياسي التونسي بأنّ القضايا الأمنية والخلافات الهووية ستكون هي المحور الأساسي في الحملات الانتخابية لأغلب الفاعلين السياسيين. ومهما اختلفت مقاربات التونسيين للخطر الإرهابي (في أسبابه وآليات مواجهته والأطراف التي تقف وراءه أو تستثمره)، فإنهم يُجمعون على أنه خطر حقيقي يهدد السلم الأهلية، وقد ينسف الانتقال الديمقراطي برمته.
وسأحاول في هذا المقال أن أطرح بعض النقاط التي لا أزعم أنها ذات طبيعة إحاطية (EXHAUSTIVE) بالظاهرة الإرهابية وتعقيداتها الجيو- استراتيجية، ولا أزعم كذلك أنها ذات قدرة سحرية على مواجهة الإرهاب أو أنها مكتفية بذاتها، منغلقة على محصولها. ولكنني على يقين من أنها نقاط تحتاج على الأقل إلى حوار عمومي، بعيدا عن القصف الإعلامي وشبكات الدمغجة المهيمنة على منابر التواصل المرئية والمسموعة والمكتوبة. وسأصوغ هذه النقاط على الشكل التالي:
إنها نقاط تحتاج على الأقل إلى حوار عمومي، بعيدا عن القصف الإعلامي وشبكات الدمغجة المهيمنة على منابر التواصل المرئية والمسموعة والمكتوبة
1- الابتعاد عن التجاذبات السياسية والتوظيفات "
الأيديولوجية" للإرهاب، فالصراعات الدونكيشوتية والاصطفافات الأيديولوجية لن تعيد الحياة إلى ضحايا الإرهاب من "مستضعفي" السواحل والدواخل، ولن ينفعهم أن "نُجمع" (بمنطق موازين القوى لا بمنطق الاقتناع العقلي الحر) على أنّ من قتلهم هو وليد ثقافة تجفيف المنابيع ومناويل التنمية اللامتكافئة، أو هو "مسخ" أنتجته ثقافة الفقيه السلطاني المتمذهب وأداة للمنظومة القديمة وحلفائها الإقليميين والدوليين، وهو ما يعني طرح الإشكاليات الحقيقية والأجوبة الحقيقية (حتى إن كانت موجعة ومخالفة للانتظارات الجماعية)، ولكنّ طرح تلك الإشكالات واجتراح أجوبتها لا يمكن أن يتمّ بالعقل "الزبوني" النوفمبري، حتى إن تحوّل بعد الثورة إلى "خبراء" و"محللين"، وهم في الحقيقة مجرد واجهة إعلامية لبعض مراكز القوى المعروفة بانتمائها إلى الدولة العميقة.
2- اعتبار خطابات التحريض الأيديولوجي (سواء أجاءت من اليمين أم من اليسار) جزءا من ثقافة "الدعوشة"، وعاملا من عوامل إضعاف "الممانعة الاجتماعية" أو المقاومة الجمعية للظاهرة الإرهابية. وهو ما يعني ضرورة مراجعة السياسات الإعلامية وإبعاد الخبراء المزيفين والموتورون الأيديولوجيين من المشهد (وحمل الهايكا وغيرها من المتدخلين في القطاع الإعلامي على ممارسة دورهم التعديلي والرقابي، بعيدا عن أي اصطفافات أيديولوجية لا علاقة لها بأخلاقيات المهنة وقوانينها)، كما ينبغي إصلاح القطاع التعليمي (خاصة التعليم الديني) وإسناد هذه المهمة إلى جهات علمية "موثوقة" (لا تستثني الشيوخ من ممثلي الزيتونة خاصة)، ويكون عملها تجسيدا لمشروع مجتمعي "توافقي" يكون بعيدا عن خرافتي "النمط" و"الأسلمة". فنحن لا نعيش في "جاهلية"، ولكننا كذلك لا ننعم بـ"معجزة" لا وجود لها إلا في عقول أصحابها والمروّجين لها. ولذلك، فإنّ تجاوز الصراعات الهووية والضغائن الأيديولوجية هو أولوية قصوى سياسيا واجتماعيا وثقافيا، بحكم تأثيراتها الكبرى على مختلف الفاعلين وعلى استراتيجيات تحركهم داخل المجال العام.
