يحل علينا العام الثامن منذ أخرجت تونس حميم بركان
الربيع العربي، وسقوط نظام القذافي في ليبيا، كما يحل بمصر العام السابع على ثورة 25 يناير المجيدة. وطافت جمرات البركان بدول عربية في المشرق، ولكن الدولة العميقة في المنطقة احتفظت بركائز قوتها، واستطاعت مرحليا أن تطفئ نار البركان مستندة إلى قوى خارجية وإلى توجهات عدد من الحكام العرب، بل الأعراب، الذين يصنفون كحلفاء مع أعداء الأمة العربية في قمع موجات ربيع العرب.
وما لبثت أن تدهورت الأوضاع في إيران وتركيا، ومن ثم نجد أن المشرق العربي يعيش في مرحلة غامضة وخطيرة لم يشهدها منذ عقود، وأن المنطقة كلها تعاني من سعير البحث عن توازن جديد بعد انهيار التوازن القديم الذي حكم المنطقة قرنا كاملا.
وتعاصر ذلك مع تولي دونالد
ترامب الرئاسة في الولايات المتحدة، الذي جاء بفكر مستحدث وغير مسبوق في سياسته الداخلية، وتسبب في إثارة أوضاع خطيرة داخل بلاده، كما عصفت سياسته الخارجية بالمفاهيم والمواقف المستقرة على الساحة الدولية، فأدار علاقات أمريكا الخارجية بعقلية رجل الأعمال المتعصب، وراجع علاقات أمريكا بحلف الأطلسي، وخرج من اتفاقية "5+1" التي عقدت مع إيران ووافقت عليها إدارة أوباما، كما خرج من اتفاقية المناخ، وانسحب من مؤتمر منظمة التجارة الدولية في كندا، وأحيا التوتر مع كوريا الشمالية.
وفي المشرق العربي، قال بكل صراحة في أثناء حملته الانتخابية وبعد توليه الرئاسة إنه يكره المسلمين، وأن الإسلام هو منبع الإرهاب في العالم، وسخّر قسطا مهما من جهود إدارته في دعم الكيانات العربية المناوئة للثورة، وأعد بالاتفاق مع نتنياهو نظاما كاملا لمناوأة المطلب الشعبي العربي بالتغيير واستعادة قوة وعزة وكرامة العرب والمسلمين؛ بإقامة كيانات عربية تقبل وتسعى للتعاون مع الكيان الصهيوني بدعم الحكام العرب أنصار التطبيع مع إسرائيل في ما سمي بصفقة القرن، مستعينا بزوج ابنته اليهودي كوشنر. وكانت أولى قذائفه في تنفيذ هذا البرنامج تطبيق قرار كان الكونجرس قد اتخذه منذ ما يقارب عقدين من الزمان وأحجم الرؤساء عن تنفيذه، وهو الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
وكان لافتا أن أول زيارة له بعد توليه هي زيارته للسعودية حليف أمريكا المستتر منذ لقاء روزفلت مع سعود في الأربعينيات، التي أسفرت عن إقرار الملك خالد وولي عهده أن الإسلام هو منبع الإرهاب، وتم إنشاء وفتح ما سمي بمركز الاعتدال لأمركة الإسلام على النحو الذي تنادي به إسرائيل.
ثم اتجهت طائرته مباشرة إلى إسرائيل، حيث سمح لأول مرة منذ قيام دولة الكيان الصهيوني بمرور طائرات متجهة لإسرائيل في المجال الجوي العربي.
وأدى في إسرائيل تقاليد اليهود بالإمساك بحائط المبكي، وعبر نائبه بنس في خطاب غير مسبوق بصراحته وقوته في الكنيست؛ عن تضامن وتحالف وتنسيق كامل بين أمريكا وإسرائيل. ووافق ترامب على عاصفة الحزم التي أعلنها الملك السعودي في تحالف مع الإمارات، والسماح لهما بشراء الأسلحة والطائرات والذخائر لضرب الفئات المتصارعة في اليمن.
وعمد للتدخل في الأزمة السورية إلى جانب قوات عدد من الدول الغربية، وللوقوف ضد التوغل الروسي والإيراني.
ونظرا للأهمية الكبيرة التي تتمتع بها المنطقة بثرواتها ومواقعها الاستراتيجية، والتي أسماها العالم الألماني ماكيندر "سرة العالم"، فقد تدخل ترامب في تلك الصراعات إلى جانب روسيا وبريطانيا وفرنسا، معلنا أنه يطالب دول الخليج الغنية بثمن حماية أمريكا، وساعدها على استخدام القوة لدعم وجودها على أساس الرخصة المزيفة التي سادت المجتمع الدولي منذ سنوات، والتي تسمى بمحاربة الإرهاب، وأتاحت خرق قواعد وأحكام القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة لتبرير الاعتداء على دول ذات سيادة والتدخل في شؤونها الداخلية.
ومن أهم التعليقات الإسرائيلية أن شلومو بن عامي قال بصراحة، إن ترامب قد "trumping" أي نشر التوتر في الشرق الأوسط، فأعقب ترامب ردا على ذلك بتسريب أنباء عن نظام كامل يرضي الفلسطينيين بإقامة دولة منزوعة السلاح وتتمتع بقدر من الاستقلال.
ومنذ أيام قلائل، ازداد موقفه الداخلي خطورة عندما صرح محاميه كوهين أنه طلب منه الكذب في إفادته للكونجرس، وعدم ذكر اتصالات مع الروس لبناء برج ترامب في موسكو، بالإضافة إلى إغلاق الحكومة لإصراره على بناء سور على طول الحدود مع المكسيك، وعدم قبول أي حلول وسط مع مجلس النواب ورئيسته نانسي بيلوسي، بل تجاوز ذلك فمنع سلاح الجو من إعداد طائرة لبيلوسي ووفد من المجلس لزيارة الشرق الأوسط، بما في ذلك
مصر، لتقصي مدى سوء نتائج سياسة ترامب في المنطقة، وعلل ذلك بقرار إغلاق الحكومة.
ويثور هنا التساؤل عند المختصين والخبراء في العلاقات الدولية، عن مسار ونتائج هذه التطورات في المجالات التالية:
- إلى أي حد يصل تدهور موقف ترامب الداخلي؟ وهل يتعرض للعزل أم يترك للسقوط في الانتخابات الرئاسية القادمة؟ بل إن البعض يتوقع محاكمته جنائيا.
- الآثار المترتبة على تفاعل وتصاعد العزلة الأمريكية، وإضعاف التحالفات مع أوروبا والأطلسي، ومعاناة الاقتصاد الأمريكي من حملة العقوبات التي يفرضها على الدول، والتي أصابت الاقتصاد الأمريكي بنتائج سلبية.
- والأهم من ذلك كله بالنسبة للمنطقة العربية: هل تنجح محاولاته لتنفيذ مشروع أمريكي ينهي النزاع العربي الإسرائيلي؟
وفي كل الأحوال، يخطئ ترامب ونتنياهو والمطبعون العرب؛ إذا تصوروا أنهم استطاعوا كبت وإنهاء ثورة الربيع العربي الذي بدأت بشائره حاليا في تونس والعراق، والذي تتحرك جمراته بقوة وعزم تحت الرماد، كما يعلمنا التاريخ أن الثورات دائما هي التي تسقط الأنظمة المستبدة التي يبقى وجودها مؤقتا رغم شدة القمع. وليس في ذلك القول السعي وراء سراب من الخيال، بل هو واقع واقع ولو بعد حين.