محدثكم سني مصري، ورأيت بعيني الشيعة يصاحبهم أولادهم وهم يضربون صدورهم حتى تدمي. وعند وصولي إلى بغداد كان السؤال الذي يسألونه: ما هو مذهبك؟ فاتصلت بوالدي، وهو أزهري من تلاميذ الشيخ محمد عبده، فقال: يا بني الناس في منطقتنا شوافعة ونحن أيضا، لكن نأخذ من كل مذهب أحسن ما فيه، والنَّاس في بلاد المغاربة مالكيون (نسبة إلى مذهب الإمام مالك بن أنس)، ولكن هذا الخلاف في الرأي والتفسير يثري الدين ويطوع تطبيق أحكامه على مر الزمان وتغيير المكان.
ودهشت عندما كنت في العراق وحضرت ولائم الإفطار، لأجد البعض يبدأ في الأكل بعد الآذان، وآخرين لا يأكلون إلا بعد عشر دقائق بحجة التمكين. وسنحت لي الفرصة لمقابلة زعماء الشيعة، وكان حديثهم معي كسني ليّنا ومجاملا، ويؤكدون على وحدة
المسلمين.
وفي دراساتي الأكاديمية للشريعة الإسلامية في نواحي العبادات والمعاملات وأصول الدين، وقراءاتي في كتب والدي رحمه الله، وجدت في المذهب الشيعي نواقص وغيبيات لم أفهمها بسهولة، فذهبت إلى الأزهر، حيث شكل لجنة التقريب بين
المذاهب، وخرجت من هذا كله بأن الخلاف عميق بين السنة والشيعة، وأنهم يستندون إلى أصول وأسباب وحزازات وقتية فات أوانها، إلا أن الخلاف استشرى وتوحش بسبب اندساس عناصر تهدف لمحاربة الدين، وجاء الاستعمار فاستغل هذه الفرقة ليقتتل الشيعي مع السني ويصيحا "الله اكبر"، وهو أمر غير مستساغ أيا كان الخلاف، وإلا لاقتتل الحنفي مع المالكي والشافعي. لقد عانى الإسلام من هذا الخلاف الذي أصاب المسلمين بالضعف والفرقة..
أحضر الأمريكان الشيخ الحكيم، الزعيم الشيعي الكبير، من طهران إلى العراق في سيارات عسكرية، ثم ما فتئ بريمر، حاكم العراق المحتل، أن أقام ما يسمى مجلس الحكم وأسسه على أساس المحاصصة، وهو أمر لم يحدث في تاريخ العراق الإسلامي. وأعطى بريمر الأغلبية للشيعة، ثم أجريت أول انتخابات فاز فيها الشيعة بالأغلبية، وحكموا العراق وراحوا يهجرون السكان السنة من ديارهم إلى أماكن أخرى يبدون فيها أقلية.
كل هذا الطرح صحيح، ولكنه عاد على العراق خاصة والإسلام بعامة؛ بالضعف والخضوع لغير المسلمين من أوروبيين وأمريكيين وصهاينة.
هذه الفرقة تواصلت عدة قرون، ثم أشعلها مرة أخرى الخميني في إيران، وسقط حكم السنة في العراق إثر العزو الأمريكي، وأصيب المسلمون بالضعف والوهن بفكر متجمد لوقائع تاريخية قديمة، وكانت النهاية لاستقلال وقوة الدول المسلمة، شيعة وسنة.
وفي الوقت الحاضر يريدون أن يستكملوا مهمتهم بإسلام "متأمرك" و"متفرنس"، ووجدوا غايتهم عندما وافق الحكام العرب على أن الإسلام هو بصورة أو بأخرى مصدر الإرهاب، تأمينا لهم على كراسي الحكم وإجراءات القمع المشددة، وذلك وسط تصريحات واضحة من الرئيس ترامب بأنه يكره المسلمين ويمنعهم من دخول أمريكا. وما زال يُبث فيديو للسيد فلين، مستشار الأمن السابق في إدارة ترامب بأن 1.7 مليار مسلم، شيعة أو سنة أو علويين، سرطان يجب على العالم استئصاله.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل نسلم مصيرنا للصهاينة، الأمر الذي بدأت معه حملة جارفة للتطبيع العربي مع إسرائيل، ولتقاسم ثروات شعوب العرب والمسلمين مع أمريكا وأوروبا وإسرائيل؟
في هذه الملابسات، يصبح تأجيج نار الكراهية بين طوائف المسلمين من قبيل الانتحار والتسليم بالعبودية لأعداء الإسلام؛ الذين راحوا يعدون النظريات والبحوث عن وجود ما أسموه بصراع الحضارات (اقرأ كتب هانتجتون فوكوياما نيكسون وأنصار الكنيسة الإنجليكانية),
والواضح لنا أن مدخل بث الكراهية بين طوائف الشيعة والسنة هو الانتحار بعينه؛ والتضحية بالأرواح والأموال ومبادئ الدين الحنيف.
الوضع الآن يتطلب الوحدة أمام عدو جائر، إلى أن يستعيد الدين مجده، ثم بعد ذلك نستطيع الدخول في مفاوضات جادة وساخنة لتحديد الوفاق في المنتصف (compromise)، يقابل الأطماع الإقليمية ويحشد الاقتسام المنصف لثروتنا وسلاحنا.
وهنا أمسك عن إكمال الحديث لزعماء الطوائف والسياسيين لنتوصل إلى الحلول المناسبة.
شيء أخير ألفت الأنظار إليه، وهو أن الموقف الإيراني هو عدم قبول إسرائيل في المنطقة، وتخوف إسرائيل من إيران. وهناك صورة غريبة، ولكن لها مغزاها، هي أن إسرائيل محاصرة من الشمال بقوة شيعية (مدعومة من إيران) ومن الجنوب الغربي بقوة سنية. ألا يمكننا أن نتوسع في تطبيق هذا النموذج؟
وفقنا الله إلى ما فيه تحقيق اللحمة والوحدة لحل القضية الفلسطينية، والوقوف في وجه الأعداء بدلا من إثارة وتعميق خلافاتنا. ألهمنا الله الحق والصواب.