ضرورة مراجعة السياسات الإعلامية وإبعاد الخبراء المزيفين والموتورين الأيديولوجيين من المشهد
3- اعتبار الإرهاب مظهرا قصويا من مظاهر استضعاف الدولة أو استهداف مؤسساتها، بحيث تكون مقاومته جزءا من استراتيجية عامة تعيد للدولة هيبتها ضد الإرهابي والمتهرّب الضريبي والمهرّب المافيوزي (ثالوث الفساد والاستبداد وتفريخ ثقافة الدعوشة). ولن تكون هيبة الدولة هنا في مقابل هيبة المواطن أو نقضا لها، ولكنها ستكون تفعيلا للقانون على حياة "المواطنين" (بصرف النظر عن هويته البصرية وموقعه الاجتماعي)، كما ستكون تجسيدا مؤسساتيا لانتظارات المواطنين واستحقاقاتهم المادية والرمزية، بعيدا عن منطق الشبكات الزبونية والعصبيات الجهوية أو القطاعية.
4- إقامة الاستراتيجيات الدفاعية على أساس أن السلفية الجهادية لا تُمثل عموم التيارات السلفية (عدم استهداف السلفية العلمية أو استعداء منتسبيها، بل إشراكهم في مقاومة الطاعون الارهابي بحكم قدرتهم على التفكير من داخل المنظومة نفسها، والوصول إلى نتائج تنسف الطرح الجهادي). وهذا لا يعني التماهي مع أطروحات السلفية العلمية، بقدر ما يعني الاحتكام إلى مبدأ الواقع لا مبدأ الرغبة، والاعتراف بتعدد المنتجين للخطاب الديني، ما داموا بعيدين عن أي خطاب تكفيري أو تحريضي ضد الدولة أو ضد أي طرف كان. كما ينبغي الانطلاق من أن السلفية الجهادية لا تمثل كل الإسلاميين ولا يمكن أخذهم بجريرتها (الابتعاد عن المحاولات المحمومة للزج بحركة النهضة في كل عمل إرهابي، وهو ما لا يعني بالضرورة عدم مساءلتها هي وغيرها عن دورها "السياسي" في تفاقم هذه الظاهرة)، وسيكون ذلك كله موجها للتخفيف من قابلية الاحتراب الأهلي، ومن إمكانية توظيف الإرهاب لأي احتقان اجتماعي أو أمني بين الفاعلين الجماعيين من الإسلاميين والعلمانيين. فتفتت الجبهة الداخلية قد يخدم بعض أهداف الانقلابيين في المدى المنظور، ولكنه سيخدم التكفيريين في المدى الاستراتيجي بطريقة تعاكس توقعات الاستئصاليين ورهاناتهم في زمن "الإرهاب المُعولم".
تفتت الجبهة الداخلية قد يخدم بعض أهداف الانقلابيين في المدى المنظور، ولكنه سيخدم التكفيريين في المدى الاستراتيجي بطريقة تعاكس توقعات الاستئصاليين
5- الاعتراف بوجود خطر إرهابي حقيقي لا يرتبط بالضرورة بمراكز القوى في المنظومة القديمة (وإن تقاطعت مصالحه معها أحيانا أو استثمرت مفاعليه الكارثية في الكثير من الأحيان)، والاعتراف كذلك بأن الإرهاب غير قابل للاختزال في أي عامل تفسيري مفرد (عامل اقتصادي أو ثقافي أو أمني)، مما يعني ضرورة وجود مقاربة شاملة لمواجهته (شاملة من حيث طبيعة المتدخلين وطبيعة المقاربات والرهانات). ولا يمكن حصول ذلك إلا بقيام نوع من الثقة المتبادلة بين الإسلاميين والعلمانيين، بالإضافة إلى قبولهم جميعا بتغيير مواقع إنتاج خطاباتهم، ومراجعة بعض أطروحاتهم بحثا عن "توافق حقيقي" يكون نتيجة حوار اجتماعي عام، لا بحثا عن "توافق ملغوم" يكون فرضا لرؤية مسقطة وغير فعالة أو غير وظيفية في مواجهة هذه القضية الخطيرة، بل يكون إعادة إنتاج لنظام المخلوع وخزانه البشري وشبكاته التفسيرية المطبوعة بالاختزالية والتسطيحية والأدلجة.
6- ضرورة إنشاء لجنة برلمانية تُسند لها مهمة الإشراف على الملف الأمني (مثل اللجان الموجودة في كل الديمقراطيات الكبرى)، وتكون لهذه اللجنة صلاحيات كبرى من حيث إقرار التسميات في القطاعين الأمني والعسكري، بالإضافة إلى التخطيط والمراقبة والمتابعة، كما تكون لها صلاحيات المساءلة والمعاقبة لكبار المسؤولين الأمنيين، بدءا من العزل وانتهاء بالإحالة على الدوائر القضائية المختصة (على أن تستعين هذه اللجنة "وجوبا" بكبار المختصين في الشأن الامني والاجتماعي والحقوقي، وغير ذلك من القطاعات المعنية بالمسألة الإرهابية).
