لم يكن في نيتي الكتابة عن الداعية
المصري ذائع الصيت الشيخ عبد الحميد كشك، فقد كانت هناك مناسبة للكتابة عنه، في ذكرى وفاته، والتي مر عليها شهر بالتمام والكمال، بيد أني أفعل الآن بناء على رغبة الجماهير!
لقد ذكرت الشيخ مؤخراً في واقعة، في معرض الحديث عن الرئيس السادات، عند مقارنته بعبد الفتاح السيسي، في لقاء مع الإعلامي "محمد ناصر" بقناة "مكملين"، وقد أشرت فيه إلى حوار قديم ووحيد أجريته مع الشيخ في منزله في بداية التسعينيات، فوجدت طلباً جماهيرياً واسعاً بالحديث عن قصة هذا الحوار، والبعض طالب بإعادة نشره، لكن ليس في حوزتي الآن نسخة منه، وكثير من المقابلات الصحفية لي؛ لم أحتفظ بها، بل لم أحرص على اقتناء نسخة منها أصلاً، مثل حوار مطول أجريته مع الشيخ صلاح أبو إسماعيل قبل وفاته، ونشرته جريدة "الوطن الكويتية".
لقد حدثتني نفسي بإجراء حوار مع أشهر داعية في الوطن العربي، وصاحب اللون شديد التمييز في
الخطابة، الشيخ عبد الحميد كشك.. كنت في كل مرة أتصل به هاتفياً فيأتيني الرد منه بأنه مسافر حالاً إلى بلدته ليقضي فترة هناك، إذ كان ممنوعاً من الخطابة، ويقضي جل وقته في قريته بمحافظة البحيرة. ولأن اتصالنا به يتم عند جيرانه، فقد كنت أجد حرجاً في تكرار الاتصال به لكي أطمئن على وصوله، لكن مع ذلك، ففي كل مرة كان الشيخ يرد بأنه مسافر إلى "البلد" بعد استدعاء الجيران له!
في المرة الأخيرة قال الشيخ، وكانت روح الفكاهة معروفة عنه بالضرورة: "أنت اتصلت بي كثيراً يا أستاذ سليم"؟!.. رددت عليه: "وفي كل مرة تقول لي إن فضيلتك مسافر للبلد"، فقال ضاحكاً: "أنا عملت معك كالست (يقصد أم كلثوم) لما قالت حيرت قلبي معاك".. ضحكنا وحدد موعداً والتقينا.
في فترة التحولات، ظل الثابت الوحيد عندي من الرموز الدينية هو الشيخ كشك، لم يتغير موقفي تجاهه، هو موقف عاطفي، لرجل كنت في مرحلة الصبا كلما سمعت صوته ولو من بعيد، شعرت بقشعريرة تسري بجسدي. وبالتجربة، يحدث كثيراً ما يخذلني عقلي، لكن نادراً ما تخذلني عاطفتي!
حزنت لأنني لم أنحن وأقبل يده. كنت قد عقدت العزم على هذا، لكن شيئاً من الكبر حال بيني وبين ما قررته، وربما بالإضافة إلى هذا أنني أردت للحوار أن يكون عاصفاً، فقد كانت مقابلاتي الصحفية كلها تبدو أقرب إلى محاكمة للشخصية التي أحاورها، فأقرأ عنها، وأقرأ لها، وفي الغالب فإني متابع جيد للشخصيات التي حاورتها. وكان حواري مع الشيخ كشك بعد فترة ليست طويلة من الإعلان عن عودته لمنبره، ثم التراجع عن ذلك، وقد قلت له: ما هو قولك في ما هو منسوب إليك من أنك تضع العراقيل من أجل عدم عودتك للمنبر، لأنك ارتحت لهذا الوضع، لتظل بعيدا عن الاعتقالات والاستدعاءات الأمنية؟!
كان قد قيل إن الخلاف بينه وبين وزير
الأوقاف؛ لأن الوزير اشترط أن يلتقي به أولاً، في حين أن الشيخ أصر على أن يخطب جمعة أولاً قبل أن يلتقي الوزير، وأعتبرت أن هذا إجراءً شكلياً، لكني وقفت على أهميته بعد ذلك!
بعد الإعلان عن عودته، قال: إن مسؤولاً بوزارة الأوقاف زارني في منزلي، وقال إنه سيطحبني من المنزل في يوم الجمعة، ويصعد بي إلى المنبر من باب إكرام العلماء، لكنه حضر مرة أخرى ليطلب منه عدم الذهاب للمسجد؛ لأن التقارير الأمنية أفادت أن هناك من سيستغلون الحشود للتظاهر ضد النظام!
سأله الشيخ: من أي اتجاه هم؟ يمين أم يسار؟
رد المسؤول: يسار!
واعتبر الشيخ ذلك مبررا لعدم عودته قبل أن يلتقي الوزير أولاً، لكنه قال بأنه لن يفعل إلا بعد أن يعود لمنبره أولاً. ولم ينس أن يصف لي مسؤول وزارة الأوقاف بأنه إذا خطب كان كالأسد الهصور، لكن عند التجربة فليس أكبر من "عبد المأمور"، ينفذ ما يملى عليه. ولم يذكر اسمه، ولم يكن الأمر بالنسبة لي بحاجة إلى التفكير للتوصل إلى أنه الشيخ محمد عبد الواحد أحمد، وكيل وزارة الأوقاف لشؤون المساجد (رحم الله الجميع).
كان الهدف من أن يلتقي الوزير أولاً؛ هو أن يبدو أنه عاد للمنبر بشروط أمليت عليه. وقد عاد الشيخ أحمد المحلاوي بعد خروجه من السجن بعد اغتيال السادات، عقب لقاء نشرت الصحف صوره، وجمع بينه ووزير الأوقاف الأحمدي أبو النور. وبدا الشيخ كشك ليس مرحبا بهذه الطريقة، لكن من الواضح أن من بين المهتمين بمصداقية نظام
مبارك من كانوا يرون أن الاستمرار في منع الشيخ كشك من الخطابة أمر يسيء لنظام هم خدمه. وربما أراد وزير الأوقاف محمد علي محجوب، أن تكون عودة الشيخ عبد الحميد كشك في عهد مبارك، ما يرفع من قدره، وهو الذي كان يأتي بكل علماء الأرض في مؤتمرات تعقد بالقاهرة، ثم يختار وجهاءهم ليلتقوا بالرئيس في القصر الرئاسي، وهو رجل سياسة أكثر منه رجل دين، ومن المحسوبين على المنافقين للسلطة، لكنه مع ذلك كان مشغولاً بسمعة النظام الذي يؤيده!
قال لي الشيخ صلاح أبو إسماعيل إنه عرضت عليه وزارة الأوقاف فرفضها، وقال إن لوزارة الأوقاف إحصائية غريبة، وأخذ يعدد أسماء الوزراء، وفترة شغلهم للمنصب، فأكثرهم مكث فيها سنة، ومنهم من لم يكمل فيها السنة، مثل الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، الذي لم يستمر فيها أكثر من ستة أشهر قبل أن يتولى منصب شيخ الأزهر، بوفاة الشيخ عبد الرحمن بيصار!
وعندما جاء الشيخ صلاح أبو اسماعيل إلى اسم الدكتور محمد علي محجوب، قال: "وأعتقد أنه سيمكث طويلاً". كنا في السنة الأولى له في الوزارة التي استمر فيها قرابة تسع سنوات!
لقد علمت بعد ذلك أن الوزير، رغم قربه من مبارك ونفاقه له، إلا أنه حريص على عودة الشيخ كشك، لكن الأمن هو من كان يضع العراقيل تجاه عودته. ولعل فكرة أن يلتقي الوزير أولاً هي اقتراح أمني، اعتقاداً منهم أن الشيخ كشك سيرفضها، وهو ما حدث فعلاً؟!
عندما سألته إن كان قد ارتاح لهذا الوضع، ليكون بعيداً عن فكرة الاعتقال، قال الشيخ: لقد كنت ملكاً متوجاً على عرش الخطابة، فكيف أضع العراقيل لعودتي.. "خليها حتى من باب الشهرة.. هو حد لاقي شهرة؟!"، أما الاعتقالات فقد جربت أقساها، فقد اعتقلت مرتين، الأولى في عهد عبد الناصر والثانية في سنة 1981. ويكفي أنني رجل ضرير، مما يجعل من السجن أكثر قسوة بالنسبة لي، ومع ذلك، لم يمنعني هذا من التوقف عن
الدعوة.