7- إيجاد آلية محاسبة لكل المتدخلين في الإعلام، ممن يحاولون توظيف الخطر الإرهابي واستثماره لغايات أيديولوجية أو حزبية تزيد من استفحال الظاهرة بدل السيطرة عليها، وهو ما يستدعي إيجاد قوانين تنظم هذه التدخلات الإعلامية، بعيدا عن فزاعة "تبييض الإرهاب" من جهة أولى، وبعيدا - من جهة ثانية - عن أي تقييد لحرية التعبير المكفولة بنصوص الدستور. وهو ما يعني تحميل المتدخلين في الإعلام مسؤولياتهم الجنائية إذا ما ثبت تلاعبهم بالمعلومات، أو خضوعهم لشبكات (داخلية أو خارجية) أو خدمتهم للوبيات تستثمرهم لتحقيق مصالحها الضيقة.
8- الانطلاق من أن الخطر الإرهابي هو خطر يواجه "كل" الفاعلين الجماعيين مهما كانت أيدلوجياتهم، وهو ما يستوجب ردا موحّدا من "كل" الفاعلين الجماعيين (بإسلامييهم وعلمانييهم)، واعتبار أن أي إدارة للأزمة على أساس منطق "لجان التفكير" وسياسات تجفيف المنابع من جهة، أو على أساس "الأخوّة الدينية" من جهة ثانية، لن يكون محصولها إلا مزيدا من الإرهاب، ومزيدا من الاحتقان الاجتماعي والأمني، الأمر الذي يخدم في النهاية الشبكات الزبونية واللوبيات الأمنية- المالية- الجهوية التي لا يمكن أن تحافظ على مصالحها وامتيازاتها، ولا أن تراكم رساميلها المادية الرمزية إلا في ثقافة يسودها الفساد ويحكمها الاستبداد.
تحولت الكثير من الخطابات الواصفة للإرهاب إلى خطابات متقاطعة مع الإرهاب، بل متحالفة موضوعيا مع الإرهاب ذاته في شكله "الصلب" المعروف (الإرهاب التكفيري)، أو في شكله "الناعم"
9- اعتبار النقابات الأمنية مُكوّنا بنيويا من مكوّنات مواجهة الإرهاب، وفاعلا رئيسا من الفاعلين في تحديد استراتيجيات تلك المواجهة، ولكن بشرط أن تفرض الدولة عودة تلك النقابات إلى دورها النقابي، بعيدا عن أي محاولة للتغوّل أو لإخضاع "السياسي" لرهاناتها القطاعية ولمنظورات الأطراف التي تسندها من خارج المنظومة الأمنية. وهو ما يعني ضرورة التعامل مع النقابيين الأمنيين بتفعيل القوانين المنظمة للمهنة، بعيدا عن أي مؤثرات خارجية قد تضرب مصداقية الجهاز الأمني وتمنع انبثاق مشروع "الأمن الجمهوري" من جهة أولى، كما تزجّ بالأمنيين - من جهة ثانية- في الصراع السياسي، بدل أن تعيدهم إلى مهمتهم الأصلية باعتبارهم أداة تنفيذ في خدمة المواطن وتفعيل إرادته عبر ممثليه الشرعيين.
ختاما، فإن الخطر الإرهابي في تونس قد أوقفنا على الدور المركزي الذي تلعبه "الخطابات الواصفة" في مواجهة هذه الظاهرة أو في تكريسها. فالخطابات الواصفة للإرهاب (مهما كان موقع إنتاجها، سواء أكان سياسيا أم نقابيا أم أمنيا أم أكاديميا)، ما زالت بعيدة عن الموضوعية والحيادية، وغير ذلك من الصفات اللازمة لجعلها خطابات عملية وذات فعالية حقيقية في مواجهة الإرهاب في طوره المُعولم. فأغلب تلك الخطابات هي خطابات اختزالية ومؤدلجة، فلا يحضر "الإرهاب" فيها إلا بوصفه "موضوعا متاحا" لا موضوعا مقصودا بذاته. فهو مجرد "تيمة" في استراتيجيات مواجهة حركة النهضة ومحاولة تحجيمها، أو حتى منعها من النشاط القانوني. ولذلك تحولت الكثير من الخطابات الواصفة للإرهاب إلى خطابات متقاطعة مع الإرهاب، بل متحالفة موضوعيا مع الإرهاب ذاته في شكله "الصلب" المعروف (الإرهاب التكفيري)، أو في شكله "الناعم"، ذلك الشكل الذي تُعبر عنه بعض الانتهاكات الفردية التي تمارسها أجهزة الدولة، والتي قد تتحوّل (بتحريض من بعض الخطابات الاستئصالية المعادية لمسار الانتقال الديمقراطي) إلى انتهاكات ممنهجة؛ قد تبلغ ما يمكن الاصطلاح عليه بـ"إرهاب الدولة" المؤذن بالعودة إلى مُربّع الاستبداد.