كان الشيخ كشك في بداية الحوار، يجمع بين الحديث بالعامية والفصحى، قبل أن ينتبه إلى أن الحوار مسجلاً، فاصطحبنا إلى حجرة أخرى من شقته المتواضعة، ليكون حديثه كله بالفصحى وأقرب إلى طريقته في الخطابة.. تذكرت ساعتها ما كان يتردد في الريف المصري؛ من أن عملية جراحية أجريت للشيخ كشك، ونزعوا عرقاً في حنجرته مسؤولا عن هذا الصوت المميز في الخطابة!
هكذا الناس "الطيبين" إذا أحبوا، فإنهم يحيطون من أحبوا بأساطير غير واقعية، ومن بين هذه الأساطير أن الشيخ كانوا عندما يعتقلونه يسأل: أين الزنزانة رقم واحد؟.. فمثله لا يمكن أن يرضى بديلاً عن الزنزانة الأكثر قسوة، والتي هي الزنزانة رقم واحد. وكيف أنهم كانوا يعتقلونه، وفي يوم الجمعة تكون المفاجأة للأمن بأنه يخطب الجمعة في مسجده!
وهم ذاتهم الذين نسجوا الأساطير حول المنشد الصوفي الشيخ "ياسين التهامي"، وكان لديهم تصالح، وليس تصادما في النظر إلى الشيخين، وكليهما ينتميان إلى مدرسة مختلفة، وعندما قيل أن الشيخ كشك هاجم الشيخ ياسين، كان لا بد للوجدان المتصالح أن يتدخل.. ذهب إليه الشيخ ياسين وقال له إنه لم يقصد الإساءة إلى الذات الإلهية عندما أنشد "رأيت ربي بعين قلبي فقلت حقاً لا شك أنت"، وهي قصيدة للحلاج، والشيخ ياسين مؤد لها، وقد تفوق بالأداء على كل من غنوها بعده، بمن فيهم كاظم الساظر!
الواقعة كلها لم تحدث، لكن لا بد لوجدان البسطاء أن يجمع حتى بين من لا يجتمعا إلا في هذا الوجدان، حيث تحل المشكلات ببساطة، حيث الشيخ ياسين تقديراً للشيخ كشك، وكشف فيها الشيخ كشك اعتزازاً بتوضيح الشيخ ياسين في توضيحه لما ردده. والبسطاء يعرفون الشيخ ياسين ولا يعرفون الحلاج، وربما لا يلزمهم في شيء، ويعرفون أيضاً الشيخ كشك، وهم صوفية في مجملهم، والشيخ ليس من دعاة التصوف!
فالوجدان الشعبي، الذي ينسج الأساطير حول من يعتز بهم، هو ذاته الذي يروي قصصاً تبدو متماسكة، ولتماسكها تبدو صحيحة. ومؤخراً انتشرت حكاية منسوبة للشيخ كشك؛ من أن الناس تظاهروا أمام مسجده لعودته لمسجده، فلما جاء من ينادي على بيض ليبيعه بسعر أرخص من سعره الحقيقي، تركوا المظاهرات وهرولوا إلى عربة البيض!
عندما قال وكيل وزارة الأوقاف للشيخ كشك أنهم رصدوا أن هناك من سيستغل عودته واستغلال الحشود للفتنة والتظاهر ضد السلطة.. قال الشيخ إن مسجده لم يشهد سوى مظاهرة واحدة، وكانت بعد اعتقاله، تطالب بالإفراج عنه!
وهي مظاهرة كانت في أول جمعة بعد اعتقاله في أيلول/ سبتمبر 1981، وكنت قد استمعت قصتها من أحد المشاركين فيها، وهو الاستاذ يوسف صقر المحامي، وقد روى أن أجهزة الأمن ضربتهم بالقنابل المسيلة للدموع، وهتف أحد الضباط بأن من وصفهم بـ"أولاد الكلب" طلبوا منا أن نضربكم في المليان، وطلب من المتظاهرين ألا يحملوهم من أمرهم رهقاً، عندما يجدون أنفسهم مضطرين لتنفيذ الأوامر!
فلم تكن هناك مظاهرة تطالب بعودة الشيخ تم فضها بعربة البيض رخيص الثمن، ولم تخرج مظاهرة أخرى من مسجد الملك سابقاً ("عين الحياة" حالياً)، بعد هذه المظاهرة التي تم فضها بالقنابل المسيلة للدموع!
إن الكتابة عن الشيخ كشك مغرية، لكني لست ميالاً للمقالات المسلسلة، وقد أنزل على رغبة القراء لو أرادوا مواصلة الكتابة عنه.